الدُّعاء هو لغة قريبة وبسيطة تربط الإنسان بخالقه، وتجعله يعيش عمق هذا الارتباط، وصفاء صوره ومعانيه، وعظمة دلالاته وأبعاده، بما ينعكس نفعاً للإنسان، وينمِّي بالتالي روحه وأخلاقياته، ويجعل من إيمانه شيئاً يتحرّك في حياته الخاصّة والعامّة، لا مجرّد ألفاظٍ تلفظ. إنّ الدُّعاء قوّة إيجابية دافعة ومحفّزة للإنسان، كي يطوّر علاقته بالله والحياة على الدوام، بما يؤهِّله لممارسة دوره الطبيعي في استخلاف الأرض وعمارتها، ولا يمثّل الدُّعاء الاتكالية السلبية العمياء، بل العمل بما أودعه الله من عناصر لدى الإنسان، تساعد على الحركة والفعل والتأثير.
من هنا، تأتي أهميّة الدُّعاء في أن يقف المرء ويحاسب نفسه، ويتأمّل في أوضاعه وعلاقاته مع ربّه، بالشكل الذي يدعو إلى مراجعة كلّ حساباته، ويرتّب كلّ شؤونه مع ربّه، بما ينسجم مع رسالته ودوره، والله تعالى قريب منّا: (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) (ق/ 16)، ويسمع دعاءنا واستغاثتنا المخلصة له، ويحضّنا على الإخلاص له، وعلى الدُّعاء وطلب الحاجة منه، فهو ربّ الأرباب، وقاضي الحاجات، وسميع الدُّعاء. قال تعالى في محكم كتابه العزيز: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (البقرة/ 186)، وفي آيةٍ أخرى قال تعالى: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) (غافر/ 60)، وهناك آية شريفة تبرز أهميّة الدُّعاء بقوّة: (قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ) (الفرقان/ 77).
الدُّعاء تعبير أصيل عن ديمومة حاجة الإنسان إلى ربّه، وشعوره المسؤول بذلك، وليس مجرّد كلام يُطلَق.. فالدُّعاء هو التعبير الحيّ عن شعور الإنسان بحاجته الدائمة إلى الله في جميع أُموره، واعترافه الخاضع بصفة العبودية التي تشمل الإحساس بالارتباط العميق بالله والفناء فيه، بحيث لا يحسّ معه بوجوده، ولا يشعر بكيانه. ومن البديهيّ أنّ الإيمان الحيّ لا يتحقّق بدون هذا الشعور وهذا الإحساس، إذ لا معنى للإيمان بالله إلّا الإحساس بالقدرة الخالقة التي لا تقف عند حدّ، والقوّة المطلقة التي لا تنتهي إلى غاية، في مقابل عجز الإنسان وضعفه، الذي لا يملك لنفسه ضرّاً ولا نفعاً إلّا بالله.
وفي ضوء هذا، فإنّ حاجتنا إلى الدُّعاء تتمثّل في حاجتنا إلى التعبير عن هذا الإيمان، والعمل على استمراره داخل النفس حيّاً نابضاً بالحياة، يجدّد للإنسان إيمانه، ويركِّز ثقته بالله.. ولهذا، ورد في الحديث أنّ «الدُّعاء مخّ العبادة»، لأنّه التعبير الحيّ عن معنى العبودية والخضوع والخشوع الذي يتمثّل في العبادة. وبدونه، تصبح العبادة جسداً لا روح فيه، وبذلك، يخرج الدُّعاء عن أن يكون طقساً تقليديّاً يمارسه الإنسان بدون فهمٍ أو وعي، بل بفعل العادة الدائبة. وقيمة الدُّعاء في الإسلام، هي تربية الإنسان على المحافظة على شعوره الدائم بالحاجة إلى ربّه في جميع أوضاعه وحالاته، وتأصيل هذه القيمة في وجدانه وروحه وعقله، ليكون الإنسان الواعي المخلص لربّه.
تمثّل الصحيفة السجادية للإمام علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) مدرسة بارزة ومتكاملة، تهدف إلى ربط الإنسان بالله والحياة، بالطريقة الحيوية العملية، وقد كانت غاية تلك المحاولة، أن تجعل من الدُّعاء مدرسةً تربط الإنسان بالحياة، وتربط الحياة بالله، وتؤكِّد المفهوم الإسلامي الذي لا يجعل من حياة الإنسان معنى مادّياً بعيداً عن الروح، بل يريد أن يوجد التمازج الحيّ بين الروح والمادّة، في وحدةٍ رائعةٍ تنسجم مع اتّصال الجانب الروحي بالجانب المادّي في كيان الإنسان، ولم ترد للإنسان أن ينهزم وينعزل عن وجوده، في عملية هروبٍ سلبي، بحجّة الانقطاع إلى الله، والابتعاد عن المادّة، بل أرادت له أن يجعل من صلته بالله حافزاً إيجابياً، يدفعه إلى العمل من أجل تحقيق إرادة الله في بناء الحياة بشكل أفضل.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق