د. عبدالرحمن توفيق
يتغير العالم بسرعة باتجاه المعلوماتية والتكنولوجيا وتتضاءل مع هذا التغير تكاليف اللحاق بركب الحضارة، ويزداد إمكان الارتباط بشبكات عالمية أو أقمار اصطناعية. شكل العالم سيتغير وملامح العلاقات بين الدول ستتبدل، وسيتغير معنى المعرفة، كذلك معنى الأمية. كنا ننتقل إلى الأوراق لنقلب فيها ونستدعي ما فيها من حقائق، وإلى التلفزيون لندير مفاتيحه، وإلى الراديو لنتحكم في صوته، وإلى المدرب أو المدرس لنتعلم على يديه، وإلى الدول الأجنبية لحضور المؤتمرات واللقاءات العلمية، الآن العالم يعيش مرحلة انتقال عكسي، صارت الأشياء والأفراد والمعلومات تنتقل إلينا، وصار العالم في معظمه يدار عن بعد، نتحكم في كل شيء عبر قنوات لوحة مفاتيح لا سلكية وخلايا ضوئية ننقل بها الأشياء ونستدعي الأفراد على شاشات التلفزيون، أو سماعة الهاتف أو شاشة الحاسب. نحن نعيش بالفعل حالة تحتاج إلى إدارة عكسية Pleverse Managementحيث ينقل فيها البائع للمستهلك، والمدرب للمتدرب، والمدير للمرءوس، ولاعب الكرة إلى شاشة تلفزيون السيارة، وصوت مدير الاستثمار بشركتك إلى سماعة هاتفك وأنت في رحلة الصيد بالبر. هذا الانتقال كان سيتم باستدعاء الطالب للمطلوب وليس لمبادرة من المطلوب للطالب، سوف لا يبادر رجل المبيعات أو رجل التسويق بالذهاب إلى المستهلك ولكن المستهلك سيبادر باستدعاء رجل التسويق إلى منزله عبر محطات إلكترونية ليعقد بها صفقة تتم دون مصافحة. إدارة عكسية تتم عن بعد Tele Reserve Management هي إحدى أهم خصائص العصر الذي نعيشه الآن.
كانت تتجه إلى المناجم والمحاجر وآبار البترول والثروات الطبيعية تحت سطح الأرض تلك التي يعتمد الوصول إلىها على جنود بشرية كانت في الأصل عضلية، كانت تتجه للاستقرار حيث يوجد المال والأرض والزرع. وكانت معظم الاكتشافات والقوانين الرياضية تقوم على الملاحظة المباشرة وبالغين المجردة تماماً كما حدث عندما اكتشف أرشميدس قانون الطفو، أو نيوتن قانون الجاذبية، ووضع أينشتاين قانون النسبية.
بل إن نظريات الإدارة الأولى نشأت عند إقدام أحد العمال الهولنديين بأحد مصانع الصلب بعدما لاحظ أبو الإدارة "فردريك تايلور" إمكان أداء هذا العامل لعمله بطريقة أفضل. وبدأ التفكير في الإدارة العليا من عدد حركات وخطوات أبسط عامل في أحد مصانع الصلب.
الآن يتجه الأداء البشري إلى ممارسة ما هو أبعد من الأداء العضلي أو الحواس الخمس، وصارت الحواس المباشرة عاجزة عن التعرف على ما يدور خارج نطاقها فنحن لا نرى ما يفوق طاقة أبصارنا ولا نسمع ما يدور بعيداً عن نطاق سمعنا، لذا كان الاعتماد على الوسائل والأساليب والتكنولوجيا التي كانت من صنع الإنسان ليضاعف بها قدراته أضعافاً مضاعفة مستخدماً فيها عقله قدراته في التصور والإبداع، بعد ما كان يعتمد على قدميه وذراعيه وأدواته البسيطة في الصيد والزراعة.
ينتقل بنا العالم الآن إلى مرحلة عكسية من أسفل إلى أعلى كما سبق الإشارة، ومن التحرك للأشياء إلى تحرك الأشياء إلينا، ومن الانتقال إلى من نحتاج إليهم، إلى انتقالهم إلينا باستدعائهم آلياً عندما نحتاج إليهم دون الحاجة لمصافحتهم وإلى حفظهم على رقائق من الصلب المدمجة نسترجعها عندما نريد ووقتما نريد، ومن الخبرة الذاتية الخاصة محاور عديدة جديدة ستبدل وجه العالم وتغير ملامحه، وهي نفسها ذات الحقائق المحددة اللازم قراءتها والأخذ بها لإعادة اكتشاف الإدارة التي تتحول بين أيدينا ودون أن ندري من مرحلة الإنتاج الكبير إلى مرحلة توصيل الطلبات للمنازل. وإن كان هذا ينطبق على الإدارة تارة، فإنّه ينطبق على التدريب بصورة أوقع وأشمل.
- إدارة المتغيرات:
أين موقع الإدارة من هذه المتغيرات، وهل ستظل تابعة تدور في فلك غيرها من العلوم وتحكمها الأيديولوجيات والفلسفات وأمزجة القادة والحكام ورجال الإعلام والسياسة؟ ومتى تتحول هي والتدريب إلى شمس ذاتية الضوء والحرارة بدلاً من كونها جسماً قلكياً معتماً يعتمد على غيره في اللمعان والدفء والحرارة؟ وهل يمكن لهما أن يلحقا بالركب ويلاحقا التطور في لهفة وإصرار، وينتقلا معاً من مرحلة التأمل والتفسير والملاحظة والنقد إلى مرحلة التخطيط والجدولة والعمل الجاد والنتائج الملموسة؟
كثيراً ما كنا ندخل في جدل علمي حول "هل الإدارة علم أو فن؟"، وكثيراً ما كنا نطلق على التدريب مهنة من ليس له مهنة أو مهنة كل من له مهنة. بل كنت دائماً أردد أنّ التدريب هو الابن الضال الذي فقط هويته.. ومازال يبحث عنها بين الإنجازات الكبيرة تارة، أو بين ركام المؤسسات المتداعية تارة أخرى. وهو في كلتا الحالتين لافت للأنظار ومحط الإعجاب حيناً، أو داخل قفص الاتهام أحياناً.
لم تعد قضايا الإدارة التقليدية تفرض نفسها بنفس قدر الاهتمام السابق، فلقد تغيرت سمات العصر وتبدلت سرعة التطوير فباتت تلقي بعواصف ورياح التغيير في عيون الرواد والممارسين، المنتجين والمستهلكين. تلك القضايا التقليدية التي مازلنا نبحث عن إجابة لها، تكاد تفقد معناها وسط هذا التزاحم الشديد من المعلومات والشبكات والتكنولوجيا والعالمية لكل ما يدور حولنا حتى بات من اللازم إعادة النظر في هذه القضايا أو حتى تجاوزها ونسيانها تمهيداً لطرح جديد لمعنى وشكل ماهية التدريب.
نحن في حاجة إلى ثورة فكرية تنهض بكيان التدريب وتضعه ولو مرة واحدة في مقدمة اهتمامات الإدارة بدلاً من أن يبقى دائماً النتاج العشوائي لكثير من الاجتهادات الذاتية أو محاولات التجربة والخطأ أو حتى تجارب النجاح المكلفة.
نحن بحاجة إلى شيء مختلف تماماً لما يدور الآن في عالم الإدارة العربية. هذه الكلمة التي كادت أن تفقد هي الأخرى معناها من فرط الإحساس بالتباطؤ في مجريات تطويرها حتى أوشكت في بعض مراحلها أن تتوقف عن العطاء أو التطوير النابع من واقع بيئتنا وقيمنا.
التدريب يحتاج إلى نقطة تحول تنبىء بتغير النظرة إليه، تحتاج إلى كولومبس الرحال إلى عالم جديد من "أمريكا التدريب"، يحتاج إلى أثر آلة طباعة جوتنبرج المتنقلة التي غيرت من الاعتماد الكامل على الذاكرة المدهشة للبشر إلى الاعتماد الكامل على حقائق مكتوبة، يحتاج إلى شيء أشبه بأثر الثورة الصناعية في إنجلترا في أوائل القرن الثامن عشر وكل ما تركته من آثار في البنية الاجتماعية السياسية والاقتصادية في أوربا.
