• ١٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

المرابطة في المفهوم الإسلامي

زهير الأعرجي

المرابطة في المفهوم الإسلامي
  ◄يطلق على الارتباط بين قوى الجماعة من ناحية الأفعال والنشاطات الاجتماعية المختلفة بـ"المرابطة". فالمرابطة إذن هي النشاط الإنساني الاجتماعي الذي يؤدِّي إلى تماسك المجتمع، وترابط أجزائه وأفراده ترابطاً محكماً.. وقد عبَّر القرآن الكريم عن هذا المعنى بالآية الكريمة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (آل عمران/ 200).

فالإنسان خُلِق على فطرة الاجتماع والتجمع، وأبسط اجتماع عرفه الإنسان هو الاجتماع العائلي بدافع الغريزة الجنسية.. وقد أكّد القرآن الكريم على وجود مفهوم الترابط الاجتماعي عبر آيات عديدة.. مثل قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا...) (الحجرات/ 13)، وقوله تعالى: (نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا) (الزخرف/ 32)، وقوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا) (الفرقان/ 54).

ويبدو أنّ البشرية في بداية حياتها على الأرض، كانت أمة ساذجة لا تعرف الاختلاف والمنازعات.. وعندما تطورت ذهنيّتها وأساليب معيشتها وحياتها، دبَّ الاختلاف بينها حول أمور التوحيد وحقائق الوجود وغيرها من الأمور، فبعث الله الأنبياء والرسل (ع)، ومعهم المنهج الإلهي لرفع الإشكالات الواردة بين الناس، وتوحيد الناس تحت راية العبودية لله وحده.. وإلى هذا يشير قوله تعالى: (وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا) (يونس/ 19)، وقوله تعالى: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) (البقرة/ 213)، وقوله تعالى: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) (الشورى/ 13).

وقد دعا الإسلام إلى ضرورة تماسك المجتمع، عبر الاعتناء بأمر الاجتماع، والاعتصام بالقرآن الكريم، باعتباره مناراً ووسيلةً لالتفات الناس عليه، فيجتمع الناس على أمر العبودية لله.. يقول تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا) (آل عمران/ 103)، ويقول أيضاً: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (آل عمران/ 104-105)، ويقول أيضاً: (أَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ) (الأنعام/ 153)، ويقول تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) (الأنعام/ 159، ويقول: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) (الحجرات/ 10)، ويقول: (وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) (الأنفال/ 46)، ويقول تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ وَالْعُدْوَانِ) (المائدة/ 2).

وكلّ هذه الآيات تدلُ على أنّ الإسلام يدعو إلى تآخي المؤمنين بشكل يحفظ وحدة المجتمع الإسلامي، ويصونه من التمزق والانقسام.. ويسمي القرآن الكريم مجموعة الأفراد الذين تربطهم الرابطة الحقيقية في المجتمع "بالأمة"، وجعل القرآن للأمّة وجوداً وأجلاً وكتاباً وشعوراً وفهماً وعملاً وطاعةً ومعصيةً.. يقول تعالى: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) (الأعراف/ 34)، ويقول: (كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا) (الجاثية/ 28)، ويقول: (كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (الأنعام/ 108)، ويقول: (مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ) (المائدة/ 66)، ويقول: (أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ) (آل عمران/ 113)، ويقول: (وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ) (غافر/ 5)، ويقول تعالى: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) (يونس/ 47).

وقد سعى الإسلام في سبيل تحقيق الأُمّة الواحدة بإجراء عدة خطوات، فشرّع الحج، واعتبره واجباً عند الاستطاعة، واعتبره مؤتمراً إسلامياً سنوياً لائتلاف القلوب وعبادة الله سبحانه، وأكّد على ضرورة تأدية الصلاة الواجبة جماعة والمستحبة فرادى، وكذلك أكّد على ضرورة تأدية واجب الجهاد، وهو غالباً ما يكون مع الجماعة، إضافة إلى دعوته إلى تكوين الأُمّة التي تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر.. وكلّ هذه الخطوات العملية مظهر من مظاهر مبدأ الإسلام في تشكيل الأُمّة الواحدة المتآخية المتوجهة أبداً إلى الله سبحانه وتعالى..

ويستند تحقيق تماسك المجتمع الإسلامي على حقيقتين مهمتين.. الأولى، حقيقة كون الرسالة الإسلامية، رسالة حقّ جديرة بالاتباع.. يقول تعالى: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ) (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ) (التوبة/ 33)، ويقول: (وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ) (غافر/ 20)، ويقول: (لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ) (الزخرف/ 78). ويقول: (بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ * وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ) (المؤمنون/ 70-71). فهذا التأكيد على أنّها رسالة حقّ يستدعي الاستجابة لهذه الرسالة، والإيمان بها، وتطبيقها..

الحقيقة الثانية.. إنّ الإسلام يرى أنّ الحياة الإنسانية أوسع من الحياة الدنيوية، فالدنيا جزء من حياة متصلة وهي الحياة الآخرة.. بل إنّ الدنيا حياةٌ فانية والآخرة حياةٌ باقية، فالإنسان المؤمن يرى أنّ الحياة الدنيا محطة توقف وعمل، فعليه قبل أن يغادرها أن يحيا حياة اجتماعية صالحة مستندة على عبادة الله سبحانه وتعالى، ومعتمدة على تعامل أخلاقي رفيع مع الناس.. وهذا عامل مهم من عوامل إشاعة مفهوم الأخوة بين أفراد المجتمع الإسلامي...

وهناك نقطة مهمة، تلفت نظر الإنسان، وهو يرى أنّ الآيات القرآنية المتضمنة إقامة العبادات والقيام بالجهاد وإجراء الحدود والقصاص توجه خطاباتها إلى عموم المؤمنين، ولا تخص النبيّ (ص) وحده، فيستفاد منها أنّ الدين صبغة اجتماعية موجّهة لعموم الأُمّة.. كما في الآيات الكريمة التالية.. قوله: (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ...) (النساء/ 77)، وقوله: (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) (البقرة/ 195)، وقوله: (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ) (الحج/ 78)، وقوله: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) (المائدة/ 38)، وغيرها من الآيات الكريمة التي توجِّه الأُمّة إلى تطبيق الشريعة وعبادة الله..

وهكذا لاحظنا تأكيد الشريعة الإسلامية على ضرورة بناء المجتمع الواحد والأُمّة الواحدة، بناءً منسجماً مع الفطرة البشرية، فالإسلام لم يتوجه للفرد وحده فحسب ليربيه التربية الصالحة السليمة، وإنّما توجّه أيضاً إلى الأُمّة، بعد أن زرع في نفس الفرد المسلم كلّ معاني التضحية والإيثار وحب الغير والأخوّة، توجّه إلى الأُمّة ليجعلها تدرك أنّ هذا الدين جاء لينظِّم حياتها الاجتماعية والسياسية.. وليجعلها تدرك أنّ البشرية سوف لن يُقرّ لها قرار، وسوف لن تستقر، وسوف لن تندمل جراحاتها، وتهدأ ثورتها إلّا باعتناق هذا الدين، وتطبيقه تطبيقاً عملياً دقيقاً، ليجعلها أمّة واحدة تعيش متآخية متآزرة متحابّة على هذه الأرض الواسعة.►

 

المصدر: كتاب الأخلاق القرآنية/ ج1

ارسال التعليق

Top