• ٢٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

المسلم.. بين إبداء أعماله وإخفائها

عباد الرحمن

المسلم.. بين إبداء أعماله وإخفائها

◄يمرُّ المسلم بمراحل متعدِّدة في حياته. تارةً يعيشُ ساعات صفاء نفس وحضور عقلٍ وقلبٍ، فتميل نفسه إلى الطاعة، وإلى أداء ما افترضه الله عليه، فيكثر من الطاعات، ويتقرب إلى الله بالنوافل طمعاً في محبة الله. وكلما ازداد المسلمُ المؤمنُ في طاعة ربِّه، تيقَّظ فؤادُهُ إلى مقامٍ أرفعَ ممّا بلغَ، وإلى مرتبةٍ وراء ما ارتقى، وتطلَّعَ إلى المقام الذي يصحو فيه قلبُهُ فلا ينام.

وتارةً يمرُّ المسلم بساعاتِ ابتلاءٍ وامتحان، فتميلُ نفْسُهُ إلى ما يشتهي، ويضعُفُ أمام الابتلاء. وقد تتحكُّمُ فيه الأهواءُ، فيتعرَّضُ لارتكاب الذنوب والآثام.

والمؤمن يجتهدُ عند أدائه الطاعة أن يخفيها عن أعيُنِ الخلق وآذانهم ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، مكتفياً بالاعتقاد بأنّ الله سبحانه وتعالى يسمعُ ويرى، وأنّ الخلقَ لا يملكون له ضرّاً ولا نفعاً، وأنّ رضوان الله تعالى ومثوبَتَهُ فوق رضا الخلق وثنائهم، هذا بالنسبة للنوافل والتطوُّعات.

أما أداءُ الفرائضِ والأركانِ فهذه يتمُّ إظهارها تعظيماً لشعائر الإسلام، وإبرازاً لقوّة تمسُّك المسلمين بها، ومنعاً للتُّهمَةِ وإساءة الظنِّ بالمسلم أن يُظَنّ به تضييعُ ما فرض الله عليه، وحتى يكون المسلمُ مثلاً يُقتدى ويتشبَّه به الآخرون؛ فإنّ الخير يُغري بالخير، والصلاح يدعو إلى الصلاح. ومع هذا يمكن أن تظهر نوافل الطاعات والاعمال الصالحة من المسلم من غير قصدٍ لإظهارها مُراءاةً للناس. فرحُ المسلم بأدائه للطاعات فرحٌ محمودٌ إذا كان شكراً لله تعالى على نعمة التوفيق للطاعة. قال تعالى: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) (يونس/ 58).

وقد يكون فرح المؤمن بأظهار طاعته حافزاً لغيره ليُقتدى به؛ فيكثُرُ الصالحون، ويزداد عددُ المُطيعين لله تعالى.

وقد يكون إظهار الطاعة سبباً لمحبّة الناس له، والرّضى عنه، والثناء عليه.

قال (ص): "ثلاثٌ مَن كُنَّ فيه وجد بهِنَّ حلاوة الإيمان، مَن كان الله رسوله أحبَّ إليه ممّا سواهُما، وأن يُحِبَّ المرءَ لا يُحِبُّهُ إلا لله، وأن يكرهَ أن يعودَ في الكُفر أن أنقذه الله منه كما يكرهُ أن يُقْذَفَ في النار" (43 مسلم، 1/66).

ومما يُحمَدُ لأجله إظهار العمل الصالح ترغيبُ الآخرين فيه، وسَنُّ السُّنَّة الحسنة ليُقْتدى بها.

عن جرير بن عبدالله: "مَن سَنَّ في الإسلام سُنّة حسنةً، فعُمِلَ بها بعدَهُ، كُتِبَ له مثل أجرِ مَن عمِلَ بها، ولا ينقصُ من أجورهم شيءٌ. ومَن سَنَّ في الإسلام سُنّةً سيِّئة، فعُمِل بها بعدهُ كُتِبَ عليه مِثْلُ وِزْرِ مَن عَمِلَ بها، ولا ينقُصُ من أوزارهم شيءٌ" (1017 مسلم، 4/2059).

وقد أُمِرَ الأنبياء بإظهار الطاعات لأنّ الله تعالى جعلهم أُسوةً لأتباعهم كما قال تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) (الأحزاب/ 21).

ومثْلُ الأنبياء خُلفاؤهم، ووَرَثتُهُم من العلماء والدعاة حيث يُقتدى بهم.

فإذا أسَرَّ المسلم طاعته فإن ذلك خيرٌ، والسميعُ البصير يسمعُ، ويرى، ويُثيبُ على عَمَلِ السرِّ. وإذا كان عملُهُ في العَلَن لا يقصدُ منه إلا وجه الله تعالى وإبداءُ المَثَلِ الصالح للناس ليقتَدوا به، كان عملُهُ خيراً أيضاً.

لذلك أثنى الله سبحانه وتعالى على عَمَل السرِّ والعلانية بقوله تعالى: (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) (البقرة/ 271).

وقال تعالى: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (البقرة/ 274).

وبهذا يكون المؤمن قد عَبَدَ الله في كلِّ الأوقات، وعلى كلِّ الأحوال، وإن كان الإسرارُ بالصدقة أفضل، وخصوصاً إذا خَشِيَ على نفسه الرياء والفتنة من حمد الناسِ له. ففي الإسرارِ رعايةٌ لحُرمةِ الفقير، وحِفْظٌ لكرامته لا سيّما إن كان من المَستورين المُتَعفِّفين الذين وصفهم القرآن الكريم بقوله: (يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا) (البقرة/ 273).

وفي حديث أبي هريرة (رض) قال (ص): "سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ الله في ظلِّهِ يوم لا ظِلَّ إلا ظِلُّهُ: .. ورجُلٌ تصدَّقَ بصدقةٍ فأخْفاها حتى لا تعلم يمينُهُ ما تُنفِقُ شمالهُ" (1031 مسلم، 2/715)؛ وهذا هو المُقام الأعلى. ولكن إذا أبدى الصدقة أو أظهرَ العلمَ الصالح لسببٍ من الأسباب التي ذُكِرَت فلا حَرَجَ عليه، فالمُسلم يفتش عن دخيلةِ نفسه ويحترسُ من خداعها، فإنها أمَّارةٌ بالسوء، وليَحذَر ما استطاعَ من الرياء. فربّما كان هناك رياءٌ في غاية الخَفاء، يتسلَّل إليه وهو لا يشعرُ فيُحبِطُ عملَهُ وهو يَحسَبُ أنّه يُحسُن صُنعاً. وهنا لابدّ له من الاستعانة بالله عزّ وجلّ والبراءة من الحَوْل والقوة، واللجوء إلى حَوْلِ الله وقوته، ومن الدعاء المأثور:

"اللهّمَّ إنّا نعوذُ من أن نُشْرِكَ بكَ شيئاً نَعْلَمُهُ، ونستغفركَ لما لا نَعْلمُ" (19553 مسند أحمد، 4/543).

وإذا كان الشرعُ قد رخَّصَ في إظهارِ الطاعاتِ، وخصوصاً الفرائض، بل والنوافل في بعضِ الأحيان، فإنّه لم يرخِّص في إظهار المعاصي والإعلان عنها. بل أمَرَ بإخفائها إن وَقَعَتْ، وكتماتها عن الغَيْرِ ما استطاع المسلم إلى ذلك سبيلاً. لأنّه يُحمَدُ كتمانُ الذنوب، ويكرهُ إطلاعُ الناس على العيوب لعدّة أسباب منها أننا مأمورون بأننا إذا ابْتُلينا بمعاصي الله أن نَستَتِرَ بستْرِهِ سبحاه ولا نفضَحُ أنفسنا. قال (ص): "اجتَنِبوا هذه القاذورة التي نهى عنها فمن ألمَّ[1] فليَسْتَتِر بسِتْرِ الله" (المستدرك، 4/244).

والمسلم يكره ظُهورَ المعصية مِن غيره كما يكرهها من نفسه. قال (ص): "لا يُؤمن أحدُكُم حتى يُحِبَّ لأخيه ما يُحبُّ لنفسه" (2515 سن الترمذي، 4/667)، ومفهومه أن يكره له ما يَكرهُ لنفسه.

والمسلم لا يهتكُ سِتْرَ نفسه خوفاً من أن تألفَ نفسه الذنوب، فتسترسل بارتكابها، ولا تُبالِ باجتنابها.. هذا الخوف من هَتْكِ السِّتْرِ في الدنيا يتبعه خوفٌ من الهتك في الآخرة وهو أشدُّ وأخزى. وقد كان دعاء الصالحين: "اللّهمَّ، كما سَتَرْتَ علينا في الدنيا، أستُرْ علينا في الآخرة ولا تَفضَحُنا على رؤوسِ الأشهادِ يومَ العرضِ عليك".

والمسلم يرغب أن يكون قدوةً في الخير لا في معاصي الله. فإذا أظهرَ المعاصي فقد يكون سبباً في انتشارها وتجرّؤ الناس عليها. فحَسْبُه أن يتورَّط في المعصية، على أمل التوبة منها، ويسألَ الله التوبة والمغفرة. أما إذا أظهَرَها فقد تَشيعُ وتتَّسعُ، فيُشَكِّلُ ذلك تعدِّياً، وقد يسبِّب عدوى لغيره كما يُعدي الأجربُ السليمَ. لهذا ينبغي للعاصي أن يُخفي معصيته حتى على أقرب الناس إليه مثل أهله وولده وخادمه حتى لا يتأسَّوا به.

والمسلم يأملُ في كل لحظةٍ بالتوبة ويعمل لها، فيكون في مظنَّة العفوَ والمعافاة من الله تعالى، ولا يدخل في زمرة المُتبجِّحين المجاهرين بالسوء المُتفاجخرين بما ارتكبوا مِن موبقات.

قال (ص): "كل أمّتي معافىً إلا المُجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملاً ثم يصبح وقد سترهُ الله، فيقول: يا فلان، عملتَ البارحة كذا وكذا، وقد باتَ يَستُره ربُّه ويُصبحُ يكشِفُ ستر الله عنه" (6069 فتح الباري، 10/486).

والمسلمُ حين يستتِرُ عند المعصية يدخلُ في زمرةِ المشهود لهم من الأُمّة بالخير والناس شهداء الله في الأرض. وقد مرت جنازةٌ فأثنى الصحابة عليها خيراً. فقال نبي الله (ص): "وَجَبَتْ وَجَبَتْ وَجَبَتْ"، ومُرَّ بجنازةٍ فأثنِيَ عليها شرّاً. فقال نبي الله (ص): "وجَبَتْ وجبت وجبت". قال عُمَرُ: فِدَى لك أبي وأمي! مُرَّ بجنازٍ فأثني عليها خيراً فقلت: وجبت وجبت وجبت. ومُرّ بجنازةٍ فأثني عليها شراً فقلت: وجبت وجبت وجبت؟ فقال رسول الله (ص): "من أثنيتُمْ عليهِ خيراً وجبت له الجنَّة. ومَن أثنيتم عليه شراً وجبت له النار. أنتم شهداءُ الله في الأرض. أنتُم شهداء الله في الأرض. أنتُم شهداء الله في الأرض" (949 مسلم، 2/655).

قال (ص): ما مِن مسلمٍ يموتُ فيشْهَدُ له أربعةٌ من أهل أبيات جيرانِهِ الادْنين إنهم لا يعلمون منه إلا خيراً إلا قال الله تعالى وتبارك: "قد قَبِلْتُ قولَكُم"، أو قالَ: "شهادتُكُم، وغفرتُ له ما لا تعلمون" (المستدرك، 1/378).

والمسلم حين يبتعدُ عن المعاصي أو يحرصُ على الاستِتار منها يصبح محبوباً من الناس، وخاصةً أهل الخير منهم. ومحبةُ أهل الخير بابٌ من أبوابِ محبة الله سبحانه وتعالى؛ فالله هو الذي سَتَرَ قَبيحَهُ وأظهر جميلَهُ. قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا) (مريم/ 96). فإنّ مَن أحبَّهُ الله تعالى جعلَهُ محبوباً في قلوبِ عباده.

قال (ص): "إنّ الله، إذا أحَبَّ عبْداً، دَعا جِبريلَ، فقال: إنِّي أحبُّ فُلاناً فأحِبَّهُ. قال: فيُحِبُّه جبريلُ. ثُمَّ بنادي في السماء فيقول: إنّ الله يُحبُّ فُلاناً فَأحِبُّوه. فيُحِبُّهُ أهلُ السَّماء. قالَ، ثُمَّ يُوضَعُ له القبول في الأرض" (2637 مسلم، 4/2030).

اللّهمّ احفَظْنا بحفظِكَ الجميل، واستُرْنا بسِتْرِكَ، وعامِلْنا بعَفْوِك وفَضلِكَ، واقبلنا في عبادِكَ الصالحين.►

 
[1]- أي أصاب شيئاً منها.  

ارسال التعليق

Top