إذا كان هذا هو المطلوب فأين نحن من تحقيقه؟ وإلى أي حد نحن في حاجة إليه؟ وهل الإدارة هي ما نمارسه نحن في حاجة إليه؟ وهل الإدارة هي ما نمارسه نحن أو ما نقوله عنها. وإذا كان التدريب أمرا يبتدعه المدرب والمتدرب، فهل سيستمر هذا الابتداع إلى ما لا نهاية؟ وإذا كان الأمر كذلك أفلا توجد حقائق يمكن الاسترشاد بها جتى نسعى من خلالها إلى إعادة اكتشاف التدريب والتعرف على ماهية الإدارة العربية؟ الإجابة بالتأكيد هي نعم. وإليك أهم هذه الحقائق.
- من الأوراق إلى الصلب:
قبل الأوراق كانت المعاملات بين الناس من أخذ وعطاء تتم في مجتمع شفوي ما أدى إلى كثير من التعقيدات أو اعتمدت تلك المعاملات على شهود عيان، بل وكان القسم أو حلف اليمين وسيلة مهمة لتقوية شرعية الحدث وتأكيد أقوال الشاهد الشفوية. وقد أدى التراخي والإهمال في نقل المعلومات إلى التأثير السلبي في كثير من أوجه الحياة في تلك العصور، ونتيجة لذلك الإهمال كان السفر من مكان لآخر عملية محفوفة بالمخاطر، وتجربة ومغامرة ينقصها الأمان. لم تكن الخرائط قد عرفت وكانت الطرق قليلة، وبالتالي اعتمد المسافرون في رحلاتهم على حس دقيق بالاتجاهات على هدي واقع الشمس والنجوم وتحليق الطيور، وتدفق الحياة وطبيعة الأرض. لا شك أنّ الذاكرة الجيِّدة في عالم لا يقرأ أو يكتب تصبح أمراً حيوياً، بل وأصبحت الذاكرة المدربة ضرورة مهمة بالنسبة لطلاب العلم كما هي ضرورة بالنسبة للتاجر، الطريف أن كل الكتابات كانت تبدو في ذلك الوقت نوعاً من السحر، وفي مقدمتها نصوص الإنجيل التي استغرقت كتابتها وقتاً هائلاً في العبادة، وكان الكتاب في حد ذاته شيئاً بالغ الندرة والقيمة، وكثيراً ما كان القارىء يجد داخل المؤلف تحذيراً مضافاً إلى النص يقول: "من يسرق هذا الكتاب، سوف يقضى عليه بالموت لأنّه سيتعرض لنوبة مرض خطيرة ويتحطم على عمله ويشنق".
كان لابدّ في مثل ذلك العالم الغريب القائم على الذاكرة والشائعات والخيال أن ينبت إحساس بالحاجة الشديدة إلى المعلومات المنطقية والواقعية، وأن يبدو هذا الشعور على التجار. إن توافر استخدام الورق بصورة مفاجئة كان أكبر عامل (ضغط) دفع بالناس إلى (التعلم)، وكان العرب قد اكتشفوا الورق عندما وصلوا إلى سمرقند، وهو اختراع صيني في الأصل. إلا أن اختراع الطباعة يرجع الفضل فيه إلى جوهانز جوتنبرج الذي قضى به على المجتمع الشفوي بعد أن جاءت الطباعة بأهم تغيير (رديكالي) عرفه تاريخ الثقافة الغربية وهو التغيير الذي ترك آثاره في كل مجال من مجالات النشاط البشري.
يلاحظ التطور الذي شهدته البشرية في مرحلة الورق والطباعة وانتقال البشرية من مرحلة الاعتماد على الذاكرة إلى مرحلة الاعتماد على الورقة. إنّ العقل البشري قد واجه (ضغطاً) حميداً لكي يغير حالته، لكي لا ينتقل من الاعتماد على الذاكرة الذاتية إلى الاعتماد على الأوراق والوثائق الممكن حفظها، هذا (الضغط) يعد أمراً لازماً لتعديل حالة العقل من حالة إلى أخرى من سلبية إلى إيجابية، من تابعة إلى رائدة، من مسترخية إلى نشطة، من مبتكرة إلى مبدعة. هذا النوع من الضغط هو ما تعيشه الإدارة العربية الآن بصور عديدة وبدرجات متفاوتة.. إلا أنّ الإحساس بهذا (الضغط) متوقف على درجة إدراكنا له وإحساسنا به. وأعتقد أنّ الإدارة العربية وعقلية المدير العربي في بعض المواقع تنبهت إلى طبيعة (الضغوط) المفروضة عليها عالمياً ومحلياً، وباتت بحالة أشبه بحالة العقل البشري وهو ينتقل من مرحلة الذاكرة إلى الورق والطباعة. يلاحظ كذلك أنّ هذا الضغط قد تولدت عنه حالة من (التعلم) الذي يتميز به الإنسان عن غيره من الكائنات. فالإنسانية فريدة من حيث طول الفترة الزمنية التي تقضيها في التعلم، ومن حيث اللغة التي تمنحها قدرة فذة على نقل المعلومات من جيل إلى جيل في صورة خبرة وتربية وتعلم وتدريب. النقطة الثالثة أنّ هذا التغيير يعتبر تغييراً راديكالياً Radical (جذرياً) وهي كلمة لاتينية الأصل Radix ومعناها الجذور.. فالبشرية لم تواجه تغييراً جزئياً بل تغييراً جذرياُ يشمل مختلف أوجه الحياة. ولعل من الأمور اللافتة للنظر في مجال إدارة الأعمال أن آخر صيحة إدارية – وهي ما يطلق عليه إعادة الهندسة – تعتمد في أساسها على إحداث تغيير جذري لتطويرالمؤسسات. نحن في حقيقة الأمر نواجه الآن موقفا شبيهاً بالموقف الذي واجهته البشرية عندما تغير العالم واعتمدت البشرية على الطباعة بدلاً من الاعتماد على الذاكرة. مخترع واحد غير العالم وهو ما يحدث الآن. عندما يحول بيل جيتس رئيس مجلس إدارة مايكروسوفت الثورة المعلوماتية لصالحه لنشر النصوص المصنوعة بالطريقة القديمة على الورق إلى أغطية صلبة. إن CD Rom واحدا يمكن أن يحوي معلومات أكثر من تلك التي تحويها 330 ألف ورقة بها موضوعات مطبوعة بحروف صغيرة وعلى سطور بينها مسافات ضيقة. بل والأكثر من هذا استطاع العالم الفيزيائي هلا روزين قائد فريق I.B.M أن يخترع الجيل الجديد من الـCD Rom الذي من المحتمل أن يلقي بالنسخ السابقة في التراب حيث سيكون للقرص الواحد قدرة هائلة على التخزين قد تصل إلى 20 طبقة ذات يوم، إن ذلك يعني وضع مكتبة عامة بالكامل على إحدى طبقات قرص واحد. وعندئذ سيصبح شكل مراكز التدريب والمكتبات بها شديد الاختلاف عن الآن.
إنّ التدريب والكتب والملفات التدريبية – ذات الوسائل المتعددة المتفاعلة التي تقدم مجموعة من الأصوات والصور والكلمات – أصبحت من الوسائل التي يمكن الاعتماد عليها في التدريب. وسيصبح الشعار في المستقبل القريب: "بنقرة واحدة.. تدرب على ما تريد أينما كنت..".
وبالرغم من أنّ الناس مازالت تفضل الكتب المطبوعة على الورق، إلا أن أولئك الذين يعارضون الثورة الجديدة للمعلومات يمكن تركهم في تصوراتهم. ففي عام 1500 بعد قرن تقريباً من اختراع ماكينة جوتنبرج القابلة للحركة. استمر كثير من الناس في اعتقادهم بأنّ القيمة والجمال لا يتحققان إلى في المخطوطات فقط، وأنّ الأعمال التي يتم صنعها بجهد شاق تستهوي الناس، وهذا لا يمكن تحقيقه في الكتب المطبوعة. وقد قال فيديريجو داموا نتفيلترو وهو من رواد عصر النهضة: "إنني أخجل من أن يكون لدي كتاب مطبوع".
إنّ مثل هذه الأفكار عزلت الناس تماماً عن الأفكار الجديدة والمعلومات العلمية التي كانت موجودة فقط عن الكتب المصورة، كما يصر المدرب الآن على تدريب المادة التي من إعداده فقط، أو كما يتخيل بعض المدربين المحترفين أنّ العبرة بالمغني وليس بالأغنية: It is the Singer not the Song أو أن يشعر المدرب بالمتعة والإشباع الذاتي وهو يغادر القاعة وقطرات العرق تملأ جسمه، ويشعر بها وهي تتساقط أو تناسب على صدره أو رقبته كنتيجة للجهد الخارق الذي بذله. هذه هي صورة المدرب الفعال التي سرعان ما ستتبدل تماماً كما تبدلت صورة المحارب الذي كان عليه أن ينازل عدوه من خلال اصطدام مباشر وتلاحم جسدي إلى نزال عن بعد دون رؤية العدو بالعين المجردة، وعن طريق استدعاء موقعه وإمكاناته على شاشات الكمبيوتر والتعامل معه دون مواجهة مباشرة.
- انهيار الحدود:
وبرغم كل هذا التقدم لتكنولوجيا المعلومات، ومع هذا الاهتمام الذي تستقبل به، لإنها مازالت تأتي في المرتبة الثانية بعد قدرة المخ البشري، حيث يقدر الباحثون أنّ الدماغ المتوسط به كدريليون وصلة من خلاياه العصبية، وهي تمثل أكثر من جميع المكالمات التليفونية التي تمت في الولايات المتحدة في العقد الماضي، إنّ القدرة الإنسانية مازالت غير قادرة على السيطرة على الطريقة التي تشكل بها تكنولوجيا المعلومات حياتنا السياسية والاجتماعية والثقافية، وصار الموقع الجغرافي وغيره من المصادر مثل الأيدي العاملة، ورأس يعني القليل، حيث أصبح من الممكن للدول المتباعدة أن تستخدم التكنولوجيا والمعلومات لتعمل معاً تماماً كما في شبكات الإنترنت والأقمار الاصطناعية دون الحاجة إلى الانتقال المادي. وأصبح من الممكن للإدارة أن تنسق العمل وتراقب الجودة دون النظر إلى المكان والمسافة، وبات من الممكن للأموال أن تنتقل في شكل أسهم وسندات وعملات من مكان لآخر من خلال الأسواق الإلكترونية، حتى أن حجم المتاجرة الذي يتم يومياً في هذه الأسواق يقدر بثلاثة تريليونات دولار وهو ما يعادل ضعف حجم الميزانية السنوية للولايات المتحدة الأمريكية.
وكانت الإدارة – ومازالت في بعض المؤسسات – تتمسك بخطوط السلطة التنظيمية وبمستويات الإدارة بمسمياتها المختلفة. وتبرع المؤسسات في إخراج أدلتها التنظيمية المليئة بالمربعات والمستطيلات والخطوط التي لكل منها دلالة محددة. إلا أنّ التطور التكنولوجي الهائل الذي نشهده الآن وانعكس على انهيار الحدود، نكاد نلمس انهياراً مشابهاً له للحدود التنظيمية بين المستويات أو بين الوحدات التنظيمية بنفس المستوى، وأوشكت على السقوط في بعض المؤسسات تلك الحدود Organization Boundaries وفقدت معناها تلك الكلمات والمصطلحات التي قام عليها علم الإدارة، كالمسؤولية والسلطة، وحدة التوجيه، وحدة الأمر، نطاق الإشراف، وحل محلها كلمات هي الدعم من أسفل إلى أعلى Peframiding وإعادة هندسة العمليات Busness Process Reengineering والمنتجات خالية العيوب Zero Defect Product وحسابات تكلفة الخطأ Cost of Error وغيرها من المفاهيم التي تعني في حد ذاتها انهيارا للبناء التنظيمي الجامد وسقوط فكرة المربعات والأهرامات التنظيمية، وتحولها إلى دوائر تعكس اللانهائية والاستمرارية والعدالة والمشاركة – بل تبدلت بعض المسميات الإدارية من رئيس إلى قائد جماعة Team ومن مدير إلى مالك العملية Process Owner. إنّ المدير العربي الذي يصر على أن يتمسك بما ورد بالمخطوطات التنظيمية التاريخة كالوصف الوظيفي ليحاول من خلال ثواب وعقاب الآخرين بناء إمبراطورية تنظيمية شخصية له سيواجه مأزقاً يشعر فيه بعدم قدرته على الأداء أو العطاء، وسيجبر على أن يترك مكانه في أعلى الهرم ويجلس على محيط الدائرة التنظيمية التي تدور به فيصبح تارة في أعلى الدائرة وتارة أخرى في أسفلها، محكوما في ذلك بحجم ونوع معرفته المتجددة. لا بحجم ودرجة سلطته التاريخية، أو التقليدية أو قوة حسبه ونسبه وتاريخ عشيرته أو اللحمة التي ينتمي إليها. تماماً كما حدث للبشرية في القرن الخامس عشر حيث كان الأوربيون (يؤمنون) بأنّ السماء طبقات بللورية مغلقة ذات محور مشترك، وقد علقت فيها النجوم والكواكب، وتدور حول الأرض، وصاغت تلك المعارف (بنية) كل أفعالهم وأفكارهم، ذلك لأنها تنبئهم بالحقيقة، ثمّ جاء تلسكوب جاليليو وغير الحقيقة.. ونتيجة لذلك وبعد مائة عام (عرف) الإنسان أنّ الكون منفتح ولا نهائي، ويعمل كساعة عملاقة. وفي ضوء كل ما استحدث من معارف تغير كل شيء ليعكس النظرة الجديدة الناجمة عن تغيير المعارف، وهذا هو ما يحدث الآن من تغيير معارف الإدارة والتكنولوجيا والمعلومات، وما سيترتب عليه من تغير. كان المدرب أو مازال يفخر بعدد ساعات التدريب التي يقدمها، أو تعدد الجهات التي شارك في تدريب العاملين بها، بل ومازالت سير الحياة الذاتية، وستظل لفترة قادمة مكتظة بقوائم الجهات التي قام المدرب بتقديم خدماته إليها لوجوده بمواقع عملها، تماماً كما كان المحللون السياسيون يقيمون العلاقات الاقتصادية العالمية بعدد حركات عربات السكك الحديديدة بين الدول. أما الآن فهم يعدون حركات المرور على شبكات الاتصال السلكية واللاسلكية. سيتغير أسلوب قياس كفاءة المدرب وقراءة سابق خبراته، فبدلاً من ساعات التدريب سيصبح عدد البرامج الإليكترونية التي أنتجها، أو عدد الاتصالات أو نقاط التواصل المعلوماتي بينه وبين طالبي الخدمة التدريبية، أو بعدد الساعات التي يقضيها في منزله لتطوير برامج جديدة كبديل لعدد أيام التدريب التي يخرج فيها من منزله متوجهاً إلى عملاء أكثر فأكثر.
- التجديد ومعنى الزمن:
في مثل هذا المناخ الذي يسيطر على المعلومات يجب أن يتوافر عدد كبير من العاملين (القادرين) على استيعاب المعلومات ومعالجتها وتسويقها، ويتوقع بيتر دركر أنّه بحلول عام 2000 فإنّ هذا العمل سيمثل الدور الأساسي لثلث القوة العاملة في الولايات المتحدة على الأقل. إن احتياج المديرين لاستيعاب التكنولوجيا بل قدرتهم على تسويق قدراتهم وبرامجهم المعلوماتية سيصبح من سمات وخصائص المدير الفعال، كما سيتحول التحدي الرئيسي للمدربين من داخل القاعة إلى خارجها، ومن أثناء العملية التدريبية إلى قبل بدء التدريب، ومن اللقاء الشخصي إلى اللقاء عن بعد.
بل إن مراكز التدريب المتخصصة عليها أن تفتح ذراعيها لتشغيل المعلومات والأفكار والتكنولوجيا، وتفتح عينها على حجم الحركة ومدى وسرعة التغيير الذي يحدث حولها وتفتح ذهنها لتقدم الجديد والمبادرات في عالم سريع التغيير. مثلها في ذلك كمثل الحكومات التي أيقنت أهمية السماح لتدفق المعلومات بحرية، وعدم محاولة تقييدها إلى الحد الذي أدت فيه حركات التدفق المستمر للمعلومات إلى تغذية الديمقراطية. فالقضايا المطروحة على البحث يتم تقديمها وعرضها بسرعة وبالوسائل البصرية أوّلاً فأولا "نحن نريد الأخبار الجديدة" شعار سيتردد كثيراً على ألسنة الناس، وهم يقصدون بذلك الأخبار أو الأنباء التي وقعت منذ آخر نشرة أخبار سمعوها، ستتأثر المادة التدريبية بذلك الاتجاه وسيصعب على المدرب أن يقدم مادة تدريبية "تاريخية" يقوم بتدريبها منذ سنوات عديدة تعود عليها وأحبها وصار يرددها كالببغاء، يقدمها بلا حماس، ويستمع إليه المدربون بلا جدية. وسيصبح المأزق الذي سيواجهه المدرب في القريب العاجل ممثلا في التساؤلات التالية:
"أين الجديد فيما تطرح؟" هل سمعت عن البرنامج الذي أنتجته شركة (س) صباح أمس؟ لماذا لا تتصل الآن بمركز المعلومات الآلي في دولة (ص) لتعرف مزيداً من المعلومات عن هذا الموضوع؟".
سيزداد دور وأهمية المتدرب وسيغلب على أنماط المتدربين نمط (المتدرب المشارك/ الديمقراطي) وسيلعب الرأي العام للمتدربين دوراً مهماً في صياغة المادة التدريبية.
بل سيستطيع المتدرب أن يتصل بشبكة شبيهة بشبكة حق المعرفة Right to know ليسأل عن تقييم إحدى الشركات لأداء المدرب في آخر برنامج عقده (عن بُعد) وأن يتلقى الإجابة بمنزله على (الموديوم) Modem.
إنّ التغييرات السابقة سوف لا تكون مطلقة، حيث إن تطبيقها يحتاج إلى تكاليف مرتفعة قد تقسم هذا العالم إلى قسمين، قسم حائز على المعلومات، وقسم آخر غير حائز للمعلومات. مراكز تدريب ومدربون لديهم الرغبة والقدرة للاتفاق على هذه التكنولوجيا ومجموعة أخرى لا يعرفون القراءة الإلكترونية لا للأفكار ولا للأحداث.
سوف تعبر بعض مراكز التدريب والمدربون إلى العالم الجديد بينما سيبقى آخرون في ترددهم أو تأخرهم وأياً كان موقف كل منا تجاه هذه الحقائق فإنّ الحقيقة الوحيدة الثابتة هي: زيادة الاعتقاد في المعلومات إلى حد يشبه (الإيمان) وزيادة الاعتقاد بأنّ الذكاء يكمن في التزود بالمعلومات وليس في حشو الأدمغة بالوقائع والحقائق، وأنّ التدريب يكمن في الوسائل والأساليب الحديثة لا في البراعة الفردية المباشرة.
وعندئذ تتأكد المقولة الشهيرة: "إنّ الإنسان حصاد معارفه"..
*خبير في التنمية البشرية
المصدر: مجلة العربي
ارسال التعليق