العامل الأوّل:
الأسرة، والبعض من علماء النفس يسمونه بالوراثة، ومثالهم في ذلك أنّ الطفل يأتي ومعه كثير من عادات أسرته التي عاش في كنفها، وهذا اعتقاد خاطئ لأنّ العوامل النفسية لا تورث بل تكتسب اكتساباً. وهنا نعرض مثالاً قابلاً للتجربة إنّ الطفل منذ أيامه الأولى لو لم يترعرع ضمن أسرته، لما أتى بعادات وسمات كالتي لدى أبيه وأمه. ونقول أزاء هذا أنّ السمات النفسية مكتسبة، فالطفل يتأثر بجو أسرته ويكتسب العادات والسمات عبر نموه وتطوره من هذه الأسرة.
العامل الثاني:
ولا ننكر دوره ألا وهو البيئة، فهي التي تعطي الإنسان الإمكانية، والاحتياطات الأساسية وتمكنه من التفوق على الصعوبات، وتجد الإنسان دائماً متفاعلاً مع البيئة فإذا ما أتت الظروف معاكسة نجده دائماً يغيّر ويحوّر من مواقفه ليتلاءم والبيئة التي يعيش فيها.
نعود للأسرة التي هي الركيزة الأساسية في حياة الطفل، وبالذات دور الأُم لمعرفة ما مدى التأثير الحاصل في شخصيته. قلنا إنّ الأُم لا تعطي الطفل فقط الغذاء والكساء والحفاظ على نظافته، إنما هي أيضاً ينبوع العطف والحنان الذي يلف الطفل ويغمره، ومن خلال علاقة الطفل بأُمّه تتشكل لديه أطر العلاقات اللاحقة مستقبلاً برمتها. مع المجتمع ومع مَن سيتعامل معهم، فالعلاقة بين الطفل والأُم هي البذرة التي تنشأ كلّ العلاقات الاجتماعية منها وعلى نمطها، فإنّنا مثلاً نتصوّر أنّ الشخصية القاسية العنيفة تنشىء لنا في الأغلب أما شخصاً متردداً لا يعرف كيف يتصرف في المواقف لأنّه دائماً يحتاج إلى موجه ولأنّه لا يستطيع اتخاذ القرار بذاته وقد تصل به الحالة إلى درجة من الوسوسة ويتردد في أي عمل أو فكرة عدة مرات وعلى النقيض من ذلك لو كانت الوالدة متسامحة وسهلة أكثر من اللازم ولا تستطيع أو لا تريد أن توجه كما يحدث بالنسبة للوالدة التي حصلت على طفل وحيد، أو على طفل من نوع كانت متشوقة إليه فتتجه إليه بعواطفها وتدلله وتخضع لرغباته دائماً، فهذا ينطبع بالتالي على الطفل، ليتصوّر أنّ وجوده يكفي لتحقيق كلّ رغباته لأنّ وجوده في هذه الأسرة كان كافياً، تمتد معه ليتصوّر أنّ وجوده في المجتمع كافٍ لتحقيق كلّ رغباته. وهذه النظرة غير واقعية لأنّ المجتمع له أصوله وقواعده وتقاليده وله لوائح وقوانين، واحد هذه القوانين أنّ الجهد هو السبب في النتيجة وليس مجرد الموجود.
وعلى هذا الأساس نجد الطفل عندما ينشأ ويصبح شخصاً ناضجاً يتميز غالباً بالشخصية الهستيرية التي تبالغ في المظاهر وفي تقييم ذاتها ونراه أنانياً يحب ذاته ولا ينظر إلى المجتمع إلّا من خلال مصالحه وذلك يشكل عبئاً نفسياً عليه ويسهل عند تصادمه بالمجتمع حدوث الانهيار النفسي له.
والحديث هنا ينقلنا إلى العلاقة بين الزوجين وهل لها تأثير على تربية أولادنا أم لا، إذا كانت شخصية كلّ من الوالدين لها تأثير على الأولاد. نحن نعلم إذا كان في الأسرة طفل واحد فيكون عادة هناك ثلاث علاقات مزدوجة، علاقة بين الأب والابن وعلاقة بين الأُم والابن وعلاقة بين الأب والأُم والعكس بالعكس.
