نستروح أيامنا هذه عطر زمزم والحطيم... وتخفق قلوبنا الرانية إلى أطهر الأرض بالحنين الواله، لصلاة أشرف معبدين في الوجود، وتصيخ آذاننا، داعية مستبشرة إلى ترانيم التلبية والتهليل، بين بطحاء مكة، أم القرى والمدينة مثوى الحبيب المحبوب.
موسى عليه السلام يضرع إلى ربه أن يشرح صدره مبتهلاً (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي) (طه/25). ومحمد (ص) يفاض عليه شرح الصدر في غير مسألة (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) (الشرح/1)، وتزدهي آمالنا الواسعة بلقاء الإخوة من المسلمين. ونسعد بالتطهر إذ نهم بالحج، فندع المنهي عنه ولو تنزيها، ونأخذ أنفسنا بالجد والتطهر وترك الشبهات، استعداداً لزيارة بيت الله الحرام، طاهرين مهيئين لتلقي الرضا والرحمات والقبول (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) (البقرة/197).
مناسك تؤدى و آمال عراض:
للحج مناسك تزار وترى وتؤدى، وللآمال العراض بالقبول والغفران استشراف يؤرق المضاجع ويؤجج الشوق، ويبعث الحنين... قلوب خاشعة، وألسنة ذاكرة، وأعين دامعة، و تبتلات ضارعة في منازل الوحي، ومطالع النور، وأمين الدعوة محمد (ص) بين القرى رائح غدَّاء.. كلّ هذا رائع وجميل ومطلوب، وفيه من الخير ما إلى التهوين من شأنه سبيل.
ولكن أهذا هو الحج؟ أهذه هي حكمته؟ أهذه هي روعته؟ أمن أجل هذا وحده نفعه عائد إلى صاحبه يطالبنا العليم الخبير الحكيم بترك الأهل والمال والولد؟! ألهذا وحده نحتمل مشاق السفر، ووعثاء الطريق، ووعورة السير، وغصص الغربة، وتعطيل العمل والمتجر؟ أم من أجل هذا يهيب رب القدرة بنبيه (ص): (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) (الحج/27)؟ ألهذا وحده استجاب العلي الكبير دعوة إبراهيم (ع)، يوم أن ناداه (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) (إبراهيم/37).
ليشهدوا منافع لهم:
الأمر أجل من كلِّ هذا شأنا، وأعمق غورا، وأبعد أثراً، وأخلد ذكرا... تعالوا أيها الأخوة المسلمون، أيها الأحباب المؤمنون، تعالوا نقف لحظات، متأملين متفكرين، بين أضواء قوله تبارك تعالى: (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ) (الحج/28) ألا نرى تعميم المنافع أولا، ثم تخصيص الذكر بعد تعميم؟!، أليس وراء ذلك شيء يراه من كان له قلب يقظ، وفهم وسيع؟.
إنّ من أجل المنافع التي يسعى إليها المسلمون في الحج، أن يجتمع زعماء العالم الإسلامي حكاماً ومفكرين بادية حسرتهم على حال أممهم اليوم، وبعدها عن حال أسلاف لهم سبقوهم إلى تلك البطاح.
قضية الدين أم قضية الدنيا:
ما بالكم لا تنصرفون إلى قضيتكم الكبرى قضية دينكم، وتعملون بالقضايا الجانبية التي يثيرها فيما بينكم خصوم الإسلام، والخسار في كلِّ هذا عليكم وعلى المتسببون.
ما بالكم تجتمعون ولكلِّ وجهة هو موليها، والمفروض فيكم أن تستبقوا الخيرات، وتصدرون من المقررات، مالا ينفذ إلا فيما لا يعود على الإسلام بخير!! وتظنون أنكم تحسنون صنعاً.
لقد شبَّت شعوبكم عن الطوق، وبلغت السعي، وأدركت الوعي، فهي تقدر كلّ ما تخفيه الظواهر (قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ) (آل عمران/29).
ما بالكم لا تضحون بذواتكم وقد اشتراها الله منكم بأنّ لكم الجنة، ولا بأموالكم وسلطانكم في سبيل من هيأها لكم، وأفاضها عليكم بلا حول منكم ولا قوة !!
ما بالكم لا تستعينون ببعضكم البعض بدلاً من استعانتكم بمن هنا ومن هناك، وأنتم يد على من عاداكم، ويسعى بذمتكم أدناكم، تولون وجوهكم حيث تبدد الأموال، ويخيب الرجاء وتضيع الآمال ويعصف بأقدار الرجال! أولئك الذين يبيتون لكم شراً وينتوون بكم غدراً...
هذا أوان الحج قد أظلكم زمانه، وحلّ بكم إبانه، هذا داعي الحج يهيئ لكم الفرصة الغالية فحجوا وتطهروا، وتعاونوا على البر والتقوى، ولا تنابزوا بالألقاب، ولا يثيرها دعوى جاهلية برأكم الله منها.
المصدر: مجلة الضياء/ العدد 31 لسنة 1993 م
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق