◄أرح قلبك باللين يصفو لك، فتصفو حياتك
إنّ الاعتلالات القلبية لا تظهر فجأة ولا صدفة، بل هي نتاج تراكمات لمواقف متعددة، ولفترات طويلة منها مراعاة الآخرين، وتجميل صورنا أمامهم مخافة النبذ أو النقد، ثمّ نختبئ وراء الشعار ونفعل ما يحلو لنا دون قيود أو ضوابط فيها مخافة الله تعالى، فيصدأ القلب شيئاً فشيئاً، ومن هنا تبدأ الاعتلالات التي تطفح للسطح على شكل سلوكيات متخبطة.
في هذا الموضوع سأتطرق لسبب مهم من الأسباب التي تؤدِّي للاعتلالات القلبية، وهو من الأسباب التي تبدو في ظاهرها أو في بدايتها أنّها أمر عادي جدّاً، لكن العواقب دائماً تأتي وخيمة وأليمة.
قارئي الفاضل، إنّ الإصرار من الأمور التي تعتبر في مواضع معيّنة من الأمور المحمودة، وفي مواضع أخرى تكون مذمومة، فالإصرار على المبادئ والأخلاق والفضائل أمر محمود، أمّا الإصرار على الذنب أو الخطأ فهو حتماً مذموم، لكن للإصرار صورة في أذهان البعض أدت بهم إلى هوة الاعتلالات القلبية، فكثير من الناس يعتقدون أنّ تغيير مواقفهم أو آرائهم يعتبر اهتزازاً في الشخصية أو سمة طفولية، حتى أنّ بعض الموروثات الاجتماعية في مجتمعاتنا تشجع وتستحسن أن يكون المرء صلباً، غير متراجع في آرائه، وتجد أنّ بعضهم يقولها بزهو إنّ كلامه كالمسمار المثبت في الحائط، لا يزيح عن مكانه قيد أنملة.
إنّ هذا الرأي أو هذا المسلك.. وأقصد الإصرار على المواقف أو الآراء بمعناه السلبي.. عادة ما يدفع صاحبه لظلمات القلب، لأنّ البعض يعتقد أنّ الإصرار قوّة في كلّ الحالات، كالأب الذي يرمي بقرار جائر في لحظة ثورته ولا يتراجع عنه أبداً، أو كالأُم التي تقذف بآرائها يمنة ويسرة بين أبنائها، ثمّ تصر على آرائها وإن كان فيها ظلم وجور، وإن كان فيها تعسف وتسلط.
أحياناً يجلس أمامي بعض العملاء، يعترفون لي خفية أنّهم نادمون على بعض القرارات أو المواقف، لكنهم عاجزون عن التراجع عنها، مخافة اللوم أو أن يبدوا بصورة ضعيفة، أو تتراجع مكانتهم الاجتماعية، وهذا ما يلجأ إليه بعض الأزواج والزوجات أيضاً والمديرون والمديرات. فهناك فئة من الناس لا يتقنون فنون التراجع، فليس كلّ تراجع يعبّر عن الضعف، بل أحياناً يعكس عقلانية واتزاناً، فما أجمل التراجع عن القرارات الجائرة، وما ألطف التراجع عن المواقف المتعسفة، وكم هو جميل أن يعدل الإنسان مساراته.
ولكي أعين كلّ مَن يجد صعوبة في التراجع ويتقلّب في الألم والحيرة، ويجد في نفسه حرجاً من البوح بذلك، أقدم هذه الطرائق للتراجع اللطيف، أو التراجع الذي يعلي من شأن صاحبه ولا ينقصه:
- إن شعرت أنّك تسرعت في قرار ما، فقل بصوت عالٍ: "فكرت في الأمر فوجدت أنّني كنت مُتسرعاً، والآن أرى أن..."، فطريقة الاعتراف هذه تعكس أنّك إنسان مستبصر في أمورك، وأنّ الإصلاح هو دينك.
- إن شعرت أنّك لم تتخذ القرار السليم، فقل بصوت عالٍ: "لقد اتخذ القرار لكنني بعد فترة وجدت أن هناك طريقة أفضل لتطبيق ما أرغب فيه.."، وقم بشرح ما ستعدله في قرارك، وهذا أيضاً يعكس أنّ الإصلاح والصلاح هما غايتاك، وينفي عن نفسك صفة التصلب والتشنج.
- إن كنت ممن لا يحسنون التعبير عما يجول في نفوسهم، فبإمكانك أن تتراجع عن قرارك الذي سبب لك ندماً وحيرة، بالفعل لا بالاعتراف الكلامي، كأن تقوم بتصرف ما يثبت أنّك عدلت عن قرارك.
وهذا يخلق الارتياح لك ولمن حولك، فالعدول هنا يعكس رغبتك الأكيدة في تحري الأفضل، وهو يعدّ برهاناً عملياً لمدى تقديرك لذاتك ولحبك للآخر.
- إن كنت قد تعسفت في رأي ما، فلا ضير أبداً أن تناقش آثاره بعد فترة، فإن وجدت أنّ هناك ضرراً لحق بك أو بالآخرين، فالمناقشة تفتح باباً للمصارحة بل تعدّ من الحوارات التي تقرّب المسافات، وتزيد أواصر الحميمية مع الآخرين، وتعطيك بريقاً خاصّاً لا سيّما لشخصيتك، فالمحاورة والمناقشة وتعديل المسارات هي من شيم العقلاء، هذه الطرائق تسهّل عليك تعديل قراراتك التي تشعر بعد فترة بأنّها لم تكن صائبة، أمّا إن كنت ترى أنّها صعبة التطبيق، أو تجد أنّها لا تتفق وقوانينك الذاتية، فاعلم واسمح لي بأنّك تحتاج بشكل جاد لمراجعة أفكارك، وتحتاج بشكل أكيد للمشورة من اختصاصي نفسي، لأنّ اللين زينة الأشياء، والتصلب والتشنج سمة أصحاب النفوس الصغيرة، فعن عائشة عن النبيّ (ص)، قال: "إنّ الرِّفْقَ لا يكون في شيءٍ إلّا زانَهُ ولا يُنْزَعُ من شيءٍ إلّا شَانَهُ". حسناً، قد يتبادر إلى ذهنك الآن قارئي العزيز هذا السؤال: ما علاقة الإصرار على القرارات الجائرة أو الخاطئة بالاعتلالات القلبية؟ وسأجيبك بأنّ العلاقة وثيقة جدّاً، لأنّك عندما تصرّ على مواقف الألم، وقرارات متهرئة فإنّك دخلت أولى دوائر الشعور بالندم والقلق، وهي عادة تجرك للشعور بالغضب الداخلي، وكلما ازداد شعور الغضب المكبوت تخبط النظام العاطفي، لأنّ الغضب شعبة من شعب الجنون، وهو من المشاعر التي يعتبرها الشيطان مدخلاً سهلاً يسيراً للتوغل منه إلى قلبك..
هل لاحظت أنّ المسألة دقيقة جدّاً؟ بدأت بمعتقد فكري بأنّ الإصرار هو مصدر قوّة، إلى أن تصل المسألة من دخول الشيطان إلى قلبك من بوابة صنعتها أنت بكلتا يديك وباختيارك المحض.
نعم، هكذا تسري الأمور في واقع حياتنا، من الأشياء الصغيرة التي قد لا تأبه لها، فتكبر شيئاً فشيئاً وتشعر بنموها وتضخمها حتى تقف أمام بصائرنا، وتحول بيننا وبين حقائق الأمور، ومن هنا يبدأ الطريق المعوج.
إذن، إن كنت تبتغي وقاية قلبك من الاعتلالات يجب أن تنتبه لهذه الأمور الدقيقة، قف مع ذاتك وقفة صدق وشجاعة وشفافية، وأعد النظر في مواقفك وآرائك وقراراتك، وما تجد فيه بُعداً عن الراحة، أو بُعداً عن الحقّ أو عن الإنسانية ومبادئها، فابدأ بعقد نية خالصة لتغييره، ومواجهته، ثمّ قرر بأن تنسف كلّ ما يمهد للخطيئة الوصول لقلبك الذي ستقابل الرحمن به في الدنيا والآخرة.
وهناك حقيقة علمية قد تفيدك في هذه المسألة، وهي أنّ سريان الأنهار في الطبيعة سينعطف عند العوائق، ويلتف حول الصخور ليسرع أو يبطئ المسار، لكنه يظل عنواناً للخصب والنماء والاستقرار والإزدهار والعطاء، فأينما وجدت الأنهار وجد البناء والتقدم والرقي الفكري، فالحضارات الإنسانية نشأت على ضفاف الأنهار، كالحضارة الفرعونية وحضارة بلاد الرافدين، فلتكن قراراتك ومواقفك وآراؤك كسريان النهر، تنعطف وتغير مسارها عند نقاط العوائق لتكمل مسيرها، تجدها مسرعة هنا وهناك تجري ببطء، فلتكن مرناً لينا، منعطفاً لا صلباً قاسياً، متشنجاً، وقد قال الله تعالى: (فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ) (الزمر/ 22).►
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق