• ٢٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

انتقال الاكتئاب بالوراثة

انتقال الاكتئاب بالوراثة

يحاول كلّ مَن يتعرض لحالة الاكتئاب النفسي أن يجد سبباً واضحاً للحالة بشكل مباشر، فإذا فرض أنّ أعراض الاكتئاب بدأت بعد حدوث واقعة معينة مثل وفاة أحد الأعزاء أو مشكلة عاطفية أو خسارة مالية، فإنّنا في هذه الحالة نقول أنّ هذا الحدث هو السبب المباشر في حدوث الاكتئاب، لكن هناك الكثير من الناس يتعرضون لنفس المواقف ولا يصابون بالاكتئااب، وعلى ذلك فإنّنا يجب أن نحاول في كلّ حالة من حالات الاكتئاب تحديد السبب الحقيقي لحدوث هذه الحالة. قد ثبت من خلال الدراسات النفسية أنّ هناك عامل وراثي قوي وراء الإصابة بحالات الاكتئاب، وحتى إذا ظهر المرض بعد التعرض لمشكلة معينة فإنّ وجود استعداد مسبق لدى المريض هو في الغالب السبب الأساسي لإصابته بالاكتئاب لذلك نقول إنّ الاكتئاب لن يكن سوى حلقة أخيرة في سلسلة تفاعلات أدت في النهاية إلى صورة الاكتئاب المعروف.

 

دور الوراثة في مرض الاكتئاب:

لعل أوّل ما يلفت الانتباه هو انتقال الاكتئاب عبر الأجيال، وهذا ما نلاحظه عند دراسة الأسر التي تتميز بوجود حالات متعددة لمرضى الاكتئاب، ومن خلال الدراسات النفسية فقد تبين زيادة نسبة الاكتئاب في أقارب الدرجة الأولى للمرضى تؤكد الدراسات أنّ عدد الأفراد الذين يعانون من الاكتئاب في أسرة المريض يزيد بمقدار 3 أضعاف عن الأسر العادية، وهذا يؤكد العامل الوراثي في مرض الاكتئاب، ويلاحظ أيضاً وجود ارتباط بين الاكتئاب وبعض الاضطرابات النفسية الأخرى مثل الشخصية الاكتئابية التي لديها استعداد وراثي للإصابة بالاكتئاب كما إنّ هناك علاقة بين الاكتئاب وأمراض نفسية أخرى مثل الفصام والصرع، والإدمان والتخلف العقلي، وفي هذا المجال يجب أن نتذكر أنّ الأطباء النفسيين حين يقومون بفحص حالات الاكتئاب لابدّ أن يجمعوا المعلومات حول الوالدين والأجداد والإخوة والأخوات والأبناء وكلّ أقارب المريض.

ويتم توجيه السؤال للمريض بطريقة بسيطة حتى تتأكد من فهم المريض لما نقصد بأن نقول:

-         هل أصيب أحد أفراد أسرتك بالحزن الشديد وكثرة البكاء؟

-         أو هل تم علاج أحد أقاربك لدى دكتور نفساني أو في إحدى المستشفيات النفسية؟

ومن خلال إجابة المريض على مثل هذه الأسئلة يمكن لنا التعرف على وجود تاريخ مرضي في الأسرة أو وجود عامل وراثي في إصابة المريض بهذه الحالة.

 

هل ينتقل الاكتئاب عبر الأجيال:

قد شغل هذا السؤال علماء النفس، وقد حاولوا الإجابة على مسألة انتقال مرض الاكتئاب بالوراثة عبر الأجيال، ومن خلال الدراسات التي أجريت على التوائم الذين يعيشون معاً، أو ينفصل أحدهم ليعيش في مكان بعيد عن الآخر تبين أنّ الاستعداد الوراثي للاكتئاب يوجد لدى التوائم بغض النظر عن الظروف المحيطة بهم مما يؤكد وجود عامل وراثي قوي يؤدي إلى انتقال الاكتئاب بالوراثة عبر الأجيال.

وفي أبحاث أخرى تم تناول الصفات الوراثية، وطريقة انتقالها من الأبوين إلى الأبناء أو من جيل إلى آخر، وتم دراسة "الجينات" بكلّ الصفات الجسدية والنفسية يتم انتقالها من جيل إلى آخر، ولابدّ أن نعلم أنّ هذه المسألة بالغة التعقيد، وتنجلي فيها قدرة الخالق سبحانه وتعالى، ولم يصل العلم بعد إلى كلّ أسرارها لكننا من الناحية العملية يمكن لنا الاستفادة من هذه المعلومات في التنبؤ في حدوث حالات الاكتئاب، والتخطيط للوقاية منه ولقد قطع العلم شوطاً كبيراً في كشف عملية انتقال مرض الاكتئاب وراثياً، وتم تحديد تفاصيل هذا الانتقال من خلال علم الوراثة، ودراسة الجينات، والكروموسومات التي يتم من خلال انتقال هذا المرض عبر الأجيال.

 

دراسات أخرى حول انتقال الاكتئاب بالوراثة:

هناك من الناحية العملية الكثير من الأسئلة يتم توجيهها إلى الأطباء النفسيين، وتتطلب الإجابة عليها بشكل واضح ومفهوم بالنسبة للمريض وأهله، ومن أمثلة هذه الأسئلة التي تصادفنا في ممارسة الطب النفسي ويصعب علينا الإجابة عليها بطريقة علمية السؤال الذي يتوجه به بعض الراغبين في الزواج حول إمكانية انتقال مرض الاكتئاب إلى الأبناء في المستقبل واذكر هنا حالة فتاة توجهت إليّ بالسؤال التالي:

-         خطيبي يعاني من حالة اكتئاب نفسي، هل أقدم على الزواج منه؟

وسؤال آخر وجهته لي إحدى السيدات المتزوجات، حيث تقول:

-         زوجي تم علاجه من حالة الاكتئاب وتحسنت حالته الآن، فهل يمكن أن يصاب أطفالنا بالاكتئاب؟

وزوج يسأل:

-         والدة زوجتي اقدمت على الانتحار بعد إصابتها بمرض الاكتئاب، فهل هناك احتمال بأن تصاب زوجتي بهذا المرض؟

والواقع إنّ الإجابة على مثل هذه الأسئلة ليست بالأمر السهل خصوصاً أنّ المعلومات أو الكلمات التي سوف يتحدث بها الطبيب النفسي إلى مرضاه يتضمن قدراً كبيراً من المسؤولية عن تغيير حياتهم، وقد تدفعهم إلى اتخاذ قرارات مصيرية تؤثر على مستقبلهم، ومن خلال الدراسات النفسية فإنّ حتى يومنا هذا لا يوجد اختبار معين يمكن من خلاله التنبؤ إذا ما كان المريض النفسي الذي يعاني من الاكتئاب سوف ينجب أطفالاً مصابين بنفس المرض. في إحدى الدراسات العلمية التي تم إجرائها بأسلوب الاستبيان بتوجيه أسئلة معينة تم اختيار مجموعة من مرضى الاكتئاب من الرجال وتوجيه سؤال إلى كلّ منهم وإلى زوجة كلّ منهم هذا نصه:

-         لو إنّك كنت تعلم عن حالتك ما تعرفه الآن، هل كنت ستقدم على الزواج؟

والنتيجة أنّ 9 من كلّ 10 من مرضى الاكتئاب كانت إجابتهم "نعم" بينما كانت إجابة زوجات مرضى الاكتئاب في نسبة تزيد على 50% منهم.. "لا" ومن الظواهر الطريفة التي تأكد وجودها من خلال الدراسات أنّ مرضى الاكتئاب يميل بعضهم إلى بعض عند الاختيار للزواج حيث يصدق المثل المعروف "الطيور على أشكالها تقع" أي أنّ مريض الاكتئاب يميل إلى مَن تتشابه معه في الصفات لتكون شريكة لحياته وهذا يزيد من فرص إصابة الأبناء بالاكتئاب أيضاً، ولا زال هناك الكثير أمام علماء الطب والوراثة ليتم كشف أسرار العوامل الوراثية في مرض الاكتئاب النفسي.

 

الكاتب: د. لطفي الشربيني

المصدر: كتاب وداعاً أيها الاكتئاب

ارسال التعليق

Top