وهذه العلاقات المزدوجة تتأثر بأي اضطراب ولكن ليس بالضرورة أنّ الشخص الذي يتأثر هو الشخص المندمج في العلاقة، فقد تكون العلاقة بين الزوجين سيئة. ويتأثر الطفل دون أن يتأثر الوالدان نفساهما. وعلى هذا الأساس نتوقع أن يكون الأضعف دائماً في التركيب النفسي هو الأكثر استعداداً للانهيار النفسي عند حدوث أي اضطراب في الأسرة ونتوقع أن يكون الطفل الحلقة الأضعف في سلسلة العلاقات الأسرية.
ومن الممكن أن تكون العلاقة سيئة أو تسوء مرة واحدة أو سيئة بشكل مستمر ومزمن وهذا هو الأخطر على التركيب النفسي للطفل، لجملة اعتبارات أولها إحساس القلق الذي يصبح إحساساً مستمراً لديه، فيشعر أنّه يعيش في مجتمع غير آمن وغير مستقر ومن الممكن أن يحدث فيه أي شيء في أي لحظة، ومن الممكن أن ينفعل أحد الوالدين أو كلاهما أو يهجر أحدهما البيت أو أن تنهار الأسرة في لحظة أو تظهر بوادر عنف في العلاقات وكلّ هذه المظاهر تؤكد للطفل أنّه يعيش في مجتمع آمن، والأمان والاطمئنان هما الأساس لتشكيل التركيب النفسي السليم، وأنّ القلق الشديد والمستمر يخل بهذا الاتزان النفسي. ومع الاختلال من المتوقع أن تحدث عدة انهيارات أو انهيار نفسي من مظاهر مختلفة وقد تنشأ لدى الطفل عودته إلى سلوك سابق قد تركه وهو ما نسميه بالنكوص.
فقد يصبح الطفل معتمداً على الآخرين أو قد يصبح رافضاً للآخرين بشكل مرضي، أو قد يصاب بنوبات من الكآبة والاكتئاب التي تصيب الأطفال كما تصيب الكبار. وقد وصف في أكثر من شكل في مراحل الطفولة الأولى المبكرة، ووصف بالشكل النمطي للاكتئاب في سن السابعة، وكلّ هذه علامات منذرة بأنّ هناك شيئاً ما.
وإذا وصلنا إلى مرحلة الشباب، فإنّ تأثير الوالدين بالطبع أقل في هذه المرحلة، وخاصة إذا كانت العملية سوية في المراحل السابقة.
وعندما تصاب الأسرة بموقف نفسي صعب فالذي ينهار عادة هو الشخص الذي يمثل الحلقة الأضعف. والمتوقع غالباً أن يكون الطفل كما ذكرت، ولكن هذه الحلقة من الممكن أن تكون الأُم أو قد يكون الأب ولنفرض بأنّ هناك خلافاً بين الأب والابن ويقال للابن بأنّه يجب أن يتحمّل لأنّه الأصغر، فهذا ما جرى عليه العرف. ولكن يجب أن ندرك أنّ الطفل قد يتحمّل جسمانياً ولكنه قد لا يتحمّل نفسياً، والعكس صحيح والدليل على ذلك أنّ كثيراً ممن يصابون في سن متقدمة – سن الخمسين – بأزمة نفسية تتحوّل هذه الأزمة إلى أزمة وإصابة جسمانية، فهل مثل هذا الشخص، نقول أنّه أكثر أو أقدر احتمالاً أو أكبر سناً.. لا.. المهم النضج النفسي أو الاتزان النفسي.. والذي قد يتحقق في سن متأخرة.. فالشخص الأكثر اتزاناً هو الذي يستطيع أن يتحمّل أكثر.
ليتنا ندرك ونعمل بحقيقة معنى وعمق طبيعة كلمة الأُم وكلمة الأب وكلمة الأسرة حقاً. وعندئذٍ نجد الأمل والطريق الطبيعي نحو تربية أولادنا.. وسيأتي يوم يكون فيه أبناؤنا آباء لأولادهم وآباء لنا بمحبتهم ومودتهم..
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق