• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

المشاورة وتأثيرها الاجتماعي

زهير الأعرجي

المشاورة وتأثيرها الاجتماعي

◄يؤكِّد علماء الاجتماع على أنّ التشاور، صيغة مفيدة وقد تكون ضرورية، في التعامل الاجتماعي والتجاري، فالمستشار هو الشخص الذي يعطي النصيحة المفيدة في مجال تخصصه.. وغالباً ما ترجع الناس في الاستشارة إلى ذوي الخبرة والمعرفة. وقد أولت الأُمم المتقدمة عناية خاصة للمستشارين Consultants، فأصبح لكل حقل من الحقول العلمية والاجتماعية عددٌ من المستشارين، يستفيدُ المجتمع من خبراتهم.

ولم يغب عن الإسلام، وهو الدين الذي نزل في المجتمع البدوي البعيد نسبياً عن الحضارة، منذ أربعة عشر قرناً، أهمية المشاورة وتأثيرها في العلاقات الاجتماعية والإنسانية.. ولم يهدف الإسلام من حثّه على التشاور إلى تبادل النصائح والخبرات بين الناس فحسب، بل وأراد من ذلك أيضاً تقوية العلاقات الاجتماعية وتوثيقها بين الناس.. وأراد الله سبحانه من المؤمنين، وهم أهل الرشد وإصابة الواقع، أن يمعنوا باستخراج الرأي الصحيح، بمراجعة العقول، كما روي عن رسول الله (ص) أنّه قال: "ما من رجل يشاور أحداً إلّا هدي إلى الرشد".

وقد ذكر القرآن الكريم، في أحد موارد وصفه للمؤمنين، بأن أمرهم شورى بينهم، أي أنّهم يستخرجون الرأي بمراجعة بعضهم البعض، فالأمر الذي يعزمون على تحقيقه، هو شورى بينهم يتشاورون فيه، فيخرجون بالرأي الصواب.. وقد أُخِذتْ المشاورة من قول العرب: شرت العسل، أي إذا أخذته من موضعه، وفصلتَ عنه الشمع، فإنك استخرجت العسل صافياً، أي شرت العسل، وكذلك الرأي المستخرج بعد المشاورة، فإنّ صواب الرأي بعد المشاورة من مجموعة الآراء المختلفة، كنقاوة العسل من المواد الأخرى العالقة فيه.. يقول تعالى: (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ * وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ) (الشورى/ 37-39).

وكذلك يقول تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (آل عمران/ 159)، وهي إشارة إلى ما حصل بعد غزوة أُحُد من تأسف بعض الأنصار تحزّنهم على قتلاهم، وسوء ظنهم برسول الله (ص)، فبيَّن الله سبحانه وتعالى أنّ الرسول (ص)، شريف النفس، رحيم القلب، ذو خلق عظيم، وهو يعفو عنهم، ويستغفر لهم، ويشاورهم في الأمر، بأمر منه تعالى، "وقد سبق قوله تعالى: (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ)، ليكون إمضاءاً لسيرته (ص)، فإنّه كذلك كان يفعل، وقد شاورهم في أمر القتال قبيل يوم أُحُد، وفيه إشعار بأنّه إنّما يفعل ما يؤمر، والله سبحانه عن فعله راضٍ".

وقد ذكر القرآن الكريم، المشاورة، في موضع آخر، وهو موضع تشريع الحقوق المجعولة للزوجة، فأكّد أنّ الحضانة والرضاع ليس واجباً عليها، بل إنّ من حقها أن تتركه.. وعلى الزوج والزوجة أن يتراضيا بالتشاور على فصال الطفل، ومن حق الزوج أن يسترضع لطفله امرأة أخرى غير الأم، إذا امتنعت الأُم عن رضاعة ولدها لأي سبب من الأسباب، بضمنها الأسباب المرضية.. بقول تعالى: (.. فَإِنْ أَرَادَا فِصَالا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا...) (البقرة/ 233).

وقد ورد في المأثور، الكثير من الأحاديث التي تحثُّ على مشاورة العاقل المتَّقي.. أي الإنسان المفكر الذي يسعى لإصلاح الأُمّة، ابتغاء وجه الله، وضرورة الاستماع إليه، والأخذ برأيه، ولعلَّ هذا المعنى قريب من قوله تعالى: (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) (الزّمر/ 18). يقول الإمام الصادق (ع):

"لن يهلك امرؤ عن مشورة"

"ما يمنع أحدكم إذا ورد عليه ما لا قبل له به أن يستشير رجلاً عاقلاً له دين وورع".

"إنّ المشورة لا تكون إلا بحدودها فمن عرفها بحدودها وإلّا كانت مضرّتها على المستشير أكثر من منفعتها، فأولها أن يكون الذي تشاوره عاقلاً، والثانية أن يكون حراً متديناً، والثالثة أن يكون صديقاً مؤاخياً، والرابعة تطلعه على سِرِّك فيكون علمه به كعلمك بنفسك، ثمّ يسرُّ لك ويكتمه، فإنه إذا كان عاقلاً انتفعتَ بمشورته، وإذا كان حُراً متديّناً أجهد في النصيحة لك، وإذا كان صديقاً مؤاخياً كتم سرّك إذا أطلعته عليه، وإذا أطلعته على سرّك فكان علمه به كعلمك به، تمت المشورة، وكملت النصيحة".

"استشر العاقل من الرجال الورع، فإنّه لا يأمر إلا بخير وإيّاك والخلاف فإنّ مخالفة الوَرع العاقل مفسدة في الدين والدنيا".

"شاور في أمورك ممّا يقتضي الدين من فيه خمس خصال: عقل وعلم وتجربة ونصح وتقوى، وإن تجد فاستعمل الخمسة واعزم وتوكل على الله تعالى، فإن ذلك يؤدِّيك إلى الصواب، وما كان من أمور الدنيا التي هي غير عائدة إلى الدين فاقضها ولا تتفكر فيها، فإنّك إذا فعلت ذلك أصبتَ بركة العيش وحلاوة الطاعة، وفي المشاورة اكتساب العلم، والعاقل من يستفيد منها علماً جديداً ويستدلُّ به على المحصول من المراد، ومَثل المشورة مع أهلها مثل التفكّر في خلق السماوات والأرض وفنائهما وهما غيبان لأنّه كلَّما قوَّى تفكُّره فيهما غاص في بحار نور المعرفة وازداد بهما اعتباراً ويقيناً، ولا تشاور من لا يصدّقه عقلك، وإن كان مشهوراً بالعقل والورع، وإذا شاورت من يصدِّقه قلبك، فلا تخالفه فيما يشير به عليك، وإنْ كان بخلاف مرادك، فإنّ النفس تجمح عن قبول الحق وخلافها عند قبول الحقائق أبين.

قال الله تعالى: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ)، وقال تعالى: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) (الشورى/ 38)، أي متشاورون فيه".►

 

المصدر: كتاب الأخلاق القُرآنية

تعليقات

  • 2020-10-23

    علي

    السلام عليكم شكراَ جزيلاَ على كل ما تقدمونه من مواضيع قيمة.

ارسال التعليق

Top