• ٢٠ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٨ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

تأثير الشعر في النفس وانعكاسه على المجتمع

عبدالمجيد التجار*

تأثير الشعر في النفس وانعكاسه على المجتمع
◄الشِّعر صوت القلب، ولسان العاطفة، وترجمان خلجات الوجدان. والشاعر طائر يحلق في كل جوّ ورسّام حاذق تعبِّر ريشته من خلال أحاسيسه فترقص مع الفرح وتبكي مع الحزن فينعكس هذا التأثير على المجتمع خاصة إذا اعتمد الشاعر المعنى الرفيع من خلال حِسِّه المرهف وسبكه في صيغته المناسبة وبذلك يدخل إلى قلب السامع ويؤثر فيه تأثيراً يكاد يرقى به في كثير من الأحيان إلى مستوى مشاعر الشاعر وأحاسيسه. وميدان الشعر واسع في هذا المجال فكم أضرمت الحربَ أبياتٌ من الشعر وكم بسطت أكفاً لم تتعود العطاء وكم أدمت المآقي التي قلَّما تُبكيها الأحزان. كم حملتنا أبيات من الشعر على أجنحة الخيال وكم هزَّت النفوس وأيقظت الوجدان!!! يروي لنا التاريخ عن حرب البَسوس التي دامت أربعين عاماً بين بكر وتغلب أنها كانت نتيجة الحميّة التي استثارتها البسوس بسبب سهم متعمَّد أصاب ضرعَ ناقتها وإنشادها بانفعال وحسرة وتحريض: ولو أنني أصبحت في دار منْعَة *** لما ضيمَ زيْدٌ وهو جارٌ لأبياتي ولكنني أصبحت في دار غربةٍ *** متى يعدُ فيها الذئب يعدُ على شاتي صورة أخرى من تأثير الشعر على الملوك والخلفاء وذوي السلطان؛ تروي لنا الكتب القديمة أنّ الخليفة الرشيد وهو على ناقته في بعض أسفاره طلع عليه أعرابي واستوقفه منشداً: أغيثاً تحملُ الناقةُ أم تحملُ هارونا؟ أمِ الشَّمسَ أم البدرَ أمِ الدُّنيا أم الدِّينا؟ فسُرَّ الرشيد وأمر له بعشرة آلاف درهم وكم كان من الصعب أن يحصل عليها أعرابي بهذا السخاء ومن هارون الرشيد. والشِّعر النابعُ من الإحساس الصادق قادرٌ على تحويل السرور إلى حُزْن فما قولك لو أصغيت لمن نشاهده وهو يُسَجي جثمان أمِّه في القبر قائلاً: رأيتُ حنانَ الأم ينزل في القبرِ *** فأحسَسْتُ أنّ الرُّوح تُنزعُ من صدْري ألا تحزن من الأعماق مع هذا الذي يودع حنان الأم الوادع الأخير؟ والشعر يمتلكُ من القدرة ما يجعلك تزداد إيماناً بالحقِّ في الدفاع عن الفكر، عن النفس، عن الوطن عندما تسمع القول: أرهبْ عَدوَّكَ في الرِّباطِ تُعِدُّهُ *** والخيل رَخٌ جاثمٌ وسُنونو لو لم يكن حقٌّ الدِّفاع مُقدَّساً *** ما كان للحملِ الوَديعِ قرُونُ وإذا ما عدنا إلى العطاء والسخاء ومساعدة الإنسان للإنسان ألا نجِدُ الأبيات التالية تحُضُّ عليه وتجعلك تشارك الآخرين في السَّراء والضَّراء؟ مِن حبَّة القمح اتخذ مثلَ الندى *** يا مَن قبضتَ عن النَّدى يُمناكَ هي حبَّةٌ أعطتكَ عَشْرَ سنابلٍ *** لتجودَ أنت بحبَّةٍ لسواكَ وكأنّما الشِّقُّ الذي في وسطِها *** لك قائلٌ يضفي يخُصُّ أخاكَ والشعر قادرٌ على تغيير قناعات الكثيرين من الناس فممّا يُروى عن قبيلة أنف الناقة التي كان يخجل أفرادها من نسبهم إليها ما قاله الحُطيئة مادحاً: قومٌ همُ الأنفُ والأذنابُ غيرُهُمُ *** ومَن يُساوي بأنف الناقة الذَّنَبَا؟ فقد أصبحوا بعد أن ذاع هذا القول يفتخرون ويُباهون بنسبهم. والمثلُ عن بني النُّميرْ مشهور فكم كانت هذه القبيلة تفخر بنسبها وتباهي به حتى كان ما قاله جرير في قصيدته التي هجابها بعض أفرادها: فغضَّ الطَّرْفَ إنَّك من نُميرٍ *** فلا كعباً بلغتَ ولا كلابا فأصبح أفراد هذه القبيلة يخجلون من نسبهم إليها. أمّا قصّة التاجر الذي قدم المدينة متاجراً بكمية كبيرة من الخُمُر السُّود فقد رواها بعضُ الظُّرفاء بأنّ هذه الخُمُر كسدت وصعُبَ بيعُها ولكنها بيعت بسرعة ونفدت جميعها بعد أن ذاع قول الشاعر فيها: قل للمليحة في الخمار الأسود *** ماذا فعلت بناسكٍ متعبدِ؟ قد كان شمرَّ للصلاة ثيابه *** حتى وقفتِ له بباب المسجدِ؟ وسما الشعر إلى أعلى المراتب عندما تأثر به الأنبياء والرسل فقد روت لنا الكتب أنّ النبي محمداً (ص) عفا عن كعب بن زهير الذي كان محكوماً عليه بالموت ومرَّ به وأكرمه بعد أن أنشده قصيدته المشهورة التي مطلعها: بانت سعادُ فقلبي اليوم متبولُ *** متيَّمٌ إثرها لم يُفد مكبولُ وما سعادُ غداة البين إذ رحلوا إلى آخر القصيدة.. كما عفا هذا الرسول العظيم المرهف الحِسّ الكبير القلب عن أسرى وقعة "حُنين" عندما أنشده كبيرهم قصيدته التي يقول فيها: وامتن علينا رسول الله في حرمٍ *** فإنك المرء نرجوه وننتظرُ أمنُن على نِسْوةٍ قد كنت ترضعُها *** يا أرجح الناس حِلماً حين يُختبرُ ومما روته كتب الأدب بصدد تأثير الشعر في النفس إلى الدرجة التي تجعل السامع يهتم اهتماماً كبيراً بمن كان اهتمامه به عادياً: أن أعرابياً كان فقير الحال وغير معروفٍ بين قومه فنصحته زوجته أن يستضيف شاعراً معروفاً وأن يكرمه علَّه يكون سبباً في لفتِ أنظار الناس إليه فاستضاف الأعشى وأكرمه رغم فقره فلما علم الأعشى بُؤسه وسوء حاله ورأى ما رأى من سخائه قال فيه في سوق عكاظ: أرقتُ وما هذا السهاد المؤرِّق *** ومابي من سُقمٍ ومابي مَعْشقُ ترى الجودَ يجري ظاهراً فوق وجهه *** كما زان متن الهندواني رونقُّ فأقبل الناسُ على هذا الأعرابي يسألون عنه ويتعرفون عليه ويباركون كرَمَهُ حتى صاروا يلتمسون وُدَّه ويتسابقون لخطبة بناته. وهكذا فقد كانت للشعر القدرةُ التي تجعل من النكرة معرفة ومن المغمور انساناً ذا شهرة واسعة. أما بعض الكتب السماوية فقد روت أن أخصام النبي محمد (ص) عندما كان يعجزهم قوله وسحر بيانه لا يجدون حُجة لهم تجاه هذا الاعجاز إلا أن يقولوا: إنّه شاعر وهذه شهادة للشعر عظيمة كادت ترقى به إلى أعلى الدرجات. وأخيراً وليس آخراً فإن دلَّ تأثير الشعر على شيء فإنما يأتي ليؤكد أنّ الشعر الأصيل المميز ببلاغته ورقة لفظه وحسن سبكه واشتماله على الخصائص البديعة يؤثر في النفس ويثير العواطف ويمضي بالسامع إلى حيث يقصد الشاعر: ففي الحماسة يدفع الشعر إلى حُبِّ القتال. وفي الغزل يستمتع السامع ويكاد يذوب رقة ووجدا. وفي الفخر يمتطي مع الشاعر أجنحة الخيال إلى النجوم والكواكب. وفي الرثاء يسيطر الحزن والأسى عليه وفي المديح كم تجود أكفٌ لم تتعود العطاء. وفي الاستعطاف كم تتحرك الرحمة ويستيقظ الوجدان. فالشاعر الصادق المؤمن بما يقول يمتلك من القدرة استطاعة تمكنه من توجيه المجتمع والتأثير عليه، وهو يعكس ما في أصغريه قلبه ولسانه وربما كان في هذا من التأثير ما هو أقوى وأمضى من كل سلاح.   *أديب وشاعر من سورية، له عدد من الاعمال الشعرية، ينشر دراساته وأشعاره في الدوريات المحلية والعربية.

تعليقات

  • سما ايمن

    شكرا لكم على المعلومات المفيدة

ارسال التعليق

Top