◄جاءت النهضة الحسينية متكاملة المبادئ والقيم، تشكِّل في مجموعها منهج حياة ملائماً لطبيعة الإنسان، ومنسجماً مع فطرته السوية، ومغذّياً لروحه، وملبياً لمتطلبات الإنسانية الكريمة. وهي منظومة محكمة النسيج، مترابطة الحلقات، تقوم على أركان ثابتة من القرآن الكريم والسنّة النبويّة، لا تتغير بتغيّر صروف الدهر، ولكنّها تتجاوب مع المتغيرات من دون أن تفقد جوهرها وأصالتها ومشروعيتها، ولا تتطوّر مع تطوّر حياة الأفراد والجماعات، ولكنّها تتفاعل مع التحوّلات التي تطرأ على حياة الإنسان، من غير انصياع إلى الواقع، وإنّما بالتكيّف مع متطلّباته التوجيهية نحو الأفضل وترشيد مساره.
ولـمّا كان من خصائص القيم ـ من حيث هي قيم ـ الثبات والرسوخ والاطّراد، فكذلك هي منظومة القيم التي جاءت بها النهضة الحسينية لا تفقد خصائصها، ولا تتراجع قيمتها، لا تُبلى مع الزمن؛ لأنّها قيم جوهرية ثابتة، مستقرّة بثبات الرسالة الإسلامية واستقرارها وخلودها، ولأنّها من الثوابت وليست من المتحولات، نزل بها الوحي الإلهي، وتجسّدت في حياة الرسول (ص). ولعلّ من الأُمور الواضحة لدى المشتغلين بالفكر في كلّ عصر أنّ الفكر من حيث هو تسخير لمَلَكات العقل وللقدرات الذهنية، وتحريكها نحو الوصول بها إلى مقاصد وغايات يرصدها العقل، يخضع للإرادة الإنسانية التي تحكم اتجاهاته وتضبط مساراته، إن هي نزعت إلى الخير والحقّ والفضيلة والمصلحة العامّة، أيدها وزكاها، وإن هي مالت إلى الشرّ والباطل والرذيلة والمضرة والمفسدة، قوّمها وردّها إلى الحقّ والصواب.
إنّ المنظومة القيمية في النهضة الحسينية هي منظومة متكاملة في الأخلاق والدِّين، وهي رافد مهم لبناء المجتمع وذلك من خلال الأُسس والمعايير التي جاء بها الإمام الحسين (ع) في نهضته. هي ليست مجرّد معركة تاريخية حصلت يمرّ عليها الباحثون والمؤرّخون مرور الكرام، بقدر ما هي إصلاح مجتمع من خلال إرساء القواعد الأخلاقية الإسلامية فيه، حيث أثبتت الدراسات التربوية والنفسية المستفيضة الأثر الواضح للنهضة الحسينية في تكوين القيم الأخلاقية والدينية لبناء شخصية الإنسان، حيث تنعكس على جميع جوانبه الجسدية والنفسية والروحية، ويسوق الباحثون في علم النفس والتربية أمثلة كثيرة على تأثير النهضة الحسينية على الخصائص والصفات الخلقية كون الارتباط الوثيق بين القيم الأخلاقية والتربوية، والنهضة الحسينية التي تصلح لكلّ زمان ومكان؛ لأنّ التجديد الذي اعتمدته النهضة الحسينية من خلال الرجوع إلى القرآن الكريم وسنّة الرسول محمّد (ص) كان ولا زال منهجاً واقعياً يراعي واقع الإنسان في حُسن الخلق والسلوك، وإسهامه في مقارعة كلّ ما يفسد الأرض من شرٍّ وظلم.
إنّ المنهج الشمولي لنهضة الإمام الحسين (ع) راعى فيه كلّ مفاصل الحياة التربوية والنفسية والاجتماعية والأخلاقية والفكرية، وجعل من كرامة الإنسان منطلقاً لثورته. تُعتبر النهضة الحسينية بيئة أخلاقية متكاملة تترك آثارها الملموسة على الإنسان حيث تخلق أجواء تربوية فكرية وسلوكية تؤثِّر تدريجياً على شخصية الفرد من خلال الالتزام الديني، وتأخذ أبعادها التربوية لإصلاح المجتمع ومواجهة الضلال الفكري والتعصّب الديني. إنّ جوهر النهضة الحسينية هو إشاعة روح التعاطف والتراحم والمودّة؛ لأنّ الأُمّة التي لا تسود بين أفرادها هذه الروح لا توجد فيها حياة مطمئنة، وتتحكّم فيها العلاقات الرسمية والمصالح المادّية، ثمّ تكون الحياة الاجتماعية جافّة ومملة لا طعم فيها، ولهذا أراد الإسلام من أجل هوية واحدة لهذه الأُمّة أراد بناءها على أساس التراحم والمودّة لدرجة أن تكون الأُمّة كجسد واحد، كما قال الرسول (ص): «مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى»، وقال (ص): «لا يؤمن أحدكم حتى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه». إنّ فعل هذه الروح إذا انتشرت في جسم الأُمّة وبانت أخلاقياتها السلوكية وتصرُّفاتها العملية الواقعية؛ فإنّها لا تنهار ولا تتفكك إن شاء الله. إنّ هذا البناء الذي يحصّن العقل والفكر ويحيي الثقافة لا يتمّ إلّا بخطاب حضاري ثقافي أخلاقي ينبع من النهضة الحسينية الراقية السامية، ويسعى إلى تكوين بصيرة بأهمّية القيم الإسلامية وقيمها الحيوية، وتفوّقها على كلّ القيم الاجتماعية والحضارية الموجودة لدى الأُمم الأُخرى. وهكذا فإنّ التربية الأخلاقية تمثّل عملية متطورة، وهي بإمكانها أن تحدث قفزة هائلة في حياتنا، يقول رسول الله (ص): «ما يوضع في ميزان امرئ يوم القيامة أفضل من حُسن الخلق». ویقول الإمام جعفر الصادق (ع): «أربع مَن كنَّ فيه كمل إيمانه، وإن كان من قرنه إلى قدمه ذنوب لم ينقصه ذلك وهي: الصِّدق، وأداء الأمانة، والحياء، وحُسن الخلق» .
قد تكون النفس الإنسانية عند البعض متكبرة، طاغية، كما أنّ الوساوس الشيطانية، والثقافة الجاهلية، وغفلة الإنسان وشهواته تزيد من تلك الصفات السلبية في النفس. إنّ هذه الصفات المذمومة هي حواجز بيننا كأفراد، وهذه الحواجز تمنعنا من التعاون، وعندما ينعدم التعاون سيوجد الذل والفقر وسائر الصفات السلبية الأُخرى. الله تبارك وتعالى لم يخلقنا مختلفين لكي نتصارع مع بعضنا، فهو يقول: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ) (الحجرات/ 13). وعلى هذا فإنّ الحكمة من الاختلاف هو الوحدة، والتكامل، والتفاعل. وعلينا أن ننتزع هذه الصفات السلبية من نفوسنا، وعندما نتخلّص منها فإنّنا سنستطيع أن نبدأ مسيرة الحضارة.►
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق