• ٢٠ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٨ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

ثورة الحسين (ع).. شمعة الإسلام

عمار كاظم

ثورة الحسين (ع).. شمعة الإسلام

 ثورة الإمام (ع) كانت شمعة الإسلام حيث أضاءت لملايين المسلمين دربَ خلاصهم، وعرّفت لهم موطئ أقدامهم، وجنّبتْهمُ الزللَ في حُفَر الضلالة والسقوطَ في فِخاخ الخطيئة والتهاون، وأبانت لبصائرهم ـ بسطوعها المتجلّي أبداً ـ مسالكَ الحقّ، وطردت عنها معالمَ الوحشة لقلّة سالكيها، فعَبَرها المؤمنون آمنينَ مستنيرين بأنوار الشمعة التي أضاءت ـ باحتراقها فوق ثرى كربلاء ـ ولم تَزَل تُضيء.. حتّى يقضيَ اللهُ أمراً كان مفعولاً. دِرع الإسلام ـ ذبَّ عن الإسلام الأذى المتمثّلَ بوهن العقيدة وانحلال روحانيّة الدِّين، بعد أن غدت العقيدة (في قلوب الناس) ضَعفاً لا يتّصل بقوّة، بعد أن كانت قوّةً لا تتّصل بضَعف، فأغار الحسين (ع) على مواطن الوهن والإثم، بالقول والفعل، وتلّقى (ع) ـ بصبرٍ نادرٍ عجيبٍ ـ كلَّ ما شَهَره في وجهه: حَفَدةُ الشيطان، مستحلّو حُرَم الله وناكثو عهوده، ومخالفو سُنّة رسوله، العاملون في عباد الله بالإثم والعدوان.. فكان (ع) ـ بتصدّيه للأذى اللاّحق بالعقيدة ـ دِرعَ الإسلام بحقّ. فلولاه، لَما كان الإسلام إلى ما صار إليه: عقيدةً ثابتة تترع في وجدان المسلمين وضمائرهم، بعد أن كاد يتحوّل إلى مذهبٍ باهتٍ يُركَن في ظاهر الرؤوس التي أدارتها نحو المذهبيّة الساذجة الحمقاء ممارساتُ القائمين على أمور المسلمين من حكّامٍ وأذنابِ سلطةٍ ومَدّاحي دواوين! ضمير الأديان إلى أبد الدهور.. باستشهاده (ع)، الذي لم يسجّل التاريخ مثيلاً له، تكرّست ثورته كضمير للأديان السماويّة، يستصرخ أبداً مناطقَ الشعور في الأنفس، وينبّه بتواترٍ لا يَهدأ مَثاوي العقيدة في الحَنايا، فكأنّه من الدين المعنى الدينيّ، (رتّله) في المهج على مقدار ما فيه من معناه. حسينناً ضمير الأديان، والضمير محبّةٌ وتحابٌّ وغَيرة، في تلافيفه حنوُّ المستقبل ونَصَعانه، ومن آياته المُعبِّرة في صيغةٍ تعبيريّة عن حقيقتها: يا أيُّها الذينَ آمَنُوا مَن يَرتَدَّ مِنكُم عن دِينهِ فسوفَ يأتي اللهُ بقومٍ يُحبُّهم ويُحبّونَه، أذلّةٍ على المؤمنين، أعزّةٍ على الكافرين، يُجاهِدونَ في سَبيلِ اللهِ لا يَخافونَ لَومَةَ لائم، ذلك فضلُ اللهِ يُؤتيهِ مَن يشاء، واللهُ واسعٌ عليم. خير الأمم أمّةٌ هُدِيَت إلى الحقّ فهَدَتْ به، فالحقُّ يَجعل من الأمّة خيرَ الأمم، ومن المؤمنين خيرَ البشر وممّن خَلَقْنا أُمّةٌ يَهدون بالحقِّ وبهِ يَعْدِلون. مقياس الأمم قبول الحقّ والعمل به، ومقياس المقاييس خير المؤمنين فئةٌ هدَتْ إلى الحقّ وعدلَتْ به، ونَهَتْ عن نقيضه. فمَن مِن المؤمنين فعَلَ هذا؟ مَن الذي أعلن على رؤوس الملأ قوله هذا: «إنّما خَرَجتُ لطلبِ الإصلاح في أمّةِ جَدّي.. أُريد أن آمرَ بالمعروفِ وأنهى عن المنكرِ. فمَن قَبِلَني بقبولِ الحقّ فاللهُ أولى بالحقّ، ومَن رَدَّ علَيّ هذا أصبِرُ حتّى يقضيَ اللهُ بيني وبين القوم بالحقّ، واللهُ خير الحاكمين»؟ إنّه الحسين سيّد الشهداء في ميادين الحقّ، والذي كانت نهضته تمثيلاً عمليّاً لضمير الأديان على مرّ الدهور. ولئن اعتُديَ على الحقّ الإلهيّ في غفلةٍ من الزمن، وفي حَلْكة الظلام، فلهذا الحقّ في ضمير الكون شاهد. وكان الحسين (ع) ضميرَ الأديان في عمر الدهور، هو الشاهد الأوحد على محاولة إزهاق الحقّ في ضمير الكون. ويأبى اللهُ إلاّ أن يُتمّ نوره.. وتأبى حكمته إلاّ أن تبلغ مَداها في فضاء العزّة والجلالة، لتغمرَ آفاقَ البشريّة بالقدسيّة والعدل والنُّبْل. لهذا المقصد الإلهيّ..  كان الحسين قبسَ هداية، ومِشكاةَ طُهْر، ونموذج أخلاقٍ فاضلة، فكان حقّاً ضميرَ الأديان إلى يوم القيامة. كان هدف الحسين أن يعيد إلى الحياة سيرة جدّه، التي قامت على العدل والمساواة ومحاربة الفقر والظلم والفساد، مقاومة التمييز العنصري ووحدة الأُمّة. ونشر الغِنى والرفاه وإقامة العدل وإحياء الدين بكلّ أهدافه الاجتماعية ورسالته الإنسانية لذلك ركّز الحسين على استئثار بني أُميّة بالفيء وتعطيل الحدود وإنّهم اتخذوا مال الله دولاً وعباد الله خولاً.

فالحسين.. البضعة الرسوليّة، قام بمهمّةٍ لا تقلّ خطراً عن مهمّة جَدّه، فأبقى الإسلامَ كما بشّر به جدُّه الكريم، وأودع في صدور المسلمين وديعةً ثمينةً تنبّههم بوجوب الحفاظ عليها، كأندرِ وأغلى ما يملكون. ولقد جاء في أخبار الحسين (ع) أنّه كان صورةً تشكّلت من صورة جدّه النبيّ (ص)، له شَبَهُه في الخُلُق والخِلقة.. تطلّع إليه الجدّ فرأى في مَخايِله سيماءَ مستقبل الأمّة وسؤددها، وحاملَ لوائها مِن بعده. السبط النبويّ ـ تطلّع إلى جَدّه.. فرأى فيه معنى الدِّين ومعنى العقيدة، واستشفّ من الأذان الذي كبّره (جَدُّه) في سريرته ـ ولمّا يَزَل (الحسين) رضيعاً ـ رؤى المستقبل الآتي. سيّد الشهداء ـ سما في شهادته فوق سمّو كلّ الشهادات التي أُوتيها أرباب الديانات وشهداؤها.. منذ زكريّا ويحيى حتّى المسيح، فكان (الحسين) إمامَ حقّ، وسيّدَ شهداءِ الحقّ. سيّد شباب أهل الجنّة ـ أتمَّ حجّةَ الله في خَلْقه وفي دِينهِ الحنيف، وأبرزَ مظلوميّةَ آل محمّد، وأعاد دين النبيّ ـ الذي بشّر به إلى صراطه المستقيم ـ فأفنى ذاته وأهله في هذا السبيل، رَخّص نفسه الغالية فأغلى له اللهُ تعالى نفسَه على أنفُسِ ساكني جنّة خُلده، فصار سيّدَهم بما عَمِل وضحّى، وصار أحبَّ أهل الأرض إلى أهل السماء.

إنّها الثورة على السلطان الجائر، المستحل لحرمات الله ، والذي لا يرى لأحد حرمةً أمام استبداده، الناكث لعهده فلا يعاهد أحداً إلا لينقض عهده معه على أساس انتهاز الفرص التي يستفيد منها لمصالحه، لينتقل بعد ذلك إلى فرص أخرى لمصالح أخرى، بعيداً عن أخلاقية الإنسان الذي يحترم كلمته ويلتزم بعهده. لأنّ الالتزام بالعهد لا ينسجم مع خططه الذاتية وأطماعه المادية وشهواته الغريزية... الأمر الذي يجعل إسلامه شكلاً كلامياً لا يقترب من الصدق في الالتزام ولا في الاستقامة في خطّ السير. العامل في عباد الله بالإثم والعدوان، هو الرجل الآثم في تعامله مع الناس، العدواني في تصرفاته معهم. لأنّه لا يعيش مسؤولية الحكم على أساس العدل، ولا يحترم الناس في علاقته بهم على أساس المسؤولية، فهو الوحش في صورة الإنسان. هذا هو الإنسان الذي يجب أن تقوم الأُمّة بالثورة عليه، لتغييره واستبداله بإنسان آخر من خلال الكلمة الثائرة والموقف القويّ الحاسم. فلا عذر للقادرين على عملية التغيير، أن يبتعدوا عن ساحة الصراع ضده، والثورة عليه، ولا مجال للحياد بينه وبين الحاكم العادل. وهكذا كان الحسين يتحدَّث عن الخط العريض للجانب الفكري من خط الثورة. أمّا الجانب التطبيقي في ساحة الواقع، فهو فريق الحكم الذي عاش في عصره. فهؤلاء الناس، في صورة الحاكم وأتباعه، هم الذين تركوا طاعة الرحمن، فابتعدوا عن الله سبحانه في حياتهم واقتربوا من الشيطان في ذهنياتهم وخطواتهم، وبدّلوا الشريعة في نهجهم وطريقتهم، فإذا بالحلال يتحوَّل إلى حرام عندهم، وإذا بالحرام ينقلب حلالاً في سلوكهم. ثمّ كان من أمرهم أن استأثروا بثروة الأُمة فحوّلوها إلى ثروة شخصية، وعطّلوا الحدود التي أراد الله للعباد أن يقفوا عندها ولا يتجاوزوها، فأضاعوا الناس والحياة والدين كلّه. ولابُدَّ للحسين أن يغيّر بقوله وبفعله. وكانت الثورة الاستشهادية هي بداية التغيير من أجل أن تطلق الصرخة المدويّة، المضرّجة بالدماء، المنفتحة على كلِّ الحق والعدل والعزّة والكرامة والإنسان والحياة في حركة الحاضر نحو المستقبل.

تلك هي صورة التحدّي الحسيني في مواجهة الواقع المنحرف في داخل الواقع الإسلامي، لأنّ الحركة كانت حركة داخلية في ما يعانيه الوضع الإسلامي العام للأُمّة على مستوى الحكم والحاكم. ومن الواقع الذي عاشه الإمام الحسين في مرحلته، فقد كان الحكم في عصره يجعل الإسلام شعاراً له، ولكنه كان ينحرف عنه في خط السير ونهج الحركة. فهل نستطيع أن نبتعد عن خط الثورة في ذهنية المسلم الثائر؟ وهل نملك أن نتنكّر لحركة التغيير في وعي الواقع العملي لروحية التغيير؟ لابدّ أن يكون كلّ واحد منا مشروع ثائر في الخط والحركة والمعاناة.

أمّا حركية الثورة في الفعل، وشرعية التغيير في النهج؛ فقد نحتاج فيها إلى رصد ظروف الواقع العملي من حيث القدرة والإمكانات والنتائج، لنخطط من موقع الدراسة الدقيقة الحيّة ولنعرف كيف نواجه التحدّي في الفعل ورد الفعل، وكيف تنتصر القضية فينا، أو تهيِّىء الظروف لتقريب موعد النصر، أو لتحريك خطواته في اتجاه المستقبل. ليس من الضروري أن يكون الأسلوب الحسيني في الشكل المأساوي الاستشهادي هو أسلوبنا. لأنّ من الممكن أن يكون لهذا الأسلوب ظرفه الخاص الذي فرضته حركة الأحداث في تلك المرحلة، مما قد لا تتوفر فيه خصائص الظروف التي تعيشها مرحلتنا الحاضرة. ولكن لابدّ أن تكون الروحية الحسينيّة هي التي تمثِّل معنى روحيتنا، فقد واجه الإمام الحسين الموقف على أساس الاستمرار فيه وعدم التراجع عن جميع الاحتمالات. وهذا ما عبّر عنه بقوله: "فمن قبلني بقبول الحقّ فالله أولى بالحقِّ ومن ردّ عليّ هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق".

ارسال التعليق

Top