أسرة
من المباحث الأساسية في فهم القرآن الكريم وتفسيره، هو مبحث (المشترك اللّفظي)..
والمشترك في اللّغة، كما عرّفه ابن فارس بقوله هو: "أن تكون اللّفظة محتملة لمعنيين أو أكثر"[1].
وعرّفه السّيوطي بقوله: "اللّفظ الواحد الدّالّ على معنيين فأكثر، دلالة على السّواء عند أهل تلك اللّغة"[2].
وعرّفه الشهيد الفقيه السيِّد محمدباقر الصدر بقوله: "لاشكّ في وجود إمكان الإشتراك، وهو وجود معنيين للفظ واحد"[3].
وقال الطّبرسي المفسِّر اللغوي الكبير في تفسيره مجمع البيان: "وإن كان اللّفظ مشتركاً بين معنيين أو أكثر...".
وأمثلة المشترك في لغة العرب كثيرة، استعمل القرآن الكلمة الواحدة منها في معانٍ عديدة، مثل: الدِّين، الأُمّة، الرّبّ، الإمام، القُرء، الرّوح... إلخ، ولنشرح بعضاً منها للبيان:
فكلمة (دين): استعملها القرآن إسماً للرِّسالات الإلهية، كقوله تعالى: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (آل عمران/ 85).
كما استعملها إسماً لما يتعبّد به المشركون والكافرون: (لكُم دينكُم وَليَ دِين).
واستعملها بمعنى الجزاء.. قال تعالى: (مالكِ يومِ الدِّين).
واستعملها بمعنى الطّاعة، كقوله تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ) (النساء/ 125).
واستعمل كلمة (الأُمّة) بمعانٍ عديدة: استعملها بمعنى الجماعة، قال تعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) (آل عمران/ 104).
واستعملها بمعنى (المدّة من الزمن)، فقال تعالى: (وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ) (يوسف/ 45).. أي بعد حينٍ من الزمن.
واستعملها بمعنى الدِّين.. فقال تعالى: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ) (الزخرف/ 22).. أي وجدنا آباءنا على دينٍ فاتّبعنا دينهم..
واستعمل كلمة (إمام)، بمعنى المقتدى به الذي يتبعه النّاس ويقودهم، فقال تعالى لإبراهيم (ع): (إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (البقرة/ 124).
واستعملها بمعنى الكتاب، لأنّه يرجع إليه ويُقتدى به، فقال تعالى: (وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ) (يس/ 12)، أي في كتابٍ مبين..
ومن الأسباب الأساسية في الاختلاف في التّفسير واستنباط الأحكام هو المشترك اللّفظي.. مثال ذلك هو الاختلاف في تفسير كلمة: (القُرْء).. قال الراغب الأصفهاني في معجم مفردات ألفاظ القرآن: (القُرءُ في الحقيقة إسم للدخول في الحيض عن طُهْرٍ، ولما كان إسماً جامعاً للأمرين: الطُّهْر والحَيْض المتعقِّب به، أطلق على كلِّ واحد منهما، لأنّ كلّ إسم موضوع لمعنين معاً يُطلق على كلِّ واحدٍ منهما إذا انفرد". واستعمل القرآن الكريم كلمة (قُرء) في قوله تعالى: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ...) (البقرة/ 228).
وإذن، فكلمة (قُرْء) اسم مشترك بين الحيض والطُّهر من الحيض.
وبما أنّ هذه الآية تشريعيّة، تتعلق بالطّلاق والعدّة والنّفقة إلخ، ترتّب على الاختلاف في فهم المقصود من هذا المشترك اللّفظي (القُرء)، أحكام تتعلّق بالطّلاق والعدّة وما يرتبط به.
ومن المفيد أن ننقل تفسيراً يوضِّح اختلاف الآراء في فهم كلمة (قُرء) الواردة في هذه الآية، وما يترتّب على هذا الاختلاف لتكون مثالاً للمشترك اللّفظي.
قال المفسِّر الكبير الطّبرسي في تفسيره مجمع البيان: "والمُراد بالقروء: الأطهار، عندنا، وبه قال زيد بن ثابت وعائشة وابن عمر ومالك والشّافعي وأهل المدينة...".
ويذهب أبو حنيفة وغيرهم إلى أنّ المقصود هو (الحيض).
كيف نميِّز بين المشتركات اللّفظية؟
وإذاً، لكي يتّضح المعنى المُراد للآية، يجب أن نفهم معنى الكلمة المفردة المستعملة في هذه الآية.. وعندما تكون هذه الكلمة من المشترك اللّفظي، أي لها أكثر من معنى في لغة العرب، وجبَ أن يكون لدينا قواعد وضوابط للتمييز بين المعاني؛ لنعرف المعنى المقصود من بين معاني الكلمة المتعدِّدة..
ولذلك اهتمّ علماء أصول الفقه بدراسة المشترك اللّفظي وعلماء التّفسير، ووضعوا الأسس والقواعد والضّوابط التي نعتمدها في معرفة المعنى المُراد منها دون غيره من المعاني..
ويذهب علماء أصول الفقه إلى أنّ اللّفظ المشترك حينما يرد في الكلام يُعتبر من المجملات التي لا يرجح فيها معنى على معنى آخر إلا إذا وجدت القرينة التي توضِّح لنا أنّ المتكلم أراد هذا المعنى ولم يُرِد غيره من المعاني المشتركة، فنميِّزها إذا بالقرينة اللّفظية أو الحالية، أما إذا لم توجد هذه القرينة فيبقى اللفظ مجملاً غير محدّد بمعنى خاص من بين معانيه الأخرى.
أوضح الفقيه الأصولي المُجدِّد الشيخ محمدرضا المظفّر ذلك في كتابه أصول الفقه ما نصّه: "ولا شكّ في جواز استعمال اللّفظ المشترك في أحد معانيه بمعونة القرينة المعيّنة، وعلى تقدير عدم القرينة يكون اللّفظ مجملاً، لا دلالة على أحد معانيه"[4].
والقرينة هي كلّ ما من شأنه أن يدلّنا على مُراد المتكلِّم، وبعض القرائن يكون لفظيّاً وبعضه حاليّاً.
[1]- ابن فارس، الصاحبي، ص456، يراجع د. إحسان الأمين، منهج النّقد في التفسير، ص143.
[2]- يراجع د. إحسان الأمين، منهج النّقد في التفسير، ص147.
[3]- دروس في علم الأصول، الحلقة الثانية، ص90، ط1، دار الكتاب اللبناني 1978، بيروت.
[4]- محمدرضا المظفّر، أصول الفقه، ج1، 31.
ارسال التعليق