• ٢٠ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٨ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

المفهوم الإيجابي للهجرة

عمار كاظم

المفهوم الإيجابي للهجرة

لقد عاش الإسلام تجربة الهجرة في بداية الدعوة الإسلامية، فهاجر المسلمون من مكّة إلى الحبشة، ثمّ هاجروا ومعهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المدينة، ولقد أعطى الإسلام للمهاجرين عنواناً كبيراً. ومن القضايا التي عالجها القرآن الكريم بأكثر من أسلوب، مسألة إقامة الإنسان في بلده أو هجرته منه. فهل يريد الإسلام للإنسان أن يبقى في بلده، فلا يهاجر منه مهما كانت الظروف، أو أنّه يشجّع الإنسان على الهجرة في بعض الظروف، وقد يوجبها عليه في ظروف أُخرى؟

قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا * إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا) (النِّساء/ 97-98). إنّ هاتين الآيتين تعالجان بعض النماذج من الناس الذين عاشوا في بلد يسيطر عليها المستكبرون، الذين يتحرّكون في خطّ الكفر فيفرضونه على الناس، بحيث يمنعونهم من أن يفتحوا أية نافذة على الهدى، إلى درجة أنّهم ـ وهم يعيشون في هذا البلد ـ لا يجدون إلّا ثقافة الكفر، فليست هناك أيّ فرصة لثقافة الإيمان على أيّ مستوى من المستويات. وهنا، تدخل الآية الكريمة إلى ظروف هؤلاء، فتقسّمهم إلى قسمين؛ القسم الأوّل: هو الذي يستطيع أن يجد فرصة في الانفتاح على خطِّ الهدى وخطِّ الحرّية، بالهجرة من بلاده إلى بلادٍ يملك فيها أن يتحرَّر من ضعفه، وأن ينفتح على خطِّ الهدى. وهناك فئة لا تملك أيّة فرصة لذلك، فهم لا يملكون فرصة مالية أو رسمية تتيح لهم الخروج من بلدهم إلى بلاد أُخرى، وقد يكونون من الرجال أو النِّساء أو الولدان، فيبقون في البلد نتيجة انعدام فرص الهجرة منه.

والله تعالى يحدِّثنا عن الفئة الأولى أن لا عذر لهم إذا كان بقاؤهم في بلادهم يفرض عليهم الكفر والضلال، في الوقت الذي يجدون الفرصة للخروج من هذه الدائرة المغلقة. وأمّا الفئة الثانية، ممّن لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً، فإنّ الله يحدّث عنهم بقوله: (فَأُولَئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ) (النِّساء/ 99). ولعلّ (عسى) هنا لا توحي بمعنى الحسم، بل بمقاربة الموقف للعفو وللمغفرة. فربّما يكون الأساس في ذلك، أنّ الله يريد لهؤلاء أن يدقّقوا: هل إنّهم لا يستطيعون حيلةً ولا يهتدون سبيلاً، أم أنّهم ليسوا من أُولئك؟

ونخرج من خلال هذا العرض بنتيجة حاسمة، وهي أنّ الإسلام لا يعتبر الضَّعف عذراً إذا أمكن للإنسان أن يحوِّل ضعفه إلى قوّة، سواء كان ذلك في بلده، أو كان ذلك خارج بلده، وسواء كان ذلك على مستوى القضية الكبرى، وهي قضية الإيمان والكفر، أو على مستوى القضايا الثانوية، كالظلم والعدل وغيرهما، فربّما يبقى الإنسان في بلده ليخضع لخطط الظالمين وليشاركهم فيها وهو مجبر على ذلك، في حين أنّه قادر على أن يخرج منها ليتخفّف من هذه الضغوط.

وعلى ضوء هذا، نعرف أنّ الإسلام لا يعتبر الهجرة سلبية، بل على الإنسان أن يدرس الهدف من الهجرة وظروفها: هل هي هجرة يحبّها الله ورسوله؟ وهل إنّ الهدف منها ممّا يحبّه الله ورسوله؟ هل يحفظ دينه في الهجرة؟ هل يحفظ حرّيته؟ هل يحفظ موقفه؟ وقد ورد عن الإمام عليّ (عليه السلام) عندما تحدّث عن هذا الجانب «ليس بلد أولى بك من بلد». فالبلد والوطن ليس صنماً تعبده، وليس هو سجناً تحبس نفسك فيه، فقيمة وطنك بمقدار ما يحفظ لك إنسانيتك، ويحمل مسؤوليتك، ويلبّي حاجاتك وقضاياك وأهدافك.. فالإمام (عليه السلام) يريد أن يقول إنّ على الإنسان أن لا يربط نفسه ببلد معيّن بحيث يسجن نفسه فيه، بل عليه أن يدرس المسألة من ناحية إنسانية، فأيّ بلد يحفظ لي إنسانيتي وديني وحرّيتي وعزّتي وكرامتي فذلك بلدي «خير البلاد ما حملك». فالبلد الذي يملك بأن يحمل همّك وقضاياك وعزّتك وكرامتك وحرّيتك ودينك هو خير البلاد.

ارسال التعليق

Top