جاءت نهضة الإمام الحسين (عليه السلام) نهضة صادقة، فيها استشعر المسلم روح الإيمان الصادق، وعزّة النفوس وكرامة الأهل، وهو جانب مهم من أسباب قيام الثورة.. أمّا الواقع حينها، فقد تمثّل في العيش تحت الضيم والظلم، وتقويض الهوية الإسلامية، واستبدالها بهويات كانت تتصارع من أجل الوصول إلى السلطة، وهذا من أكبر الأسباب وأشدّها تأثيراً على الهوية الإسلامية، وهي الهوية القبلية التي حاربها الإسلام، وحاول إذابتها، فما كان من قريش إلّا الانتفاض على الهوية الإسلامية تعنتاً وظلماً، فقد بقيت تلك الهوية تصارع بصمت مقنَّعة تحت تسميات عدّة، تتربص الفرص للظهور مرّة أُخرى، وكأنّها كانت تستولد تسمية ملائمة، وظرف أكثر ملاءمة لتنمو من جديد. لكن ثورة الإمام كانت حدّاً فاصلاً منعت نمو الفساد في الهوية الإسلامية الأصلية، فشرّعت الموت من أجل الحياة، وهو مفهوم استوعبته العامّة والخاصّة حينها؛ لأنّ الحدث كان يتطلب مخرجاً من مزلق الظلم الذي ساق الناس كالأنعام، وتسلّط على رقابهم وضمائرهم.
لا يمكن عدّ الثورة الإصلاحية التي قام بها الإمام الحسين (عليه السلام) ثورة نوعية، بل شمولية في أصدق وصف لها، وممّا يُصدّق هذا القول المدّة التي احتضنت الثورة ومهدّت لها؛ ممّا أعطى الثورة بُعداً شمولياً لم يكن محصوراً في الإسلام أو العرب، بل الانتشار الواسع الذي كانت عليه الثورة، حقّقت هذه الشمولية التي نتحدّث عنها، ثمّ إنّ ظرفها وزمن ولادتها جعلها أكثر عمقاً، فهي كانت تنمو وتتكامل منذ زمن بعيد قبل إعلانها. فقد عاصر الإمام الحسين (عليه السلام) زمن معاوية وسياسته، كما عاصر زمن يزيد، وقبل هذه المدّة كان لديه (عليه السلام) وعياً عميقاً بالمعنى الشرعي للثورة، فقد عاش الإمام مع الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في طفولته وصباه، وكان مشهد المعارضة حاضراً أمامه، وما كان يُعانيه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من المشركين أيضاً. ثمّ عهد الإمام الحسن (عليه السلام) الذي نجح في التخطيط السياسي لثورة أخيه الإمام الحسين (عليه السلام)، هذا دليل اليقظة السياسية المبكرة؛ لذا كان الإمام الحسين (عليه السلام) متابعاً للإمام الحسن (عليه السلام) بكلّ خطوة، هذه المتابعة هيأت الشعب المسلم للانتقام من النظام ولو بعد حين، وكانت يقظة الإمام الحسن (عليه السلام) وحدها كفيلة بصنع القرار السياسي.
لقد هبَّ على الأرض ربيعاً ثورياً غيّر كثيراً من المفاهيم، وأقلق كثيراً من الثوابت في التاريخ الحديث، إلّا أنّ للمسالة وقفة تاريخية قديمة يشهد التاريخ بريادتها للإمام الحسين (عليه السلام)، تلك هي معركة الطف، فالإمام (عليه السلام) إنّما خرج لطلب الإصلاح في الأُمّة، وهو ربيب النبوّة، فسيرته في النهضة والإصلاح منهج يُقتدى، وخطابه ومواقفه تشكّل معالم هادية لكلّ حُرّ غيور على مصلحة أُمّته ومجتمعه. ومن هنا؛ كانت ثقافة الثورة ثقافة حسينية، وجهها الآخر الإصلاح، فقد ظهرت ببُعد استنشق الحياة من خلال الموت، فكانت إصلاحاً للدِّين والأُمّة، ولكن هل لهذا المفهوم ترهّل مكّنه من التمدّد ليُشكّل في نهاية الأمر معنى مغايراً لحقيقة الإسلام على ما روّج له البعض؟
قطعاً لا؛ لأنّ الإسلام ـ ما زال ديناً ــ لم يكن فاسداً لإجراء الإصلاح عليه من خلال الثورة التي قام بها الإمام الحسين (عليه السلام)، بل كانت السلطة السياسية هي مَن شوّهت أبرز ملمح إسلامي، جاهد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من أجل تحقيقه في المجتمعات، وهو العدلة الاجتماعية. كانت ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) السبب في إحياء الإرادة لدى الجماهير المسلمة وانبعاث الروح النضالية، وهزّة قويّة في ضمير الإنسان المسلم الذي ركن إلى الخنوع والتسليم، فتعلّم الإنسان المسلم من ثورة الحسين (عليه السلام) أن لا يستسلم ولا يساوم، وأن يصرخ معبّراً عن رأيه ورغبته في حياة أفضل في ظلّ حكم يتمتّع بالشرعية، أو على الأقل برضى الجماهير.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق