• ١٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

تزكية النفس وتطهيرها

الشيخ نعيم قاسم

تزكية النفس وتطهيرها

◄قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ * وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ) (فاطر/ 15-18).

 

المفتاح:

تزكيةُ النَّفْس تُنمِّيها وتُطَهِّرُها، فتصل إلى الطمأنينةِ والسُّمُوِ الرُّوحي، وطهارةِ الأعمالِ والسُّلوك.

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ): خطابٌ لجميع البشر، وليس للمؤمنين فقط، فالموضوع متعلق بجميع الناس، وعليهم أن يستيقظوا ويفهموا هذه الحقيقة.

(أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)، الفقير هو الذي لا يملك قوت سنته، فهو بحاجة إلى من يُعنيه ويُساعده ويُعطيه، والناس فقراء إلى الله تعالى، يحتاجون إلى عطاءات الله تعالى ومساعدته، فهو الذي أعطى الحياة، والجوارح، والهواء، وأسباب الرزق، وقدرة التفاعل مع متطلباته الدنيوية، وأعطى كلَّ شيء، فإذا أراد الإنسان أن يطلب شيئاً فمن الله جلّ وعلا، (أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ)، وهو الغنيُّ في موقع الحمد، (هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)، لا يحتاج منكم إلى شيء، ولا يريد منكم شيئاً. أنتم تعبدون الله تعالى لفائدتكم، وتصلُّون وتصومون وتتقون وتستقيمون في حياتكم من أجل فلاحكم، والله تعالى لا يريد منكم شيئاً، فهو لا يحتاج إليكم، وعطاؤه لكم من دون بدل أو ثمن أو مقابل.

(إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ)، فكما خلقكم الله تعالى وأوجدكم من لا شيء، يمكن بإشارة واحدة أن يُنهي كلّ حياة البشرية، وأن يخلق بشراً جديداً يختلفون عنكم. وقد رأينا كيف أنهى حياة أُمم فبادت مثل قوم نوح وقوم عاد وقوم ثمود.

(وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى)، لا أحد يتحمَّل مسؤولية أحد، ولا يوجد معصية يُعاقَبْ عليها إنسان لم يرتكبها، ولا ذنب يُحاسب عليه غير مرتكبه، ولا يتحمَّل الأب عن ابنه، ولا الابن عن أبيه، ولا الأُم عن ابنتها، ولا البنت عن أمها، ولا الأخ عن أخيه. كلُّ واحدٍ يتحمَّل مسؤولية عن نَفْسِه.

(وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا)، يعني إذا كانت النفس الإنسانية مثقلةً بالذنوب التي تراكمت عليها، ودعا صاحبها أحباءه وأصدقاءه أن يحملوا معه! (لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ).

(إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ)، الذين يتأثرون بهذا الإنذار هم الجماعة الذين يخشون ربهم بالغيب، وأقاموا الصلاة، فهؤلاء الذين دخل الإيمان إلى قلوبهم.

(وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ)، من تطَهَّر، وكانت أعمالُه في طاعةِ لله تعالى، إنما يزكي نفسَهُ لمصلحته وليس لمصلحة أي أحد آخر. فاعمل أيها الإنسان على تزكية نفسِك، فإذا نجحت في هذا الأمر، ستحمل صحيفة أعمالك بيمينك يوم القيامة، ثمّ تدخل إلى الجنة، برضا متبادل بينك وبين ربك، (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) (البينة/ 8).

 

1-    معنى التزكية:

زكى، يزكو، زكاءً، يعني ما أخرجه الله تعالى من الثمر، فعندما نقول: زكى الشجر يعني ازداد ثمراً، ونما وأعطى نتائج إضافية. وعن الأرض: أرضٌ زكية، يعني أنها أرضٌ طيبة تعطي الثمار والخضار بشكل ملفت ومميز، والزرع ينمو أي يزكو.

قال أمير المؤمنين عليّ (ع): "والمالُ تَنْقُصُه النَّفَقَةُ، والعِلْمُ يَزْكُو على الإنفَاقِ"، العلم يزداد على الإنفاق، فينمو ويؤثر. فإذاً يزكو الشيء يعني ينمو، ويكون طيباً.

الزكاة في اللغة العربية تعني الطهارة، والنماء، والبركة، والمدح. فالطهارة للنفس من الذنوب والآثام، وللمال من الحرام. والنماء هو الزيادة والبركة في الثمر والطعام وكلّ زيادة إيجابية. والبركة تَلَمُّسُ الخيرات مما لا يوحي بذلك من الزيادة الملحوظة في حياة الإنسان. والمدح إشادة بالعمل والسلوك الإيجابي المشكور والمأجور عند الله تعالى.

عندما يدعونا الله تعالى إلى تزكية النفس إنما يدعونا إلى تطهيرها، بما ينمِّيها في طاعته، فتعم البركة في حياتنا، قال تعالى: (وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا) (التوبة/ 103)، يعني تطهرهم، وقال: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا) (الشمس/ 9)، يعني قد أفلح من نمَّى نفسَه، وجعلها تُقبِلُ على الطاعات، وأوصلها إلى الصلاح، وأبعدها عن الأخلاق الذميمة والفاسدة وحب الدنيا والكبر والعجب وكلّ الصفات المستنكرة. (وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) (الشمس/ 10)، أي طمرها وأخفاها، وعادةً ما يُخفي الشخص الأشياء السيئة التي لا تكون محل رضا، فقد خسر من أخفى خيراتها وجعلها تتَّجه نحو المعاصي.

عندما يبتعد الإنسان عن الفحشاء والمنكر، ولا يتَّبع خطوات الشيطان، يسلكُ طريق التزكية، فيزكِّيه الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (النّور/ 21)، لماذا تعود التزكية إلى الله تعالى؟ لأنّ الله تعالى خلق الحق والباطل، ورسم طريق الحق حيث يزكو الإنسان ويتزكى بطاعته واستقامته، ولذا عندما تُزكِّي نفسَك إنما يزكِّيك الله تعالى، الذي وضع طريق التزكية للنفس الإنسانية.

قال إمامنا عليّ (ع): "إنّ الله أدَّب نبيه محمّداً (ص)، حتى إذا أقامه على ما أراد، قال له: (وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) (الأعراف/ 199)، فلما فعل ذلك رسول الله (ص)، زكّاه الله جلَّ وعلا، فقال: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم/ 4).

وعن إرسال النبيّ محمَّد (ص) إلينا قال تعالى: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأمِّيِّينَ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (الجمعة/ 2)، فالنبيّ (ص) لا يكتفي بتلاوة القرآن وتعليم أحكامه، بل يزكِّي المؤمنين، فيدربهم على الطاعة، واتِّباع المعروف، وينهاهم عن المنكرات، أي يهديهم إلى ما يؤدي إلى الطهارة النفسية والقلبية والروحية التي ترتقي بالإنسان.

يوجد ثلاث مراتب من التزكية: تزكية الله للنفس الإنسانية برسم طريق الحق لها وإعانتها على سلوكه، وتزكية نبيّنا الأكرم (ص) بالتعليم والتربية والمواكبة والقدوة والإرشاد والتوجيه، وتزكية الإنسان لنفسه بالطاعة والعبادة والذكر والإقبال على الطاعات وترك المعاصي ومواجهة الشيطان.

كان رسول الله (ص) إذا قرأ قوله تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا)، وقف ثمّ قال: "اللّهمّ آتِ نفسي تقواها، أنت وليُّها ومولاها، وأنتَ خيرُ من زكَّاها". يُساعد طلب العون من الله تعالى على اجتياز العقبات وتسريع الخطى نحو التقوى. هذه التزكية هي التي تحقق الاستقرار النفسي للمؤمن، فإن أتاه الرزق شكر الله تعالى وإن لم يأته صبر وطلب منه جلَّ وعلا، فهو يواجه الابتلاءات بالصبر والتقبُّل، فنفسُهُ المطهَّرة تتلقى الصعوبات والعقبات كما تتلقى النِّعَم الإلهية، بقبول وطمأنينة، ما يحقِّق له سعادة الدنيا وثواب الآخرة.

التزكيةُ بذلٌ وعطاء، والزكاةُ ضريبةٌ مالية شرعية فيها بذلٌ وعطاء، تنمو معها الأموال وتزداد، وبهذا البذل والعطاء تكون قد تخلَّصت النفس من الارتباط بهذا المال قربة إلى الله تعالى، وتحرَّرت من أسرِه، ومن حرَّ نفسه أصبح مالكاً للمال بدل أن يكون مملوكاً له. الزكاةُ عطاءٌ يزيد المكتسبات الإضافية، فعندما تُزكي نفسك فتُصلِّي يعني أنك تُعطي، وتصوم يعني أنك تُعطي، وتمتنع عن المحرمات يعني أنك تُعطي، وتُقبل على الطاعات يعني أنك تُعطي، ومقابل هذا العطاء تطهر روحك، وتسمو نفسك، وترتفع معنوياتك، وتحصل على رضوان الله تعالى، فهل يُعادل قليل من أعطيته، هذه النتائج الروحية العظيمة التي حصلت عليها مع رضوان الله تعالى؟ لا مجال للمقارنة.

 

2-    لكلِّ شيءٍ زَكَاة:

الزكاةُ في كلِّ شيء، قال الصادق (ع): "على كلّ جزء من أجزائك زكاة واجبة لله عزّ وجلّ، بل على كلِّ منبت شعر من شعرك، بل على كلِّ لحظة، فزكاة العين: النظرة بالعبرة، والغض عن الشهوات، وما يُضاهيها. وزكاة الأُذُن: استماع العلم والحكمة والقرآن". فلكلِّ جارحةٍ زكاة، ولكلِّ حركةٍ زكاة، ولكلِّ عملٍ زكاة، فعن رسول الله (ص): "لكلِّ شيء زكاة، وزكاةُ الأبدان الصيام". عندما تصوم تُعطي، ولكنه عطاء مليء بالأرباح، فعندما تصوم تنظِّم وقت الطعام، وتطهِّر معدتك، ويضعف جسدك فتكون مقبلاً على الطاعة والعبادة أكثر، ويزداد استعدادك للتضحية...، كلها خيرات من بركة الصوم.

وجَّهنا أمير المؤمنين عليّ (ع) إلى نوعية الزكاة النافعة لمفردات السلوك، والتي تُحدث آثاراً فعّالة على نفس وحياة الإنسان، نذكر منها قوله:

1-    "سبب تزكية الأخلاق حسن الأدب".

2-    "زكاةُ الشجاعة الجهاد في سبيل الله".

3-    "زَكاةُ القدرة، الإنصاف".

4-    زَكاةُ الظفر، الإحسان".

5-    "زَكاةُ الجمال، العفاف".

6-    "زَكاةُ اليسار، برَّ الجيران وصلة الأرحام".

7-    "زَكاةُ الصحة، السعي في طاعة الله".

8-    زَكاةُ النعم، اصطناع المعروف".

9-    "زَكاة العلم، بذله لمستحقه، وإجهاد النفس بالعمل به".

10-                      "لكلِّ شيء زكاة، وزكاة العقل، احتمال الجهال".

أما الذين لا يطهِّرون أنفسهم ولا يزكُّونها فهم خاسرون، فعن النبيّ الأكرم (ص): "ثلاثة لا يكلِّمُهُمُ الله، ولا يَنظُرُ إليهم يوم القيامة، ولا يُزكِّيهِمْ، ولهم عذابٌ أليمٌ: شَيْخٌ زَانٍ، ومَلِكٌ جَبَّارٌ، ومُقِلٌّ مُختالٌ".

أعاذنا الله تعالى من شرِّ الشيطان، وأعاننا للتزكية من أجل صلاح أنفسنا وأعمالنا، إنّه سميع مجيب الدعاء.►

 

المصدر: كتاب مفاتيح السعادة

ارسال التعليق

Top