• ٥ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٣ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

النيّة.. روح العمل وأساسه

النيّة.. روح العمل وأساسه

◄قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) (الأنعام/ 162-163).

إنّ من الأُمور التي ينبغي أن تُؤخذ بالاعتبار، وتولى الاهتمام الكافي، موضوع النيّة.

ونحن عندما نتحدّث عن النيّة، لا نريد بذلك الحديث عن لفظ النيّة، كما قد يتبادر إلى الكثيرين، بل عن مضمونها، لأنّ النيّة كما يجب أن تُفهَم، مركزها القلب لا اللسان، واللسان ليس سوى وسيلة تعبير عنها.

ويُقصد بالنيّة، الأهداف التي يريدها الإنسان من وراء أعماله وأقواله ومواقفه. ويعود الاهتمام بالنيّة إلى الدور الذي تقوم به في تفعيل حركة الإنسان، ففاعلية الإنسان وهمّته تتبع نيّته والأهداف التي يريدها من وراء عمله. وإلى هذا أشار عليّ (ع): «ما ضعف البدن عمّا قويت عليه النيّة».

وفي الحديث: «قدر الرجل على قدر همّته، وعمله على قدر نيَّته». ولأنّ النيّة تمثّل التعبير عن شخصية الإنسان الحقيقية، فالناس يُعرَفون من خلال نيّاتهم؛ إن خيراً فخير، وإن شرّاً فشرّ.

أساس تقييم الأعمال

وقد أولى الإسلام النيّة الاهتمام الكبير، واعتبرها أساساً في الأعمال، وأساساً في تقييمها وفي قبولها أو عدمه، فهي روح الأعمال، والله سبحانه لا ينظر ويحكم فقط على صور الأعمال، بل ينظر إلى نيّات مَن قاموا بها، أي الروح التي انطلقت منها.

وقد ورد في خطبة رسول الله (ص)، في إطار حديثه عن الهجرة التي حصلت من مكّة إلى المدينة: «أيّها الناس، إنّما الأعمال بالنيّات، ولكلّ امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهي إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، فهجرته إلى ما هاجر إليه». وقد أشار إلى ذلك الرسول (ص) أيضاً، عندما سُئِل عن رجل خرج للعمل وأعجب به المسلمون، فقال لهم: «إن كان خرج يسعى على وُلِده صغاراً، فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين، فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفّها، فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى رياءً ومفاخرةً، فهو في سبيل الشيطان».

وفي الحديث: «فمن غزا ابتغاء ما عند الله، فقد وقع على الله، ومَن غزا يريد غرض الدنيا أو نوى عقالاً، لم يكن له إلّا ما نوى له».

وفي يوم القيامة، يبعث الناس على نيّاتهم، وهم يُعطَون على قدرها، فقد ورد في الحديث: «على قدر النيّة، تكون من الله العطية». وأكثر من ذلك، اعتبرت الأحاديث أنّ الإنسان يُؤجَر على نيّته حتى لو لم يقم بالعمل. طبعاً، هذا إذا كان جاداً في العمل وراغباً فيه، لكنّ ظرفاً ما منعه من ذلك. لذا، ورد في الحديث: «النيّة أحد العملين». وورد أيضاً: «يؤتى بالعبد يوم القيامة، ومعه من الحسنات أمثال الجبال الرواسي، فينادي مناد: مَن كان له على فلان مظلمة فليأخذها، فيجيء ناس، فيأخذون من حسناته حتى لا يبقى له من الحسنات شيء، ويبقى العبد حيران. فيقول الله عزّوجلّ: إنّ لك عندي كنزاً لم يطّلع عليه ملائكتي ولا أحد من خلقي. قال: يا ربّ: وما هو؟ قال: نيّتك التي تنوي من الخيرات، كتبتها لك سبعين ضعفاً».

أحاديث في النيّة

وعلى أساس ذلك، يُجاب عن السؤال: لماذا يُخلَّد أهل النّار في النّار، ويُخلَّد أهل الجنّة في الجنّة؟ فعن الإمام الصادق (ع): «إنّما خُلِّد أهل النّار في النّار، لأنّ نيّاتهم كانت في الدنيا، أن لو خُلِّدوا فيها، أن يعصوا الله أبداً، وإنّما خُلِّد أهل الجنّة في الجنّة، لأنّ نيّاتهم كانت في الدنيا، أن لو بقوا فيها، أن يطيعوا الله أبداً، فبالنيّات يُخلَّد هؤلاء وهؤلاء».

وقد ورد في الحديث، أنّ رسول الله لما رجع من غزوة تبوك، قال (ص): «لقد تركتم بالمدينة أقواماً، ما سرتم مسيراً، ولا أنفقتم من نفقة، ولا قطعتم وادياً، إلّا وهم معكم». قالوا: يا رسول الله، وكيف يكونون معنا وهم بالمدينة؟ قال: «حبسهم المرض».

وفي ذلك، ورد أنّه «إذا مرض المؤمن، أوحى الله إلى صاحب الشمال: لا تكتب على عبدي مادام في حبسي ووثاقي ذنباً، ويُوحي إلى صاحب الحسنات، أن اكتب لعبدي ما كنت تكتبه في صحّته من الحسنات، لأنّه كان ينوي القيام بها لو كان في صحّة».

وفي الحديث: «إنّ العبد المؤمن الفقير ليقول: يا ربّ، ارزقني حتى أفعل كذا وكذا من البرّ ووجوه الخير، فإذا عَلِمَ الله عزّوجلّ منه صدق النيّة، كتبَ الله له من الأجر على ما يكتب له لو عَمِله، إنّ الله واسع كريم».

وفي الحديث أيضاً: «إنّ المؤمن لترد عليه الحاجة لأخيه، فلا تكون عنده، فيهتمّ بها قلبه، فيدخله الله تبارك وتعالى الجنّة كما لو فعلها».

من هنا، كانت دعوة الإسلام الإنسانَ إلى حُسن النيّة وصفائها وطهارتها؛ أن لا يشوبها أيّ شائبة بفعل الأهواء والمصالح، أو بسبب الخصومات أو الانفعالات أو التوترات ممّا يؤثِّر فيها.

وهذا ما كان يدعو به الإمام زين العابدين (ع) في دعاء «مكارم الأخلاق»: «بلّغ بإيماني أكمل الإيمان، واجعل يقيني أفضل اليقين، وانته بنيّتي إلى أحسن النيّات، وبعملي إلى أحسن الأعمال».

فالإنسان مدعوّ إلى أن يتابع نيّته عندما يتوجّه إلى الله في صلاته وصومه، وفي حجّه وخمسه وزكاته، وفي جهاده، وعندما يتصدّق بأيّ صدقة، أو يقوم بأيّ خدمة لمحتاج، أو عند بنائه مسجداً، أو أيّ مؤسّسة من مؤسّسات الخير، وحتى في طعامه وشرابه.

أحسن النيّات

ولكن يبقى السؤال: أيّ نيّة ينبغي أن يعقدها الإنسان لتكون نيّته أحسن النيّات، وبالتالي عمله أحسن الأعمال؟!

لقد بيّنت الآية التي تلوناها، والتي توجَّه بها الله إلى رسوله (ص)، ومنه إلى كلّ واحد: (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ). هي دعوة للإنسان بأن يكون الهدف في كلّ ما يقوم به في الحياة هو الله؛ ما يقرّبنا إلى الله، وما يجعلنا في موقع رضاه ومحبّته. وهي أعلى قيمة يبلغها الإنسان، وأهمّ هدف يصل إليه. وبذلك، لا تقف حدود نيّة القربة إلى الله التي نأتي بها عند الصلاة أو الصيام أو الحجّ أو الخُمس والزكاة وأيّ عمل عبادي، بل تشمل كلّ المفردات في حياتنا الخاصّة والعامّة، بحيث تصاحبنا هذه النيّة في كلّ شيء.

وهذا ما قاله رسول الله (ص) لأبي ذرّ: «يا أبا ذرّ، ليكن لك من كلّ شيء نيّة صالحة، حتى في النوم والأكل». وقد قال سبحانه: (وَمَا لأحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأعْلَى) (الليل/ 19-20). وإلى هذا، أشار الله عندما تحدّث عن أهل البيت (ع): (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا) (الإنسان/ 8).

وعندما يكون العمل لله وقربةً إليه، فبالطبع سينعكس هذا على العمل، ليكون خيراً للإنسان نفسه الذي يقوم بالعمل وللآخرين. فلا يمكن أن يكون الهدف هو الله، إلّا ويكون العمل خيراً للإنسان وللآخرين، وسيكون الاندفاع نحو العمل أكثر، لأنّه سيكون بعين الله ورعايته، وسيصل إلى النتائج حتى لو لم يقدَّر من الآخرين ممّن يستفيدون من عمله ويحصلون على نتائجه.

مراقبة ومتابعة!

وحتى يكون العمل لله، لابدّ من أن تكون النيّة لله، والله لا يقبل أن يشاركه النيّة أحد، وهذا ما ورد في الحديث القدسي: «مَن أشرك في عمله، لن أقبله إلّا ما كان لي خالصاً». وفي الحديث: «أنا خير شريك، ومَن أشرك معي غيري في عملٍ عمله، لم أقبله إلّا ما كان لي خالصاً».

ولكنّ هذا لن يحصل إلّا بمراقبة دقيقة لنيّاتنا، فقد يختلط علينا الأمر، فنعتقد أنّ هدفنا هو الله، فيما هدفنا هو غيره. ولذلك، فلندقِّق في نيّاتنا جيِّداً قبل أن نقدّم على أيّ عمل، ولا نقم بعمل إلّا بعد أن نطمئنّ إلى أنّه خالص لله، فوحده الله من يستحقّ أن نعمل من أجله، فكلّ شيء عندنا هو منه. وهذا لا يعني أن نتنكّر لعطاءات الناس من حولنا، فمن يكن هدفه الله، لا يمكن إلّا أن يشكر المخلوقين ويقدّر معروفهم: فـ«مَن لَم يَشكُرِ المَخلُوقَ لَم يَشكُرِ الخالِقَ».

إنّنا أحوج ما نكون إلى تعزيز هذه النيّة الخالصة لله، حتى تصفو نيّاتنا، وتفيض أرواحنا بالخير، وعند ذلك، سنجد أنفُسنا في بحر كرم الله وعطائه في الدنيا، وهذا وعده عندما قال: «لا أطّلع على عبد من عبادي، فاعلم منه حبّ الإخلاص لطاعتي ولوجهي وابتغاء مرضاتي، إلّا تولَّيت تقويمه وسياسته».

وفي الآخرة، حيت يقول: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) (فصّلت/ 30-32).►

ارسال التعليق

Top