• ٢٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

حاجات الناس المعرفية

أ. د. عبدالكريم بكّار

حاجات الناس المعرفية

◄حين يمضي الناس إلى حضور محاضرة أو درس، فإنّهم يتطلعون إلى سماع شيء يحتاجون إليه، حتى إنهم حين يذهبون إلى صلاة الجمعة، فإنّهم لا يهدفون إلى أداء فريضة فحسب، وإنما يرجون أيضاً أن يسمعوا شيئاً مفيداً، يساعدهم على صلاح أمورهم، ومن هنا فإن من المهم لنجاح أي متحدث مهما كان أسلوب خطابه أن يعرف الأمور التي تشغل مخاطبيه، وتسيطر عليهم، حتى يتخذ منها أرضية مشتركة للتفاعل والتواصل معهم. في المقابل فإن أكبر إخفاق يواجه أي متحدث منذ البداية يمكن أن يكمن في موضوع لا يشعر المستمعون بالحاجة إلى معرفة أي شيء عنه. تصور معي مثقفاً دعي لإلقاء محاضرة في إحدى الجامعات وعوضاً عن أن يتحدث عن مشكلات التعليم الجامعي أو ثقافة الطالب الجامعي مثلاً فإنّه أخذ يتحدث عن مشكلات السلامة المهنية للعمال في المصانع، أو عن مقاومة آفة زراعية تُقلق المزارعين، أو عن مشكلة الاستبداد في بلد معيّن لا يعرفون عنه أي شيء... هذه الغلطة قلّما يقع فيها متحدث، لكن الذي كثيراً ما نقع فيه هو أننا لا ندرك أولويات المستمعين، فالموضوعات التي يحب الناس أن يسمعوا فيها شيئاً كثيرةٌ، لكن أي تلك الموضوعات أكثرها إلحاحاً عليهم، ويعتقدون أنّ المتحدث الذي يطرقها يلامس عقولهم ومشاعرهم على النحو المطلوب؟

ولَعَلِّي أستعرض هذه المسألة المهمة عبر النقاط التالية:

1- قد تكون أفضل طريقة للتعرف على حاجات الناس المعرفية والتوجيهية هي سؤالهم عنها ومحاورتهم حولها؛ إذ مهما كان المحاضر أو الداعية على اطلاع على أحوال الذين يقوم بتعليمهم وتوجيههم فإن تقديره لحاجاتهم يتم من أفق إدراكه لمتطلبات التدين ومتطلبات المرحلة والعيش في زمان محدد، ومع أنّه لو سألهم، فإنّه لن يستطيع التخلص من رؤيته الذاتية لحاجاتهم إلا أنّ الوضع سيكون أفضل بكثير مما لو تجاهلهم.

وعلينا بعد هذا أن نقول: إن عامة الناس لا يعرفون كلّ ما يُصلح حالهم، فهم مثلاً لا يعرفون المخاطر التي جاءت بها (العولمة) كما أنهم لا يدركون مدى حاجتهم إلى ثقافة تربوية جيدة يسترشدون بها في تربية أبنائهم، وهم من باب أولى لا يعرفون مفردات ما يحقق التوازن في حياتهم العامة.. وعلى الفقيه والخطيب والواعظ أن يعي ذلك، ويقدمه لهم. ويمكن أن يستعان في تحقيق بعض ذلك بوضع صندوق للاقتراحات في المسجد، كما أن تشجيع المستمعين على الحوار المستمر يكشف عن مستوى فهمهم للأمور وعن نوعية حاجاتهم المعرفية.

2- إن من الممكن القول: إن حاجات الناس، تنقسم إلى قسمين خاصة وعامة، أما الاحتياجات الخاصة، فهي ما يلاحظه المتحدث، ويتكلم عنه الناس من أمور ملحّة موجودة في بيئتهم، ويعانون منها، وقد لا تكون موجودة في بيئة أخرى، أو ليست ملحّة خارج تلك البيئة، فقد يشعر الناس مثلاً أن جرائم سرقة السيارات صارت في بلدهم جريمة منظَّمة، وقد زادت عن أي حد مألوف، وصارت تشكل هاجساً مزعجاً لكل من لديه سيارة، أو يشعرون أن تقاليد معينة تحول دون عثورهم على فرصة عمل، مثل أنفة بعض الناس من مزاولة العمل في الأعمال الحرفية، أو انتشار ظاهرة تسرب الأطفال والفتيان والفتيات من المدارس إلخ... وفي هذه الحالة فإنّ من المهم أن يتطرق الطيب والواعظ والمتحدث عامة إلى معالجة هذه القضية وتوضيح أسبابها ودلالة الناس على طرق التعامل معها والتخفيف من غلوائها.

أما الاحتياجات العامة، فهي تلك التي لا تنفرد بها بيئة إسلامية عن بيئة أخرى؛ وذلك لأنّها احتياجات نابعة من طبيعة الثقافة السائدة، أو من الطبيعة البشرية، أو من الوضع المعيشي العالمي بفرصه وتحدياته وإمكاناته، وهذه الاحتياجات لا يدركها الناس عادة على نحو جيد؛ لأنّها تتطلب حساسية فكرية ومعرفية، لا تتوفر في الغالب لدى كثير منهم.

وَلَعلِّي أستعرض هنا أهم الحاجات التي أظن أنّ الحديث عنها يشكِّل أولوية لدى كثير من المسلمين:

أ) مشكلة الفقر؛ حيث إنّ معظم المسلمين في العالم يعانون من صعوبات كبيرة في تأمين متطلبات الحياة الكريمة، ولك أن تُقدِّر ذلك من خلال استعراض أوضاع التجمعات السكانية الكبرى، كما هو الحال في إندونيسيا والباكستان وبنغلادش ومسلمي الهند ونيجيريا؛ ولا يبعد عنها كثيراً وضع المسلمين في بلاد أقل حجماً مثل مصر والسودان بالإضافة إلى معظم الشعوب الإسلامية في أفريقيا. الفقر يجر خلفه عدداً كبيراً من المشكلات مثل الجهل والمرض والبطالة والتخلف التقني... وحجم هذه المشكلة يتجلى على نحو واضح في إنخفاض الناتج الوطني للسواد الأعظم من الدول الإسلامية.

ب) يجتاح العالم الإسلامي كافةً اليوم هجمة مادية هائلة تحمل في ثناياها إغراءات كبيرة للناس باللهو والتسلية والإقبال على إرواء الغرائز من غير أي حدود أو أي ضوابط، ويتولى البث الفضائي وشبكة الإنترنت كِبَر هذه الهجمة، وقد أدى هذا إلى ضعف مريع في الجانب الروحي لدى كثير من المسلمين؛ ولا سيّما الشباب، وبات الأمر يحتاج حلّاً سريعاً.

أعتقد أن على الخطباء والدعاة أن ينبِّهوا الناس إلى مخاطر هذه الوضعية الجديدة، وأن يعملوا على تأسيس تيار روحي قوي ومنضبط بتعاليم الشريعة الغراء من أجل مقاومة التيار الشهواني المدمر. وسوف نخطئ إذا كنا نظن أننا من خلال القيام بتبيان مخاطر هذه الموجة المادية سنجعل المسلمين يقاومونها، ويصمدون في وجهها؛ فالعقل لا يقاوم الشهوة، وإنما الذي يقاومها ما يجده المرء من سعادة الإشراق الروحي المستمد من حب المسلم لله - تعالى - ومراقبته ومناجاته ورجاء ما عنده. والسبيل إلى ذلك المزيد من التعبُّد والوقوف عند حدود الله - تعالى -.

ج) إدارة الوقت والاهتمام به والاستفادة منه على أفضل وجه ممكن؛ إذ إن معظم المسلمين لا يحسنون استثمار أوقاتهم، ويبدو أن ذلك أحد أعراض التخلف، فالإحساس بالمسافات الزمانية والمكانية منتَج حضاري، ويحتاج الداعية والمرشد والموجِّه إلى أنّ يثابر دون ملل على حث الناس على الاستفادة من أوقاتهم، إلى جانب دلالاتهم على الطرق والأساليب التي تساعدهم على القيام بذلك.

د) الاهتمام بالمعرفة والكتاب والإقبال على القراءة والاطلاع على الجديد والمفيد؛ إذ إن ما يقضيه معظم المسلمين من وقت في صحبة الكتاب يُعد متدنياً للغاية إذا ما قيس بالوقت الذي يقضيه الفرد في الدول الصناعية، ويفيد بعض الدراسات أن متوسط قراءة العربي في اليوم لا يزيد على (7) دقائق، على حين أنّ المتوسط في العالم الصناعي يزيد على (38) دقيقة. إنشاء مكتبة جيدة في كلّ مسجد، وتغذيتها بالجديد، وتنظيم الاستعارة منها، يساعد الناس على القراءة. إننا في حقيقة الأمر نحتاج إلى تعاون شامل على مستوى الدعاة والمرشدين وعلى مستوى الأسر والمدارس كي يصبح الجيل الجديد أكثر التصاقاً بالكتاب ومصادر المعرفة من الجيل الحالي.

