• ٢٦ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ٢٤ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

ثقافة النقد البنّاء

أسرة البلاغ

ثقافة النقد البنّاء

◄لأجل أن نكون عمليين، فإنّنا ندعو إلى تنظيم حملة من النقد المبرمج البنّاء والهادف، انطلاقاً من ضرورة إشاعة (ثقافة النقد) والتخلّي عن المقولات المقلِّلة من شأنه وأثره، فلقد كلفتنا أقوال من قبيل: «العسل ليس بيعد عن اللسع» و «الشجرة العالية تتعرّض للرياح القويّة» و «الحشرات تحوم دائماً حول الأزهار» و«لا تعدم الحسناءُ ذامّاً» و«فقط الأشجار المثقلة بالثمار ترمى بالحجارة» وغيرها، أن نصمّ آذاننا عن النقد باعتباره حسداً من عند الآخر وغيرة وهجوماً وتهجّماً وإسقاطاً لما في نفس الناقد على شخص المنتقَد، والحال أنّ كلّ انسان فيه ما يرمى به من عيوب ونقائص، وليس كلّ نقد يُراد به الإ ساءة والحطّ من القدر، كما أنّه ليس كلّ نقد يرادُ به اصلاح المنقود ووجه الله.

عليناً إذاً أن نميِّز بين النقد لغرض الاصلاح والتسديد وبين القذف والاتهام والتهكّم والتهجّم، ففي الجانب أو الموقف الثاني يصحّ القول «مَن غربلَ الناس نخلوه» و «مَن رمى الناس بما فيهم رموه بما ليس فيه» و «مَن عَيَّرَ عُيِّرَ».

أمّا في الجانب أو الموقف الأوّل، فلا نجد أفضل من القول: أهلاً بالنقد ومرحباً، لأنّه فعلاً مبردٌ يصقل، ولأنّه فعلاً يتيح متعة التعرّف على العقول، ولأنّه يسمح برؤية ما لم نستطع أن نراه حالَ الممارسة والإ نجاز.

الباحثون عن الكمال هم الباحثون عن النقد.. هم الباحثون عن المرايا التي يرون فيها وجوههم على حقيقتها وكما تظهرها المرآة حتى ولو بدت للحظة قبيحة أو على غير ما يرام، فهم ليسوا كتلک المرأة العجوز الشمطاء التي نظرت إلى وجهها في المرآة فهالها منظرُ القُبح فاتهمت صُنّاع المرايا بأنّهم لم يعوزوا يُحسنون صُنعها كما في سالف الأيام (أيّام شبابها) ناسية أنّ المشكلة ليست في المرآة، بل في الناظر إليها، فالمرآة حيادية ولا تنحاز لعمرٍ أو وجهٍ معيّن!!

نريدُ أن نقلّص البشاعة والأخطاء والتشوهات والأشياء المعيبة والمبتورة.. ليس أمامنا سوى النقد: تقييماً وتقويماً.

تأمّلوا في الأدعية المأثورة كيف تعلّمنا ممارسة (النقد الذاتيّ) بأروع صوره. هنا ـ بين يدي الله ـ نكشف أو نُسفر عن وجوهنا الحقيقية، نتجرّد من كلّ غلالة أو مساحيق أو أقنعة نضعها حتى لا تظهر الكدمات والبثور والتجاعيد.. إنّنا عراةً تماماً.. الدعاء يعلِّمنا النقد لأنّنا نشعر أنّه صادر منّا أو حاکٍ عنا حتى وإن صاغَ كلماتهِ غيرُنا.

تجربةُ النقد تقول إنّ النمو والتطور والتكامل الحضاريّ مرتبط بحركة النقد بقوة، وأنّ أيّة نهضة واصلاح وتغيير لا تستند إلى نقد الواقع والأفكار والمفاهيم والتجارب والأشخاص، لا تراوح في مكانها فحسب، بل تتراجع وتنهار آجلاً أم عاجلاً.

تجربة النقد تقول أيضاً إنّ لغة المصادرة والتكفير والتجريح والتجريد لغة ميّتة ومُميتة، وإنّ الفرز بين ما هو (مقدّس) وبين مَن ينتحل القداسة أو يضع حوله هالة منها، لابدّ أن يعتمد معياراً ثابتاً وصحيحاً «إعرف الحقّ تعرف أهله واعرف الباطل تعرف أهله»!

والتجربة النقدية تقول كذلك إنّ غلق باب النقد يُفسد الهواء في الداخل، فالنوافذ التي نُشرعها على الهواء الطلق والشمس قد تُدخل الغبار معها فتتسخ الستائر والسجاجيد، لكنّ ايجابيات ما يفعله نور الشمس من تعقيم وتطهير وتنقية للجوّ المغلق الفاسد أضعاف ما ينال السجاجيد والستائر من غبار وأتربة.

إنّ مبدأ (المطالبة بالنقد) هو أفضل طريقة ليفعل النقد فعله، لأنّه هنا يكون بمثابة (حاجة)، أمّا عندما ننتظره يأتي أو لا يأتي، أو يأتي بغتة، فلا يخلو من فائدة، لكنّه لا يؤدِّي ما يؤدِّيه النقد الحاجة.. إنّه نقد مستحبّ.

تجربة النقد تؤكد مرّة أخرى، أنّ (النقد العمليّ) الذي يقدِّم النموذج والمثال والقدوة الصالحة والمساعدة على التجاوز، هو الأبلغ والأجدر بين أنواع النقود.. إنّه لا يسبِّب جرحاً في المشاعر، ولا انتقاصاً من الكرامة، وفي الوقت نفسه يؤدِّي غرضهُ بفاعلية كبيرة.. إنّه نقدٌ صامت لكنّ صوته عالٍ جدّاً.

حملة النقد التي تدعو إليها تراعي التثقيف على النقد بكلّ أشكاله وآلياته، وها نحنُ نفعل، كما تستهدف ممارسة النقد بأصوله الصحيحة.. إنّها حملة تدعو إلى (نقد الآخر) و (قبوله من الآخر) كحقّ متبادَل.►

ارسال التعليق

Top