أسرة
الإنسان ميّال بطبعه إلى حبّ الجمال وتعشّقه، وإذا كان اليوم يحبّ الطبيعة من خلال لوحة معلّقة على الجدار، أو تحفة فنّية ترقد على الرف، ويستهويه الجمال في المصنوعات التي تفنّن مهندسوها في ابتكارها وصناعتها، فإنّ حبّه للجمال لم يتغيّر حتى أنّه يحنّ في كثير من الأحيان إلى الارتماء في أحضان الطبيعة لينفض عن كاهله بعض هموم الحياة العصرية المليئة بالضجيج والضوضاء والحركة اللاهثة المحمومة.
ولكن، هل نترك المسألة كريشة في مهبّ الريح، وندعها رهن المصادفة والظروف التي قد تسمح وقد لا تسمح؟
إنّ الحاجة إلى التربية الجمالية هي حاجة، ليست كمالية كما يتصوّرها البعض، إنّما هي حاجة أساسية، فكما يحتاج أحدنا أن يربّي عقله، ويربّي نفسه، ويربّي روحه، ويربّي جسده، هو بحاجة أيضاً إلى أن يربّي ذائقته الجمالية. فهل لنا أن نتصوّر حسرة ذلك الأعمى الذي يستوي لديه الليل والنهار والظلمة والنور والألوان والأشكال؟ أليس البعضُ منّا يبدو كالأعمى؟!
وقد يفهم بعض شبّاننا وشاباتنا من تربية الذائقة الجمالية أنّها الاستمتاع بالجمال الحسِّي فقط، في حين أنّ الجمال واسع سعة هذا الكون الذي نعيش فيه، وهو ليس محصوراً في المناظر الخارجية للأشياء، كما أنّه ليس حكراً على الأشياء المادية فقط، ولذا قيل إنّ كل تربية إسلامية هي تربية جمالية. فأنت حينها تربّي نفسك على الصدق مثلاً إنّما تزرع شجرة جميلة مزهرة مثمرة يراها الآخر في هذا السلوك اللّطيف والتعامل الجميل والكلمات الطيبة فتبعث في نفسه ما تبعثه شجرة حقيقية مونقة مورقة مشرقة مزقزقة.
ولذا فإنّ التربية الجمالية تبدأ منذ الصغر، فالطفل الذي يفتح عينيه ليرى أمّاً صبوحة الوجه أنيقة الثياب عذبة الألفاظ، وينتقل في بيت تكاد النظافة تنطق في كل جوانبه وزواياه، ويجد الصفاء يرفرف في أنحائه من أمٍّ حانية وأب عطوف، ينغرس حبّ الجمال في نفسه فينشأ وهو جميل في ملبسه وفي تعامله وفي نظرته للأشياء. فدور الأُم في تنظيم بيتها وتزيينه بما يحيله إلى جنينة يجعلنا نأخذ الدروس الأولى في التربية الجمالية بنحوٍ غير مقصود.
ثمّ تأتي العوامل الأخرى في تنشئتنا تنشئة جمالية، فأصدقاؤنا الذين انحدروا من بيوتات لا يسمع فيها إلا القول الجميل، ولا يرى فيها إلا التصرف الجميل، ولا يشمّ فيها إلا الأنفاس العاطرة، ولا يلمس فيها إلا نبض القلوب الحانية، سيتركون بصماتهم الجميلة علينا.. ومعلّمونا الذين يقدّمون لنا في حبّ وحرص وإخلاص وأبوّة أساليب التعامل مع زملائنا والحياة من حولنا، تبقى وصاياهم ترنّ في آذاننا مدى الحياة. وما نقرأهُ في كتاب الله الجميل، وفي كتاب الكون الحافل بمشاهد الجمال، إنّ ذلك كلّه يعطينا من التربية الجمالية ما لا تمحوه الأيّام ولا تغيِّره الطبائع المتقلّبة حتى لو انقلبت مفاهيم الناس فصاروا يرون القبح جمالاً والجمال قبحاً.
يضاف إلى ذلك، أن ما تضعه الحكومات من قوانين لتنظيم السير وما تنشئه من عمران هندسي جميل، وما ترعى من حدائق ومتنزهات، وما تزيّن به الشوارع والساحات العامّة من مصابيح مختلفة الأشكال والألوان وما تفتح من أنفاق وما تعبّد من طرق وما تهتم به من نظافة البلد يساهم أيضاً في تربيتنا الجمالية.
كما أنّ أبناء المجتمع الذين يقفون في الطوابير لشراء بعض اللوازم الحياتية أو في انتظار الحافلة، والذين لا يرفعون مزامير سياراتهم عالياً، والذين يراعون مشاعر وصحّة الآخرين في عدم البصاق على الأرض أو القاء المهملات وغير ذلك من المشاهد المنفّرة، يلعبون دوراً مهمّاً في التربية الجمالية غير المباشرة.
وتجدر الإشارة هنا إلى أنّنا أحياناً نتربّى جمالياً حتى ونحن نواجه المشاهد المقزّزة التي يفترض أنّها تعلّمنا كيف نتجنّب المخدشات للإحساس بالجمال والمفسدات للذوق الجمالي.
ارسال التعليق