هـ) تحسين مستوى اهتمام الناس بتربية أبنائهم وتحسين مستوى اهتمامهم بالاطلاع على الأساليب والمعطيات التربوية الجديدة؛ وأعتقد أنّه في ظل تراجع دور المدرسة والمجتمع في التربية، صارت الأسرة تشكِّل ما يشبه الحصن الأخير الذي ليس بعد مغادرته سوى الضياع التام.

إنّ على فرسان الكلمة لدينا أن يلفتوا نظر الناس إلى مخاطر التقصير في تربية الأبناء التربية القائمة على العلم الصحيح، وليس على موروث العادات والتقاليد والخبرات، كما أنّ عليهم أن يقدِّموا على نحو مستمر المفاهيم والملاحظات التي تدل الناس على الممارسات التربوية الصحيحة.

ز) إذا تأمَّل الواحد منّا في معظم أحاديث السمر والمناقشات شبه العلمية التي تدور في معظم مجتمعاتنا، فسيجد أن بينها قاسماً مشتركاً هو التفكير من أفق اليأس والإحباط والارتباك في تحديد ما على الناس أن يفعلوه من أجل خروج الأُمّة من النفق المظلم الذي وجدت نفسها فيه. إذا فكّرنا بعمق من أجل العثور على شيء أساسي يحتاج الناس إلى زيادة بصيرتهم فيه، فربما انتهينا إلى أنّه الدور الشخصي الذي على كلّ واحد منهم أن ينهض للقيام به؛ إننا نحاول دائماً أن نصور مشكلات الأُمّة على أنها نتيجة طبيعية لأخطاء الجيل السابق أو لممارسات معينة، يقوم بها بعض أهل السلطان والنفوذ والجاه أو القيادات العلمية والشرعية والثقافية، ونتيجة لهذا التشخيص، فإن كلّ العامة وبعض الخاصة، يعتقدون أن تحسين أحوال الأمة كافة وتحسين البيئة التي يعيشون فيها منوط بأولئك الذين سببوا الأزمة، وهم القيادات السياسية والعلمية.

 

ح) يحتاج الناس اليوم إلى أن نساعدهم في شيء يمكن أن نسميه (إدارة الإدراك) ونعني به تصحيح تصوراتهم في قضايا مثل السعادة والشقاء والنجاح والإخفاق؛ حيث تبين أن نصف ما يحقق سعادة الناس يعود إلى معطيات ملموسة ومشاهدة، أما النصف الآخر على الأقل فيعود إلى طريقة نظرهم للأشياء وطريقة تحديدهم لعلاقتهم بها، وإذا تأمّلت قوله (ص): "عجباً لأمر المؤمن، كله له خير: إن أصابته سرّاء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له؛ وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن" وجدتَ أنّه ليس المهم في الرؤية الإسلامية نوعية ما يصيبنا ونوعية ما نواجهه، وإنما نوعية نظرتنا إليه وعلاقتنا به، فإذا نظرنا إلى ما يفيض الله به من نعمة علينا على أنّه اختبار، وأن موقفنا منه هو الحمد والشكر وأداء حقه كما أمر الله فإننا نفوز بأمرين: التمتع بالنعمة، وثواب الله - تعالى - على شكرها وانتظار المزيد من نعمائه وفضله، وإذا أصابتنا مصيبة، وقابلناها بالصبر والاحتساب، والرضا، فإننا سنخفف عن أنفسنا الكثير من الحزن والجَزَع، وسننتظر من الله - تعالى - ثواب الصابرين، فتنقلب المحنة إلى منحة وعطية، أما إذا لم نشكر على السرّاء، فإنها تنقلب إلى محنة، وإذا لم نصبر على الضراء أزعجتنا المصيبة، وفاتنا الأجر، فلم نظفر بخير عاجل ولا آجل!.

وهناك إلى جانب هذا مفاهيم كثيرة مهمة حول السعادة والقناعة والرضا والتميز الشخصي، وما كان على هذه الشاكلة، إذا شرحت بطريقة صحيحة، تساعد المسلم على تقوية إيمانه وتحسين مزاجه وتصحيح علاقته مع الله - تعالى - ومع الأشياء من حوله، وعلينا أن نقوم بذلك خدمة لأبناء الأُمّة.

إنّ إدراك حاجات الناس الخاصة والعامة، يحتاج إلى رؤية نافذة لشروط العيش في زماننا ورؤية ثاقبة لمتطلبات التدين الحق، ورؤية ثاقبة للطبيعة البشرية ولما يعدّه الناس أموراً لا يجوز التنازل عنها.►

 

المصدر: كتاب المُتحدِّث الجيِّد

ارسال التعليق

Top