• ٢٤ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٥ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

حقيقة الزهد ومراتبه

السيد عبدالله شبّر

حقيقة الزهد ومراتبه

◄قال تعالى: (وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) (الشورى/ 20)، وقال تعالى: (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى) (طه/ 131).

وفي الحديث: أوحى الله إلى الدنيا أن اخدمي مَن خدمني، ونغصي وكدري عيش مَن خدمك.

وقال النبيّ (ص): "مَن أصبح وهمه الدنيا شتت الله عليه أمره، وفرق عليه ضيعته، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلّا ما كتب له، ومَن أصبح وهمه الآخرة جمع الله له همه، وحفظ عليه ضيعته، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة".

قال (ص): "إذا رأيتم العبد قد أعطي صمتاً وزهداً في الدنيا فاقربوا منه، فإنّه يلقي الحكمة"، وقد قال الله تعالى: (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا) (البقرة/ 269)".

وعنه (ص): "إزهد في الدنيا يحبك الله، وإزهد في ما أيدي الناس يحبك الناس".

وعنه (ص): "مَن أراد أن يؤتيه الله علماً بغير تعلم وهدى بغير هداية فليزهد في الدنيا".

وقال (ص): "مَن زهد في الدنيا أحل الله الحكمة في قلبه فأنطق بها لسانه وعرفه داء الدنيا ودواءها وأخرجه منها سالماً إلى دار السلام".

وقال (ص): "مَن آثر على الآخرة ابتلاه الله بثلاث: همٌّ لا يفارق قلبه أبداً، وفقر لا يستغني معه أبداً، وحرص لا يشبع معه أبداً".

وقال (ص): "لا يستكمل العبد الإيمان حتى يكون أن لا يعرف أحب إليه من أن يعرف، وحتى يكون قلة الشيء أحب إليه من كثرته".

 

في حقيقته:

الزهد هو صرف الرغبة عن الدنيا وعدم إرادتها بقلبه إلّا بقدر ضرورة بدنه، وقد تقدم تحقيق معنى الدنيا، ومنه يعلم أنّ الزهد في الدنيا لا ينافي كثرة المال والخدم ونحوهما إلّا إذا كان محباً لها بقلبه وراغباً فيها وتشغله عن ذكر الله.

وقال أمير المؤمنين (ع): "الزهد كلّه بين كلمتين من القرآن، قال سبحانه: (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ) (الحديد/ 23). ومن لم يأسَ على الماضي ولم يفرح بالآتي فقد أخذ الزهد بطرفيه".

وقال (ع): "الزهد في الدنيا قصر الأمل، وشكر كلّ نعمة، والورع عن كلّ ما حرّم الله عزّ وجلّ".

وقال الصادق (ع): "ليس الزهد في الدنيا بإضاعة المال ولا تحريم الحلال، بل الزهد في الدنيا أن لا تكون بما في يدك أوثق منك بما عند الله".

نعم لما كان جمع المال ونحوه بالنسبة إلى حال أكثر الناس لضعف نفوسهم يحرك الرغبة في الدنيا فزهدهم إنما يكون في تركه، كما ورد في خبر آخر عن الصادق (ع) حيث سُئل عن الزهد فقال: "الذي يترك حلالها مخافة حسابه، ويترك حرامها مخافة عقابه".

وفي مصباح الشريعة: قال الصادق (ع): "الزهد مفتاح باب الآخرة والبراءة من النار، وهو تركك كلّ شيء يشغلك عن الله من غير تأسف على فوتها ولا إعجاب في تركها ولا انتظار فرج منها وطلب محمدة عليها ولا عوض لها، بل ترى فوتها راحة وكونها آفة، وتكون أبداً هارباً من الآفة معتصماً بالراحة. والزاهد الذي يختار الآخرة على الدنيا والذل على العز والجهد على الراحة والجوع على الشبع وعافية الآجل على محبة العاجل والذكر على الغفلة، وتكون نفسه في الدنيا وقلبه في الآخرة".

 

في أقسام الزهد ومراتبه:

إعلم أنّ الزهد في نفسه على ثلاث درجات:

الأولى: وهي السفلى أن يزهد في الدنيا وهو لها مشتهٍ وقلبه إليها مائل ونفسه إليها ملتفتة ولكنه يجاهدها ويكفها، وهي الدرجة الأولى من الزهد.

الثانية: أن يترك الدنيا طوعاً لاستحقاره إياها بالإضافة إلى الآخرة المرغوب فيها، كالذي يترك درهماً لأجل درهمين، فإنّه لا يشق عليه ذلك، وهو يظن بنفسه أنّه يترك له قدر لما هو أعظم قدراً منه.

الثالثة: وهي العليا أن يزهد طوعاً ويزهد في زهده فلا يرى زهده، إذ لا يرى أنّه ترك شيئاً، حيث عرف أنّ الدنيا لا شيء، فيكون كمن ترك نواة وأخذ جوهرة، فلا يرى ذلك معاوضة، وهذا كمال الزهد.

ومثله مثل مَن منعه من باب الملك كلب على بابه، فألقى إليه لقمة خبز فشغله بنفسه ودخل الباب ونال القرب عند الملك حتى نفّذ أمره في جميع مملكته، أفترى أنّه يرى لنفسه يداً عند الملك بلقمة خبز ألقاها إلى الكلب في مقابلة ما ناله، فالشيطان كلب على باب الله يمنع الناس من الدخول والدنيا كلقمة خبز يأكلها، فلذتها حال المضغ وتنقضي على القرب بالابتلاع، ثمّ يبقى ثفله في المعدة، ثم ينتهي إلى النتن والقذر ويحتاج إلى إخراج الثفل، فمَن يتركها لينال قرب الملك كيف يلتفت إليها؟!.

وينقسم الزهد قسمة أخرى بالإضافة إلى المرغوب فيه إلى ثلاث درجات:

أسفلها: أن يكون المرغوب فيه النجاة من النار وسائر الآلام، كعذاب القبر ومناقشة الحساب وخطر الصراط، وهذا زهد الخائفين.

وأوسطها: أن يزهد رغبة في ثواب الله ونعمته واللذات الموعودة في جنته، وهذا زهد الراجين.

وأعلاها: أن لا يكون له رغبة إلّا في الله ولقائه، فلا يلتفت قلبه إلى الآلام ليقصد الخلاص منها ولا إلى اللذات ليقصد نيلها والظفر بها بل هو مستغرق الهم بالله، وهو الذي أصبح وهمه هم واحد، فهو لا يطلب غير الله لأنّ مَن طلب غير الله فقد عبده، وكلّ مطلوب معبود وكلّ عبد بالإضافة إلى مطلوبه، وهذا زهد المحبين والعارفين.

وينقسم أيضاً إلى فرض ونفل وسلامة: فالفرض هو الزهد في الحرام، والنفل هو الزهد في الحلال، والسلامة هو الزهد في الشبهات.

واعلم أنّ للزاهد الحقيقي ثلاث علامات:

الأولى: أن لا يفرح بموجود ولا يحزن على مفقود، كما أشار إليه أمير المؤمنين في الاستنباط من قوله تعالى: (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ) (الحديد/ 23)، وهذا علامة الزهد في المال.

والثانية: أن يستوي عنده مادحه وذامه، وهو علامة الزهد في الجاه.

والثالثة: أن يكون أنسه بالله تعالى والغالب على قلبه حلاوة الطاعة.

 

ثمرة الزهد:

ليعلم أنّ مَن ثمرة الزهد السخاء ومن ثمرة الرغبة في الدنيا البخل، فالمال إن كان مفقوداً فالأليق بحال الإنسان القناعة، وإن كان موجوداً فالأليق بحال صاحبه السخاء والبذل لأهله واصطناع المعروف.

والسخاء من أخلاق الأنبياء وأصول النجاة، والسخي حبيب الله.

وقال النبيّ (ص): "السخاء شجرة من شجر الجنة أغصانها متدلية على الأرض، فمن أخذ منها غصناً قاده ذلك الغصن إلى الجنة".

وقال النبيّ (ص): "قال جبرئيل: قال الله تعالى: "إنّ هذا دين ارتضيته لنفسي، ولن يصلحه إلّا السخاء وحسن الخلق، فأكرموه بهما ما استطعتم".

وقال (ص): "إنّ من موجبات المغفرة بذل الطعام وإفشاء السلام وحسن الكلام".

وقال (ص): "تجافوا عن ذنب السخي، فإنّ الله أخذ بيده كلّما عثر أقاله".

وقال (ص): "طعام الجواد دواء، وطعام البخيل داء".

وقال (ص): "إنّ السخي قريب من الله قريب من الناس قريب من الجنّة بعيد من النار، وإنّ البخيل بعيد من الله بعيد من الناس بعيد من الجنّة قريب من النار، وجاهل سخي أحب إلى الله من عابد بخيل، وأدوى الداء البخل".

وإعلم أنّ أرفع درجات السخاء الإيثار، وهو أن يجود بالمال مع الحاجة إليه، قال الله تعالى في معرض المدح: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) (الحشر/ 9). وقال تعالى: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا) (الإنسان/ 8).

وقال النبيّ (ص): "أيما امرئ اشتهى شهوة فردَّ شهوته وآثر على نفسه غفر له".

وينبغي للفقير أن لا يمنع بذل قليل ما يفضل عنه، فإنّ ذلك جهد المقل، وفضله أكثر من أموال كثيرة تبذل عن ظهر غني.►

 

المصدر: كتاب الأخلاق

ارسال التعليق

Top