• ٢٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الهويات المرنة

أيف ميشو

الهويات المرنة
   لو أنّ القرن الواحد والعشرين كان قرناً لإنتقال السكان، فالمستقبل سيكون للهجرات والإتصال. كانت هناك حركة للسكان تسببت في الحروب، والاضطهاد، والإبعاد، ولعمليات إعادة التوطين باسم الجماعات المزعوم نقاؤها أو قابليتها للحياة. ومعروفة، بالطبع، حركات الهجرة وكذلك الهجرة بحثاً عن العمل أو الوضع الأفضل. وأخيراً بدأ زمن السياحة وسفر الجموع. فصناعة السياحة اليوم هي الصناعة الأولى في العالم، إذ ينتقل 500 مليون كائن بشري كل عام بهدف الترفيه، وسيصبحون بليوناً نحو العام 2015. كل هذا يلقي ببعض الشكوك على مفاهيم التأبد والانتماء وتجعلنا بمواجهة إعادة التفكير في الهوية: من أنا، من أنت، وماذا نمثل نحن؟ ففي عالم أصبح الانتقال فيه هو المعيار، لابدّ وأن تحل مقولة جديدة محل التأبد: وهي التي أسماها الأنثروبولوجي جيمس كليفورد "التأبد في السفر". فليست هذه حال رجال الأعمال والتجاريين، والعاملين على الطرق، والسائحين والصحفيين، والعاملين بالأعمال المتحركة للمجتمع المدني المشار إليه فحسب، ولكنها أيضاً حال المهاجرين حول المدن الكبرى والمتقاعدين في أماكن الاصطياف التي يمتلكونها. والحياة في "حالة الانتقال هذه"، التي تعني الانتماء لعدة أماكن وعدة عوالم معاً، تكون أحياناً قاسية. لذا فمن الضروري إنجاز فكر جديد لظواهر الشتات. فالشتات، هو صلة لربط أماكن منفصلة متباعدة بجماعة واحدة وفريدة، لكن عودتها إلى مكانها الأصلي ممنوعة وتقوم بينها علاقة الوطن المشترك على الحنين. ومن الآن فصاعدا، صار بمقدور الأفراد الانتماء إلى جماعات متعددة، هي تلك الجماعات التي وصلوا إليها مهاجرين أو تلك الجماعات التي وصلوا إليها مهاجرين أو تلك التي هاجروا منها، من خلال التجوال الذي لا يتوقف للناس، وللنقود، والممتلكات، والمعلومات، وعبر الرحلات والاتصالات، من التليفون إلى الإنترنت. وقد تحول الشتات إلى شكل للحياة من خلال تعدد الانتماءات. فعلى هذا النحو هناك شتات صيني، وشتات فلسطني، وشتات مكسيكي، وشتات تركي، وشتات جزائري. وهذا الأمر تنجم عنه العلاقات القابلة للتكيف والتغير في الانتماء للجماعات، فكما لو أنّ الناس أصبحوا لا يريدون وضع بيضهم كله في سلة واحدة، وكأنهم أصبحوا يسعون للحصول على هويات وطنية متعددة، من أجل الحصول على شيء ما من جماعة بغير الحصول على كل خصائصها وبغير فقدان كل التزاماتهم تجاه الجماعات الأخرى، وهي الحالات المعقدة للإقامة في مكان والارتباط بأماكن أخرى. وهذه الأنواع الجديدة من الشتات، هي في الواقع، تحد لصرامة الدولة القومية، ولكنها تتعارض بقدر ما مع صرامة المحلية، بعدم المتوضع بمعنى ما في موضع. وهو ما يجمل على هذا النحو الوحدات ويقيم عولمة "من أسفل" توازن العولمة "من أعلى" التي تمارسها مجموعات الإنتاج والحكومات. فمفهومنا للهوية يتطلب، هو أيضاً، إعادة تحديد. إذ إننا مازلنا نعيش على فكرة أنّ الهوية الناجزة والواضحة تقوم على بعض الدلائل الثابتة: كاللغة، والتقاليد، والقيم المشتركة، والعائلة، والجماعة، الوسط الجغرافي. وقد تكونت فكرة الاندماج الجمهوري، في الجانب الأساسي منها، بتسويغ من هذه النظرة، إذ استبدلت النزعة الإرادية، تحت ثقل التقاليد والطبيعة، بالانتماء الموجه. والاتصالات والتبادلات العديدة، والانتقال الذي أصبح حالة عليها أن تنقلنا للتفكير، ليس فقط في معاني الوصول إلى الهويات والثقافات الواضحة، ولكن للمعايير والتفاعلات التي تفضي للهويات المتحركة والمرنة. فالأشخاص المنتقلون يلتقون في أماكن هي مناطق اتصال حيث يؤسسون علاقات تستتبغ الصراع، واللامساواة، وكشف الآخر والتصالح معه. فمن الجيزة إلى ديزني لاند، مرورا بلافيليت (ضاحية مدينة ملاهي ديزني بباريس)، صارت الأماكن المرموقة للسياحة واللهو أماكن للاتصال، شأنها شأن أكبر المراكز الحضرية أو التجارية، وشأن المتاحف، وأماكن الاتصالات الإلكترونية. وفي الدول القومية التي مازلنا نعيش في كنفها مؤقتاً، عوملت هذه التطورات بوصفها تهديدات: فهي تضعف الهويات وتضع النقاء الثقافي موضع تساؤل. وقد شاهدنا رد فعلها في خطابين أحدهما مرعب والآخر مرتعب، نتجا عن تفسخ السياسات: فخطاب اليوم عن العالمية متعددة الجمهوريات يقترب، في أغلب الأحوال، من خطاب الدفاع المتطرف عن الهويات التقليدية أو الوطنية. فمازال من المفروض أن تقوم هذه الهويات الواضحة والمحددة، على لغة وأرض واعتقاد مشترك، وربما على نقاء عنصر ليس سوى فكرة من الوهم. وقد حدث في الماضي أنّ الناس كانوا من هنا ومن هناك في آن معا، وحدث أنهم كانوا يتلفتون حولهم، وكانت لهم علاقات مركبة بالأماكن التي عاشوا بها مع جيرانهم. فهل لم تكن لديهم حاجة للدعاء بهويتهم، ولأن يتم تعريفهم من خلال مصطلحات الهوية والثقافة؟ إنّ الهويات المعاصرة تتغير: فقد أصبح أكثر قابلية للتبدل وللتكيف، وصارت متحركة أيضاً، وهذا ما يشكل قوتها بالفعل. وعلينا أن نفكر في مقدرة الشعوب المستعمرة على الإبداع بعد استيعابها للهجوم العسكري، والأيديولوجي، والثقافي والسياسي للاستعمار. وعلينا أن نفكر في حيوية هوية الشعوب التي طفت فوق الإمبراطوريات الاشتراكية. فالهويات تقوم، بالفعل، على التنظيم الدقيق وغير الثابت لعمليات غير متجانسة. وهي عمليات أخذ ورد، ونتيجة مؤقتة للقاء هذه العوامل في مسار التحدد الذي يجمع هذه العمليات بدرجة ما معاً. لذا فإن أي هوية هي بالضرورة إشكالية، ولذا توجد صراعات وعمليات عصاب تتخذ طابع الهوية: فنحن لم نحصل بعد على الوجود (أو نحاول التواجد) بين صورة الأب، ولغة الأُم، والأرض التي عشنا بها، والمجموعات التي نضمممنا لها إرادياً لهذه الدرجة أو تلك، واللقاءات التي نواصل القيام بها، فخلال هذه الأشياء قضينا عمرنا كله. ولقد أصبحنا نعيش طويلاً، فزواج ما يمكنه أن يستمر الحياة كلها لو أنّ الحياة تنتهي في الخمسين من العمر، فكيف يكون الأمر عندما تعمر حياة لثمانين عاماً وأكثر، ويكون استمرارها مصاحباً لتغيرات جوهرية في الإمكانات العقلية والبدنية؟ وقد رأينا أنّ الأفراد صارت لهم عائلات متعددة من الآن فصاعدا، وصارت لهم حياة بعد الحياة، فيما ندعوه بالعمر الرابع (ما بعد الستين). وأصبحنا نخضع أيضاً لسلطة تهيمين علينا درامياً بفضل التقنيات الطبية وما وراء الطبية، وصرنا نتفاعل معها بأجسادنا وأفكارنا، ونتلاعب باستمرار بأنفسنا لكي نصل إلى ما نريد أن نكون عليه، بالمنشطات، والعقاقير، ونظام الطعام، والجراحة التجميليةن وتحولنا لنوع من الآلات. كما أصبحنا نتحرك بشكل أفضل بفضل وسائل الانتقال، أو في أماكننا عبر وسائل الاتصال، والصور، والشبكات، وباختصار، لم تعد هوياتنا تتغير فحسب وإنما أصبحت أكثر فأكثر موضوعاً للتغير المستمر. وليس الأمر مريحاً تماماً ولا شاقاً تماماً، فمزيد من الحرية والإبداع ينتج مزيدا من عدم اليقين. والمزيد من الخيارات يفضي إلى التهديد بالهدم والتفتت والتفكيك. وواحدة من أولوياتنا هي إيجاد معيار للتعامل مع هذه التحديات وكيف نتعامل معها، وما يستتبع ذلك من دراسة كيف أن عدداً لا بأس به من البشر الآن يتدبر أمره بشكل يجعله متلائماً معها.   * أستاذ الفلسفة في جامعة باريس

ارسال التعليق

Top