◄العدل صفة من صفات الله. ولقد ورد ذكر كلمة العدل ومشتقاتها في القرآن الكريم 48 مرّة. فالله (يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ) (النحل/ 76و90). ويدعو القرآن الكريم الناس إلى الحكم بالعدل ويقول: (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) (المائدة/ 8). (وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) (النساء/ 58).
والرحمة صفة أخرى من صفات الله. ولقد ورد ذكر كلمة الرحمة ومشتقاتها في القرآن الكريم 339 مرّة. فالله (كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) (الأنعام/ 12). وهذا الالتزام الإلهيّ بالرحمة ورد في السورة ذاتها مرّة ثانية تأكيداً لمعناه، (فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) (الأنعام/ 54).
ولقد وصف الله نفسه بأنّه الرحمن الرحيم، وأنّه (الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ) (الكهف/ 58) فربط، كما تبيّن الآية، بين الغفران والرحمة. ذلك أنّ الغفران هو من تجلّيات الرحمة. ولم يرسل الله الرُّسل والأنبياء (إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء/ 107). لذلك، يدعو الله حتى أُولئك الذين ذهبوا بعيداً في المعصية وأسرفوا على أنفسهم أن (لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ) (الزمر/ 53)، فالله (وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا) (غافر/ 7).
ولو أنّ الله يحاسب الناس بالعدل، لعذّبهم بذنوبهم. ولكنّ الرحمة التي كتبها الله على نفسه، تجعل المؤمنين يتأمّلون برحمته أكثر ممّا يتطلعون إلى عدله. (قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (الأعراف/ 149). أي أنّ الله لو تعامل مع الناس بالعدل فقط لكانوا من الخاسرين. ولكنّ مشيئة الله أن يتعامل مع عباده بالرحمة، لأنّه غفّار رحيم. (وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) (المؤمنون/ 118). فلا غفران من دون خطيئة. ولا خطيئة من دون حساب، ولا حساب من دون عدل... غير أنّ الله برحمته يغفر الذنوب جميعاً.
لم يقف القرآن الكريم في تأكيده (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ) عند هذا الأمر المبدئي فقط، ولكنّه يربط الأمر بالعدل، بالأمر بالإحسان، (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ) (النحل/90). وإذا كانت الرحمة من الإحسان الإلهي، فإنّ من الإحسان الإنساني البحث عمّا يسميه القضاء المدني «الأسباب التخفيفية» للمرتكب، وتوظيف الشكّ في مصلحة المتهم. وفي مقدّمة ذلك كلّه، التنازل عن الحقّ من أجل تحقيق الإصلاح وإرساء قواعد السّلم العام. ويشكّل هذا التنازل الركيزة التي تقوم عليها العدالة الانتقالية.
هناك حديثان لرسول الله محمّد (ص) يربطان رحمة الله للإنسان، برحمة الإنسان للإنسان. يقول في الحديث الأوّل: «ارحموا مَن في الأرض يرحمكم مَن في السماء». فالطريق إلى رحمة الله تمرّ عبر رحمة الإنسان أخاه الإنسان، بل إنّ ممارسة الرحمة الإنسانية مدخل أساس لاستحقاق الرحمة الإلهية. ويقول في الحديث الثاني: «الراحمون يرحمهم الرحمن»، وفي ذلك تشديد واضح ومباشر على العلاقة المباشرة بين الرحمة الإلهية المنزّلة على الناس، والرحمة الإنسانية المتبادلة بين الناس.
يقدّم التاريخ الإسلامي نماذج حيّة على ذلك. فالنبيّ محمّد عندما عاد منتصراً من المنفى القسري في المدينة المنوَّرة إلى مكّة المكرَّمة التي اضطهده المشركون من أهلها، وعذّبوا المؤمنين به ونكّلوا بهم، لم ينتقم من أحد منهم، ولم يعاقب أيّاً منهم. ولكنّه على العكس من ذلك، آمنهم على أنفسهم وممتلكاتهم، وردّد عبارته الشهيرة: «اذهبوا فأنتم الطلقاء».
وفي صلح الحديبية، تنازل النبيّ عن الحقّ من أجل السلام، عندما وافق على أن لا يذكر لقبه النبويّ إلى جانب اسمه، في نصّ معاهدة الصلح.
العدل والرحمة والإحسان من الصفات الإلهية العظيمة التي أراد الله تعالى للناس أن يعيشوا روحها ومضمونها العملي في أكمل صورة، بأن ينعكس ذلك على واقع حالهم إحساناً وخيراً وسلاماً وسعادة، بما للعدالة والرحمة والسلام من أهمية كبيرة في حفظ المجتمع واستقرار الإنسان وتوازن الحياة، لأنّ عكس ذلك يعني الظلم والخوف والقلق والفوضى التي لا تجلب إلّا الدمار وتهديم البنيان الإنساني والحضاري.
واليوم، ما أحوجنا إلى أن نلتفّ حول العدل والرحمة، وأن نستقي منهما كلّ معاني الخير والتواصل الحيّ الذي ينعكس سلاماً روحياً من خلال إطلاق الكلمة المسؤولة والموقف المسؤول والواعي والحكيم الذي يعيد الحقّ إلى نصابه، ويتجاوز كلّ الحسابات حفاظاً على السلام والوئام، بما يفسح المجال للحياة أن تستمر وتتقدّم بالشكل الطبيعي دون عوائق، ولقد كان لنا في رسول الله (ص) والأئمّة من أهل بيته (ع) والعلماء الصالحين المجاهدين الصابرين قدوة حسنة في تأكيد إقامة العدل والسير في خطّ الرحمة والإحسان، لما فيه من إقامة أمر الدين وخير الإنسان والحياة.
وعن صياغة الشخصية الإسلامية على أساس العدل والرحمة، يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز، وهو يخاطب الذين آمنوا من عباده: (يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَآءِ للهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالاْقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً) (النساء/ 135).
تندرج هذه الآية المباركة في سياق الآيات التي تؤكّد أنّ على المؤمنين ضرورة صياغة شخصيتهم الإسلامية على أساس العدل، ليكونوا الصورة الحقيقية للعدل في كلّ ما يتحرّكون به في واقعهم العمليّ، سواء مع الأقربين من الناس، أو مع الأبعدين منهم. والعدل هو الهدف الكبير للحياة في تطلّعات الإسلام وأهدافه؛ حيث قال تعالى في آية أخرى: (لقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) (الحديد/ 25)، وقد بيَّن سبحانه فيها، أنّ الهدف من إرسال الرُّسل والرسالات إنّما هو قيام الناس بالقسط، وهو العدل.
(يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ)، أي كونوا قائمين بالعدل؛ بأن تجعلوا حياتكم قياماً به، من أجل أن يستوعب كلّ علاقاتها ومعاملاتها وأعمالها وأقوالها، بحيث تتحوّل كلّ نشاطاتكم إلى حركة دائبة في هذا السبيل.
(إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً)، فلا يفكِّر الإنسان ـ أمام خطّ العدل ـ في أن يشهد لمصلحة الغنيّ لغناه، أو ضدّ مصلحته من أجل العقدة الذاتية تجاهه، أو يشهد للفقير على أساس العاطفة التي تتفاعل إنسانياً وعاطفياً مع مظاهر الفقر وآلامه، ممّا قد يوحي بالانحراف عن الحقّ. (فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا)، فإنّ الله هو الذي يتكفّل بمصالح عباده برحمته التي تشملهم جميعاً؛ وتلك هي حكمته التي ارتكزت على أساس أنّ الانحراف عن العدل، مراعاة لبعض الخصوصيات، يُسيء إلى المستفيدين منه في المستقبل أكثر ممّا ينفعهم، (فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ)، بل اتبعوا الحقّ الذي يقودكم إلى العدل.
وعن مجتمع الرحمة، يقول الإمام الكاظم (ع) في وصية لتلميذه هشام بن الحكم : «يا هشام، مكتوب في الإنجيل: طوبى للمتراحمين، أُولئك هم المرحومون يوم القيامة»؛ هؤلاء الذين يعيشون في مجتمعاتهم ليرحم بعضهم بعضاً. وقضية الرحمة في الإسلام هي من القضايا القيميّة الممتدّة في كلّ جوانب الحياة. ونحن نعرف أنّ الرسالة كلّها، والرُّسل كلّهم، هم رحمة للعالمين، قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء/ 107)، هم رحمةٌ في الخُلُق، وفي القيمة، وفي الأسلوب الذي يلين فيه القلب، ويلين فيه اللّسان، وقد قال تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) (آل عمران/ 159)... أن ترحم الإنسان الآخر، بأن ترحم عقله، لتخاطبه بمستوى عقله، وأن ترحم قلبه، لتفهم طبيعة التعقيدات والهموم أو الأحزان التي تعيش في قلبه، وأن ترحم واقعه، فتقدّر ظروفه في حركة الواقع، كما أنّك ترحمه لتشفق عليه، وتساعده، وتضمّد جراحه، وتخفّف آلامه. ولذلك فإنّ كلمة (الرحمة) هي الكلمة التي تدخل في مفاصل علاقات المجتمع بعضه مع بعض، والله سبحانه وتعالى يريد للمجتمع أن يرتكز على أساس الرحمة، ليكون المجتمع هو المجتمع المتراحم فيما بين أفراده.►
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق