• ٢٠ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١١ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

براعة الإتصال بين الإخبار والإقناع

د. إبراهيم بن حمد القعيد*

براعة الإتصال بين الإخبار والإقناع
   ◄من أروع الدراسات التي إطلعت عليها خلال السنوات الماضية، دراسة لأحد المتخصصين في الإتصال والعلاقات الإنسانية، ألبرت مهرابيا من جامعة كاليفورنيا الأمريكية في مدينة لوس انجلوس. وقد درس هذا العالم قضية الإتصال لأكثر من ثلاثين سنة وقدم لنا نتائج عظيمة تفتح عقولنا على أهمية الإتصال وأثره المباشر في الإدارة والحياة، وكيف نوظف مهاراتنا في تحقيق إتصال أفضل في البيئة التي نعيش فيها. "ألبرت مهرابيا، الرسائل الصامتة، 2000م".

يقول د. مهرابيا: إننا نستعمل اللغة في محيطنا الاجتماعي لثلاثة أغراض رئيسة: للإخبار والإقناع والإمتاع. أما الإخبار فهو أبسط هذه الأغراض وأكثرها مباشرة، حيث يتبادل الناس المعلومات والمعارف. فتقول: السماء صافية اليوم، أعطني الكتاب لو سمحت.. إلخ من أنواع تزويد الآخرين سلباً أم إيجاباً. فنحن نتواصل مع الآخرين بقصد إقناعهم بوجهة نظرنا أو التعاطف معنا أو فهم مواقفنا ولماذا نتصرف بهذه الطريقة أو تلك. واستعمال اللغة لهذا الغرض أصعب أنواع الإستعمال وأكثرها تعقيداً وأهمية.

أما النوع الثالث من الإستعمال فهو إستعمال اللغة لغرض الإمتاع فهي وظيفة اجتماعية معروفة. ومن أمثلة ذلك: تبادل أطراف الحديث بين الأصدقاء في جلسات الإستراحة، تبادل النكات والدعابات، أحاديث الألفة الحميمة بين الزوج وزوجته، وبين أفراد الأسرة.. إلخ. ففي هذه الوظيفة الاجتماعية والنفسية للغة "الإمتاع" قد لا يكون لدى الشخص أخبار أو معلومات جديدة بل يستعمل اللغة في هذا السياق للترابط الاجتماعي والتنفيس عن الضغوط، والتفكير بصوت مسموع.

وقد تمتزج هذه الأغراض الثلاثة في بعض المواقف بحيث يصعب التفريق بينها، أو وضع حدود للبداية والنهاية. وحسب طروحات العالم د. مهرابيا فإنّ الوصول إلى درجة عالية من الإقناع لا يتم إلا عن طريق البداية بالإخبار. ويضرب على ذلك مثل فيقول: إفترض أن هناك مقياس يبدأ من درجة صفر وينتهي إلى أعلى بدرجة مائة. الإخبار يبدأ بدرجة صفر... ثمّ ينقلنا بالتدريج حسب جودة المعلومات وتنظيمها ومدى منطقيتها وتأثيرها ومهاراتنا في تقديمها إلى درجة 20، 30، 70 وهكذا حتى يتم في نهاية المطاف الهدف من الإخبار وهو الإقناع الكامل. لذلك يخطئ الكثير من الناس عندما يظنون أنهم عندما يتحدثون للآخرين ويخبرونهم أنهم بذلك يستطيعون إقناعهم. إن مجرد الإخبار لا يعني الإقناع البتة. بل إن استعمال اللغة للإقناع فن يحتاج للكثير من التخطيط والمهارات المتخصصة والتجارب. أنظر إلى الطريقة التي يستعملها بعض المراهقين الأذكياء لإقناع آبائهم وأمهاتهم للإستجابة لطلباتهم. انظر إلى الطريقة التي يستعملها بعض المدراء المتمرسون لتحفيز موظفيهم على الإنتاج والإنجاز والإبداع.: أنظر إلى الطريقة التي يستعملها بعض الدعاة المتمزين في إقناع الناس والتأثير عليهم. أُنظر إلى الطريقة التي تستعملها بعض النساء المتمكنات في إقناع أزواجهن.

هل إستعمال اللغة فقط في هذه الأمثلة يكفي تحقيق درجة الإقناع المطلوبة، أم أن هناك أموراً أعمق من قضية اللغة؟ إنّه نمط الشخصية، ودرجة العلاقات، ومستوى الثقة ورصيد التعامل وأسلوب الطرح واختيار الوقت المناسب وقد يكون مزيج من هذه الأمور جميعها أو بعضها هو الذي يصنع الفرق، وهو الذي يأخذك من أسفل درجة مقياس "الإخبار – الإقناع" إلى درجة مرتفعة.

كيف تستطيع أن تنتقل بسرعة في المقياس من بدايته إلى درجة مرتفعة، وتكون على درجة كبيرة من الإقناع. فكّر بالأمور التالية:

1- استعن بالله دائماً في جهودك لإقناع الآخرين. فقلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن. وهو سبحانه وتعالى الذي يلين القلوب ويفتح الأذهان، ولا نستطيع مهما كانت قدرتنا أن نقنع الآخرين إذا كانت مشيئة الله سبحانه وتعالى تسير في إتجاه مغاير. تذكر أن حبيبنا محمد (ص) لم يستطع مع ما أوتي من شخصية مقنعة، وبما أيده الله من وحي ومعرفة أن يقنع عمه أبا طالب لدخول الإسلام. قال سبحانه وتعالى في هذا السياق: (لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) (القصص/ 56). ولا شك أنّ العاقل يعرف حدوده ويفعل ما يستطيع ويترك النتائج لمشيئة الله.

2- عليك بالإنصات فهي مهارة عظيمة في التأثير الإيجابي على الآخرين، وبقدر ما تنصت للآخرين وتشجعهم على التعبير عن أنفسهم يزداد تأثيرك عليهم وقربك منهم وهذا بالتأكيد يمثل أرضية جيدة للإقناع.

3- كن صادقاً مع نفسك ومع الآخرين. إن مجرد إقتناع الآخرين بأنك صادق يجعلهم يثقون بك، ويستمعون إليك، ويحملون ما تقول محمل الجد والأهمية. وعلى العكس تماماً عندما يكتشف الآخرون أنك كاذب ومخادع تسقط مصداقيتك في عيونهم وستكون جهود الإقناع التي تبذلها عديمة الجدوى. فإذا رغبت بعد ذلك في إسترداد مصداقيتك فإن ذلك سيكلفك الكثير من الوقت والجهد، وقد لا توفق لاستعادة هذه المصداقية. وصدق من قال: إعتبر سمعتك كإناء من زجاج وعليك بحمايته بكل الطرق عن الكسر أو الخدش، فإن إنكسار هذا الإناء له تأثيرات مدمرة على شخصيتك. إنّ بناء الثقة مع الآخرين جسرك العظيم للتأثير والإقناع والقبول.

4- كن منطقياً في طرحك. فالطرح المنطقي، واستعمال اللغة المناسبة، وعدم المبالغة وعدم الإفراط في الطلب، وتقدير ظروف وإمكانات ومصالح الطرف الآخر له تأثير كبير على الإنتقال سريعاً في درجات المقياس والوصول به إلى درجة عالية من الإقناع.

5- عليك بالإهتمام بمصلحة الطرف الآخر. إبدأ أوّلاً بفهمه وفهم ما يريد وما يهتم به. إنّ الوصول إلى أفضل الاتفاقات والنتائج، والحلول الإقناعية يبدأ دائماً بأخذ مصلحة الطرف الآخر بالاعتبار. لا تفكر بمصلحتك فقط، إبحث عن الحلول التي تلتقي فيها المصالح. ويعجبني في هذا السياق فكرة الكاتب الأمريكي الشهير ستيفن كوفي في كتابه "العادات السبع للأشخاص الأكثر تأثيراً" والتي تتلخص في ما أسماه "الحلول المبنية على التوازن بين المصالح" والذي يعتبر كل طرف فيها أنّه رابح Win – Win Agreement. إنّ تقدير مصلحة الطرف الآخر، ووضع نفسك في مكانه يتيح لك مجال رحب من الوسائل الإقناعية الملائمة.

6- خطط عملية الإقناع. وهذه قضية مهمة وربما كانت هي الأولى في الإعتبار من ناحية إجرائية. كيف تبدأ ومتى وأين؟ وهل تحتاج إلى مفاتحة أولية للتفكير؟ وهل يحتاج الأمر معلومات متتالية على فترة طويلة من الزمن؟ وهل يكون الأمر مباشراً أو غير مباشر؟ إنّ التخطيط لعملية الإقناع يفترض أن تضع كافة الإستراتيجيات اللغوية وغير اللغوية في العمل. وتختلف عملية التخطيط هذه باختلاف الموضوع، فبعض الموضوعات لا يحتاج إلى الكثير من التخطيط أو الجهد، والبعض الآخر تحتاج إلى وقت طويل وجهود حثيثة. ومن الملاحظات الدقيقة هي أن أكثر الناس براعة إتصالية وتأثير في الآخرين لديهم طرقهم المنظمة ولديهم خططهم في التعامل مع الآخرين وإقناعهم والتأثير عليهم.►

 

المصدر: كتاب (دروس ثمينة في تحقيق التميز والنجاح في الحياة)

  * الرئيس التنفيذي لشركة دار المعرفة

ارسال التعليق

Top