الحبّ مصدر كلّ خير في نفس الإنسان، وأكثر ما يكون في النفس من خير وعطاء فإنّ مصدره الحبّ، وأكثر ما يكون في النفس من شحّ وبخل وضنك فإنّ مصدره البغضاء والكراهية. إنّ الحبّ يمنح النفس القابلية على العطاء والقدرة على فعل الخير، فإذا دخل الحبّ النفس فاضت بالخير والرفق والإحسان والبذل والعطاء، وتحوّلت النفس البشرية إلى واحة خضراء مباركة كثيرة العطاء، وإذا أقفرت النفس من الحبّ تحوّلت إلى أرض قاحلة غير ذات زرع، فلم تجد فيها غير الحقد والبغضاء والعدوان والمكر والكيد. عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «لا يؤمنُ أحدكم حتى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه». يبيّن الحديث الشريف أنّ المرء لا يبلغُ كمال الإيمان إلّا إذا كان يحبّ لأخيه المسلم من الخير ما يحبّه لنفسه. ويُفهم منه أنّ مَن لم يتخلّق بهذا الخُلُق الكريم إن كان مؤمناً فإنّه لم يصل إلى الإيمان الكامل، وإذا كان لم يصل إلى الإيمان الكامل فيكون إيمانه ناقصاً. فالإيمان يشبه ملجأً منيعاً يُبنى بحجر على حجر، والإيمان كذلك يُبنى خصلةً طيّبةً على خصلةٍ طيبةٍ حتى يُستَكملَ البناءُ. فهذه الخصلة، وهي محبّةُ الخيرِ للناس، لبنةٌ في صرح البناء وليست البناء كلّه. وهذا يعني أنّها بذاتها لا تشكِّل إيماناً كاملاً كما يُفهم من النص الكريم. هذه الخصلة الكريمة تعني أن يُحبّ المرء لغيره من الخير ما يُحبّ لنفسه. وهذا ما يقودنا إلى الحديث عن الخير، وهي كلمةٌ جامعةٌ لكلّ ما ينفع الإنسان مادّياً كان أو معنوياً سواء كان يقتصر نفعه على الدنيا أو يتعلّق بالآخرة مثل الطاعات والمباحات. ومحبّةُ الخير للناس، هي أن يريدَ المرء لغيره ما يعتقده خيراً.
يقول الله تعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (آل عمران/ 104). تُخاطب هذه الآية الواقع الإسلامي كلّه، ومَن هم في واقع الدعوة إلى الخير، بحيث تطلق جماعة من هذه الأُمّة ممّن يملكون الوعي والثقافة والمعرفة والشجاعة والإرادة الصلبة، ليقوموا بمهمّة الدعوة إلى الخير. والخير كلمةٌ تتسع لكلِّ ما أحبَّه الله ورضي به، ولكلِّ ما يرفع مستوى الإنسان في دنياه وآخرته، ولكلِّ ما يُمثِّل القيم الروحية والأخلاقية، هذا الخير لابدّ من أن تحمل الأُمّة مسؤولية الدعوة إليه، وأن تنطلق كلّ الأُمّة بملايينها لتدعو العالم كلّه إلى الخير. والدعوة إلى الخير مسؤولية أساسية في الإسلام تطال كلّ مسلم، ذَكراً كان أو أنثى، ولا يكفي في الإنسان المسلم الالتزام بإسلامه في مسؤوليته الخاصّة بالنسبة إلى نفسه، بل لابدّ أن يحمل الإسلام كمسؤولية من مسؤولياته العامّة، بأن يدعو غيره إلى الإسلام.
إنّ الفطرة الإنسانية تدعو المرء إلى أن يبحث عن كلِّ ما يعودُ عليه من نفع، ويُبعد عن نفسه كلّ ما يعود عليها بالضرر، وهذا الاتجاه الفطري لازمٌ لبقاء النفس واستمرار وجودها. وقد جاء الإسلام لا لينفي أو يلغي هذه الفطرة، وإنّما ليهذّبها وينظّمها لتؤدِّي واجبها في الحياة على أحسن وجه. فوجّه الإنسان في هذه الناحية إلى أن لا يسعى في جلب الخير إلى نفسه وإبعاد الضرر عنها بالإضرار بالآخرين، وإنّما بأن يأخذ ما له ويدع ما عليه، وأن لا يجعل الحياة تدورُ حول النفس وأنانيتها. فإنّ الحفاظ على النفس الإنسانية ليس هدفاً وإنّما هو وسيلة ليتمكّن بها المرءُ من تحقيق واجبه في هذه الحياة.
إنّ حرص المسلم وتمنّيه الخير لغيره يدخلُ في باب التواضع الذي أمر به الدِّين، وحضّ عليه وحذّر من ضدّه، وهو الكبرُ، وحذّر منه لأنّ الإنسان إذا كان متواضعاً فهو لا يرى لنفسه مزيّةً أو فضلاً على غيره. فإذا نزلت عليه نِعمةٌ لم يَرَ نفسه مستحقّاً لها دون الخَلْقِ؛ بل يراها من محض فضل الله عزّوجلّ عليه. فيسأل الله تعالى أن يعمِّم فضله على سائر المسلمين، وبهذا يكون داخلاً في عموم الموعودين في قول الله تبارك وتعالى: (تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (القصص/ 83).مقالات ذات صلة
ارسال التعليق