• ٢٢ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢٠ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

تبادل الأسرى.. لغة القوة فقط

نواف الزرو

تبادل الأسرى.. لغة القوة فقط

في المشهد الصراعي الفلسطيني مع الدولة الصهيونية، نتابع كيف قامت تلك الدولة منذ البدايات بـ"أكبر عملية اعتقال جماعي في التاريخ الحديث"، فاعتقلت نحو مليون فلسطيني أمضوا نحو مليون سنة اعتقالية وراء القضبان الصهيونية، كما نتابع في هذا السياق حكايات الدم والألم والبطولة في معتقلات الاحتلال الصهيوني، وحكايات المفاوضات والمعركة على ما أطلق عليه "الأسماء من العيار الثقيل، أولئك الملطخة أيديهم بالدماء اليهودية"، وكيف ارتهن مستقبل آلاف الأسرى الفلسطينيين في مهب رياح المعايير الإسرائيلية.

وكنا نتساءل دائما:

هل تنجح دولة الاحتلال في فرض شروطها وتحافظ على" تابو" الإفراج عن معتقلين فلسطينيين؟ أم ينجح الفلسطينيون في تحطيم هذا "التابو" أيضا بعد أن بددوا وهم الردع الإسرائيلي في معارك سابقة؟

معسكرات اعتقال جماعية

في إطار حروبها المفتوحة على الشعب الفلسطيني وقضيته، وعلى نحو مُكمّل ومتكامل مع تلك الفتاوى الدموية والتعليمات العسكرية الإسرائيلية الصريحة الداعية إلى "قتل الأطفال الفلسطينيين وهم صغار حتى قبل أن يصلوا إلى 11 سنة أو حتى وهم أبناء ثلاثة أو أربعة أشهر أو حتى وهم في بطون أمهاتهم"، التي "أصبح الأطفال الفلسطينيون –استنادًا إليها– هدفًا دائمًا لآلة القتل الإسرائيلية، وباتت السياسة الإسرائيلية أكثر تركيزًا على قتل الأطفال الفلسطينيين، فقد نظر أبرز قادة دولة الاحتلال أيضا إلى العقوبات الجماعية المتنوعة الشاملة ضد الشعب العربي الفلسطيني، وإلى الاعتقالات والمحاكمات بالجملة التي شملت كافة أبناء الشعب العربي الفلسطيني، وذلك في إطار سياسة قمعية صريحة تستهدف النيل من مقومات وروحية الصمود والبقاء على الأرض لدى أبناء شعبنا وأهلنا هناك.

فمنذ البدايات الأولى للاحتلال أعلن جنرال حربهم آنذاك موشيه ديان معقبًا على انتهاج سياسة الاعتقالات والمحاكمات بالجملة: "سوف تخرج السجون الإسرائيلية معاقين وعجزة يشكلون عبئًا على الشعب الفلسطيني"، وعززه إسحاق رابين وزير قمع الانتفاضة في حكومة إسحاق شامير في حينه حينما أعلن أمام مؤتمر رؤساء المنظمات اليهودية بمنتهى الوضوح أيضا "أن الانتفاضة هي مواجهة بين كيانين، ودليل ذلك هو العدد الكبير جدًّا من المعتقلين الفلسطينيين"، مشيرًا إلى "أن حل مثل هذا الصراع لن يكون إلا بواسطة عسكرية".

وقد أكد في ختام كلمته "أنه طالما هناك انتفاضة سيبقى كتسيعوت"، مشيرًا بذلك إلى معسكرات الاعتقالات الجماعية للفلسطينيين، التي كان من أبرزها معسكر كتسيعوت في صحراء النقب، وهي السياسة التي انتهجتها تلك الدولة بصورة مكثفة واسعة النطاق خلال سنوات الانتفاضة الفلسطينية الكبرى الأولى 1987-1993، وخلال سنوات انتفاضة الأقصى أيضا، لدرجة أن الاعتقالات الجماعية طالت حسب المصادر الإسرائيلية والفلسطينية على حد سواء قرابة مليون فلسطيني على مدى سنوات الاحتلال، الأمر الذي تحدثت عنه مصادر إسرائيلية قائلة: "بدون مبالغة يمكن القول إن الفئات الهامة من بين الطبقات الفاعلة في الانتفاضة الفلسطينية، أو على الأقل الجزء الأكبر منها، قد مرت عبر معسكر "أنصار –3" في النقب الذي تحول إلى فرن صهر وطني فلسطيني يصهر ويبلور الكوادر الحية للانتفاضة".

فسياسة الاعتقالات والمحاكمات الجماعية ومعسكرات الاعتقال كانت إذن، منذ البدايات الأولى للاحتلال جبهة مفتوحة ساخنة قمعية إرهابية، أريد من ورائها القمع والقتل المعنوي والجسدي، ودفن المناضلين الفلسطينيين وهم أحياء، وقتل معنويات الشعب العربي الفلسطيني وشل حركته باعتقال قادته ونشطائه ومناضليه على أوسع نطاق ممكن.

وقد وصلت هذه السياسة الاعتقالية ذروتها خلال الانتفاضة الأولى، ولا تزال متصلة بعد مرور أكثر من أحد عشر عاما على انتفاضة الأقصى والاستقلال/ 2000، وليس من المنتظر أن تتوقف إطلاقًا طالما بقي الاحتلال، فطالما هناك احتلال وقتل.. هناك انتفاضة ومقاومة.. وهناك بالتالي "كتسيعوت" كما قال رابين.

 

في الشيفرة الثقافية الإسرائيلية

على قدر الأهمية والخطورة التي نظرت ولا تزال بها الدولة الصهيونية إلى الأسرى الفلسطينيين، وعلى قدر الأهمية الإستراتيجية التي أولتها لهم، بوصفهم القيادة الطليعية للشعب الفلسطيني، واستهدفتهم معنويا وسيكولوجيا بغية تحطيم صورتهم وإرادتهم ورمزيتهم للشعب والقضية، فتبنت تلك السلطات على مدى عقود الاحتلال الماضية سياسة متشددة جدا إزاء مساومات "تبادل الأسرى" و"تحريرهم"، تحتل قضية آلاف الأسرى الفلسطينيين في "باستيلات" الاحتلال قمة الأجندة السياسية الوطنية الفلسطينية على الدوام، باعتبارهم نخبة وطليعة النضال الفلسطيني ضد الاحتلال.

لقد درجت تلك الدولة على اعتبار الأسرى الفلسطينيين "مخربين" أو "إرهابيين" أو "مجرمين" وليسوا أسرى حرب، ولذلك وضعت تلك الدولة معايير قولبت على شكل "تابو" خاص بشروط إطلاق سراح معتقلين فلسطينيين، وعلى هذه الخلفية دارت خلال سنوات المفاوضات حول صفقة التبادل -التي توجت اليوم بإطلاق أكثر من ألف أسير فلسطيني- رحى معركة تبادل الأسرى!

كان النائب عيسى قراقع رئيس نادي الأسير الفلسطيني قد تساءل قائلا: إن سؤال الإشكالية هو: هل أزمة الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال هي أزمة سياسية أم تربوية؟ مضيفا: "ولأن الأسرى فرضوا وجودهم كأمر واقع على الحياة السياسية الإسرائيلية، فإن التعامل معهم يجري وكأنهم أرقام لا بشر بل فئران كما قال الصحفي "عاموس هرئيل" ليس لهم حقوق، والذي يقرر حقوقهم هي نظرية القوة والأمن والأوامر والتعليمات العسكرية الصادرة عن الضابط أو عن الجهاز القضائي الإسرائيلي".

 

تفكيك التابو

ومن الشيفرة الثقافية والتابو الصهيوني الخاص بالأسرى، إلى صفقة التبادل المترنحة منذ خمس سنوات تقريبا، التي اعتبرها البعض منهم صفقة مرفوضة وخطرة، بينما أيدتها أصوات إسرائيلية قليلة.. وكان نتنياهو قد أعلن بهذا الصدد أنه "لن يسمح مطلقا بإطلاق سجناء فلسطينيين ممن قتلوا يهودًا وأن يعودوا إلى بيوتهم في الضفة الغربية المحتلة وتعريض أمن إسرائيل للخطر"، و"أن موقفه نهائي وأن لا مرونة بعد اليوم وأن إسرائيل قدمت كل ما عليها من أجل إنجاح الصفقة"، وأنه "لن يتم الإفراج عن رموز الإرهاب".

وفي جوهر تلك الثقافة والمعايير قال مسؤول أمني إسرائيلي "إن رفع سقف التوقعات من احتمال التوصل إلى صفقة كهذه في المستقبل القريب سابق لأوانه".

ولكن هذا الصلف الإسرائيلي المعهود على مدى عقود في مسألة "إطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين الملطخة أيديهم بالدماء اليهودية"، على ما يبدو بدأ يدخل في مرحلة جديدة جوهرها النكوص والتراجع والاستسلام لقضاء القوة، فالقوة بالقوة والأسير بالأسير، هذا هو الاستخلاص الكبير الذي يمكن أن نتوج به عملية تبادل الأسرى بين حماس والدولة الصهيونية.

وفي ذلك أطلق رئيس دولتهم شمعون بيريز تصريحا قال فيه: "يمكن مبادلة شاليط بأسرى قتلوا إسرائيليين، لكن الأمر ليس سهلا غير أنه سبق لإسرائيل أن قامت بذلك"، وهو ما ينطوي على أهمية إستراتيجية ومعنوية بالغة الأهمية، حيث اعتبر هذا بداية تفكك وتحلل "الشيفرة الثقافية الإسرائيلية" تجاه الأسرى الفلسطينيين والعرب.

وكتب المحلل العسكري "إيتان هابر" في يديعوت أحرونوت تحت عنوان "القائمة السوداء يقول: "في الأيام القريبة سيبدؤون يُسرِّبون إلى الإعلام أسماء القتلة الكبار الذين يطلبهم الفلسطينيون مقابل إطلاق سراح جلعاد شاليط، وسيُدفع شعب إسرائيل إلى عاصفة مشاعر، وستأتي الضربة الثقيلة في يوم استبدال الجندي الفرد الذي اختُطف من دبابته وقت دوريته بمئات المخربين. في ذلك اليوم، في شبه يقين، ستنشر الأعداد والأسماء في الأساس، وسيعود ملايين في إسرائيل، لتذكاراتهم وبالمشاهد والأصوات إلى أيام الانفجار"، ويضيف: "يعلم الفلسطينيون منذ سنين بنقطة ضعف، وليس صدفة أن كبار القتلة يقولون في نهاية جُملهم: "سنمكث بضع سنين ثم يُستبدل بنا".

 

دلالات واستخلاصات

وعلى ذلك يمكن أن نتحدث عن تداعيات إستراتيجية هامة لعملية تبادل الأسرى بين حماس والعدو، فبالإجماع الفلسطيني إلى حد كبير، فإن هذه الصفقة من أهم عمليات التبادل التي نفذت حتى اليوم وعددها يصل إلى ستة وثلاثين عملية وفق الوثائق.

وأهميتها الإستراتيجية أنها تعمق عملية تهديم "التابو الإسرائيلي" المتعلق بإطلاق سراح أسرى "ملطخة أيديهم بالدماء" أو "من العيار الثقيل"، ولذلك تنطوي هذه العملية أكثر من سابقاتها على جملة مفتوحة من الدلالات والدروس والعبر والاستخلاصات البالغة الأهمية الإستراتيجية في سياق صراع ضار مفتوح مع دولة الاغتصاب الصهيوني!

وربما يكون الاستخلاص الأبرز والأهم في سياق قراءة عملية تبادل الأسرى مع الكيان الصهيوني هو ذلك الاستخلاص المتعلق بملف الآلاف من الأسرى الفلسطينيين والعرب الذين ما زالوا صامدين في "باستيلات" الاحتلال الصهيوني، وأن الطريق الوحيد لتحريرهم كما برهنت التجربة المثخنة بالجراح الفلسطينية حتى الآن هو طريق القوة والقوة فقط!

فكما أقيم ذلك الكيان على الحراب والحروب والقوة والإرهاب، فإنه لا يرتدع ولا يتراجع ولا يهزم إلا بالقوة! وليس ذلك فحسب...!

ففي القناعات الفلسطينية المتبلورة الراسخة على امتداد الفصائل والجماهير الفلسطينية فإنه لن يتم تحرير آلاف الأسرى إلا بالقوة فقط...!

ناهيكم عن أن هناك الكثير أيضا من الاعترافات والشهادات الإسرائيلية على مختلف المستويات التي تقول صراحة إن "إسرائيل لا تفهم سوى لغة القوة"!

فبالقوة فقط يمكن تحرير الآلاف من الأسرى!

وبالقوة وحدها فقط يمكن تحرير الوطن المغتصب!

وبالقوة وحدها يمكن تحرير شعب كامل يرزح تحت الاعتقال في معسكرات الاعتقال الجماعي الصهيونية!

وكان الكاتب الإسرائيلي المعروف جاكي خوجي قد ثبت هذا الاستخلاص في معاريف قائلا: "إن التجربة علمت إسرائيل أنه بخلاف مفهومها عن نفسها، فإنها لا تفهم سوى لغة القوة، وهذه الحقيقة ثبتت من قبل الفلسطينيين".

إلى ذلك، ونحن نوثق هذه المعطيات الهامة حول تابو المعايير الإسرائيلية للأسرى وحول الأسرى وصفقات التبادل، فإننا نؤكد في الخلاصة المفيدة في هذا السياق، أن معركة تحرير الأسرى الفلسطينيين والعرب ستبقى مفتوحة على أوسع نطاق طالما بقي أسير واحد هناك في معتقلات الاحتلال وطالما بقي جندي أو مستوطن صهيوني على أرض الوطن، وطالما أن دولة الاحتلال لا تغير معاييرها ولا تعترف بأن المعتقلين الفلسطينيين أسرى حرب!

ارسال التعليق

Top