◄"ثمة مسألة أهم في عصرنا هذا، وهي مسألة القلوب بين أبناء الأُمّة الإسلامية"
فقد أعطى الإسلام أهميةً كبيرةً لمسألة التآلف بين القلوب، لما لهذه الأُلفة من دور بالغ الأثر في توحيد المسلمين، وتوجيههم الوجهة المطلوبة. إنّ هذا الاهتمام جاء امتداداً لتلك المراحل الصعبة التي تمخّضت عن ظهور الدين الإسلامي الحنيف وانتشار صيته في جميع الأطراف.
فقد ألّف الإسلام – حين ظهر – بين قلوب من أثبتوه واتّخذوه ديناً لهم، فجعل منهم جماعة متآلفة، يعاون بعضهم بعضاً وينصره ويؤازره، حتى كان لهم من ذلك يوم ظهروا بمكة – وهم قلّة مستضعفة – منعة حفظتهم من شرور أعدائهم، وقوة أظهرتهم وردّت عنهم كيد خصوصهم الأقوياء، ولولا ذلك التآلف لقضي عليهم في مهدهم، وانتهى أمرهم في أوّل عهدهم.
ثمّ استمر ذلك التأليف بين قلوب المسلمين بإشراف مباشر من سيد الكون النبي الأكرم (ص) بعد الهجرة إلى المدينة المنورة بشكل أجلى مظهراً، وأوسع مجالاً، وأبعد أثراً، وأشدّ قوة، بما عقد بين المهاجرين والأنصار من التآخي والتآلف والمشاركة في الأموال، والمناصرة في القتال، والدعوة لنشر الإسلام، والوصول إلى تلك الأهداف السامية التي جاء بها نبيهم الكريم (ص).
إنّ التآخي والتآلف بين قلوب المسلمين إنّما هو المرحلة الأولى والخطوة المتقدمة على تحقيق الحدّ الأدنى من التعايش السلمي داخل المجتمع الواحد. إذ إنّ التعايش يمكن تقسيمه إلى قسمين: عملي وعلمي، فالأوّل يحصل على مستوى الجماهير ونخبها وبكل الميادين التطبيقية، بينما الثاني فيقتصر على النخب والحكومات واللجان ذات الطابع العلمي، وربّما السياسي والاجتماعي.
وقد أطلق الإسلام في حملته السلمية مبدأ التعايش السلمي مع كلّ المكوّنات البشرية، حتى أتباع الديانات والثقافات غير الإسلامية: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا) (الحجرات/ 13)، سواء بصورة أُلفة قلبية ومسالمة، أو بصورة عقود وعهود تعايش، وتبادل خدمات وضرائب مالية و...
نعم، بالنسبة إلى الحربيين فموضوع التعايش السلمي منتفٍ؛ لأنّهم إمّا يستقرّون خارج الحدود الإسلامية، فلا احتكاك بينهم وبين المسلمين، والنتيجة لا تعايش، وإمّا أن يكونوا في نزاع مع المسلمين وحروب، وحينئذٍ لا تعايش سلمي معهم وهو واضح.
إذن عدم التعايش مع الحربيّين هو طبيعي ومتناسب مع طبيعة الحرب التي تبرّر الكثير من الممارسات والأحكام.
وأمّا غير هؤلاء، ممّن هم مسالمون مع المسلمين، ولم يرفعوا سيفاً ولم يثيروا ضغينةً ضدهم، فهم يتمتّعون بكامل الحقوق في ظلّ الدولة الإسلامية ولو كانوا على دين آخر، وكان لهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين، بل لهم مطلق الحرية في ممارسة شعائرهم الدينية وممارساتهم المذهبية، ولم يوجد نصّ ديني واحد يصرّح بمنع أهل الذمة حقوقهم كمواطنين، بل إنّ مواقف النبي الأكرم (ص) وأهل بيته (عليهم السلام) والصحابة تستبطن الدعوة إلى معاملتهم كإخوة في الدين.
وأمّا ما يثار من وجود تفريق فهو لا يتعدّى في بعض الموارد الفقهية المتعلّقة بالقضايا المالية (الجزية) أو الأحوال (منع الزواج منهم) وهي موارد محدودة، قائمة على فلسفة خاصة من يريدها يطلبها في مظانّها.
فإذا كان الإسلام ورؤيته العادلة، ودعوته المؤكّدة على مؤاخاة أهل الذمّة، وضرورة التعايش السلمي معهم، فهو إلى أطراف المسلمين آكد ولا شكّ. وهل ثمة دعوة أوضح وأوسع وأعمق من الإسلام حينما يقرّر القرآن الكريم: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) (الحجرات/ 10).
ويصف أصحاب الجنة والفوز الأبدي: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ) (الحجر/ 47).
فالتآلف (نزع الغلّ من القلوب) ثمّ الأُخوّة (إخواناً) وبعد ذلك جسّدوا التعايش السلمي الذي يعبّر عنه القرآن بـ(عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ).►
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق