• ٢٦ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ٢٤ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

حكمة التقشّف

مهى قمرالدين

حكمة التقشّف

التقشف يدور حول شراء أقل، والشراء بشكل أفضل، والوقوف في وجه الاستهلاك الطائش.

على مر العصور، عبّر المفكرون والفلاسفة والحكماء عن أهمية التقشف، كما عاش أغلبيتهم حياة من البساطة والزهد. ولطالما أكدوا أن التقشف هو الدواء الشافي للعقول والأجساد المضطربة في الأوقات العصيبة، علماً بأنّه على العموم، دائماً ما بدت جميع الأوقات عصيبة لأولئك الذين عايشوها. فكان سقراط يربط البساطة والتقشف بالسعادة، وهو الذي تجنّب الثروة المادية لمصلحة حياة الفضيلة، كما فعل أبيقور بعد قرن من الزمان.

كان أفلاطون يدعو إلى التواضع في السكن والملبس والغذاء، مجادلاً بأنّ البساطة في تلك الأمور من شأنها أن تشجع على النقاء الأخلاقي.

أما الفيلسوف الإغريقي ديوجين فقد ذهب بعيداً في حياة التقشف التي عاشها، وهو الذي كان يستخدم جرّة خزفية كبيرة كمأوى له، وكان في كثير من الأحيان ينام على عباءته المطوية فقط، وكان يتبع نظاماً اقتصادياً يتجاوز حتى التطرف الشبيه بالرهبنة، حتى أنّه يُحكى أنّه بعد مشاهدته طفلاً يستخدم يديه ليشرب الماء، رمى كأسه الوحيدة، لأنّه شعر بالخجل من أن ذلك الطفل تجاوزه بالبساطة.

ومن بين الفلاسفة الأكثر حداثة تمكننا الإشارة إلى فريدريك نيتشه الذي كان يعيش، كما تم وصفة، فوق جبل مثل راهب من دون دير، وإلى المفكر والفيلسوف الأمريكي هنري ثورو الذي حاول عند انتقاله إلى منزل جديد امام بحيرة كبيرة، تأمين كلّ الظروف للعيش في عزلة تامة على غرار الحياة التي عاشها روبسون كروز بطل رواية "مغامرات روبنسون كروزو"، التي كتبها دانيال ديفو، وتروي قصة الشاب روبنسون كروزو الذي عاش على جزيرة وحيداً، وقضى فترة طويلة دون أن يقابل أحداً من البشر، وذلك لأنّ ثورو كان يؤكد أن التبريرات العقلية للعيش ببساطة عديدة، لكن لا يوجد شيء أقوى من قوة الطبيعة، إذ إن القرب من الطبيعة أمر ضروري إذا أراد المرء، كما يلاحظ ثورو، «أن يعيش عميقاً... ويمتص كلّ نخاع الحياة».

 

المعيار الأساسي

لكن السؤال الذي يبرز هنا هو أنّه إذا كانت تلك هي دعوة العديد من المفكرين والحكماء في العالم، فلِمَ لم يصبح التقشف هو المعيار العالمي الأساسي المتبع؟ هناك نقطة واحدة يتفق عليها معظم الحكماء مناصري التقشف، هي أنّه ليس من الصعب تحقيق البساطة في حياتنا، فبعد كلّ شيء، ضروريات الحياة قليلة، ويمكننا الحصول عليها بسهولة، بما في ذلك الطعام والشراب. الضروريات للبقاء والحماية من العوامل الطبيعية في شكل الملابس الأساسية والمأوى.

لكن العديد من مشكلاتنا الحديثة يكمن في قائمتنا الطويلة، بشكل مطّرد، من "الضروريات"، مثل الكهرباء وتكييف الهواء والسيارات والمواقد والثلاجات والهواتف الذكية وأجهزة الكمبيوتر وال "واي فاي"، وما إلى ذلك.

كذلك فإنّ الاقتصاد الحديث أخذ يبني على قدراتنا على الإنتاج، ومن ثم الاستهلاك بشكل أسرع وأسرع. يقول أمريس ويستكوت في كتابه "حكمة التقشف... لماذا الأقل هو الأكثر- تقريباً"، أنّه كان هناك وقت عندما كان من المنطقي إصلاح الأشياء بدلاً من استبدالها، لذلك كان الناس يتجرأون على ارتداء الجوارب المرتّقة، ويستخدمون الأغطية المرقّعة، ويأخذون الراديو الخاص بهم أو ساعتهم المعطلة للتصليح.

وعلى الرغم من أنّنا قد نجد إلى يومنا هذا العديد من المصلّحين الموجودين في بعض الأحياء القديمة بالمدن والقرى هنا وهناك، فإنّ إصلاح الأشياء لم يعد متوافقاً مع مفاهيم الحياة الحديثة، كما أنّه بات من دون جدوى اقتصادية، عندما أصبحت نصف دزينة من الجوارب بتكلفة ما يمكن أن يحصل عليه العامل الذي يعمل بالحد الأدنى للأجور في أقل من ساعة من العمل، وعندما تكون تكلفة إصلاح أي جهاز أكثر من سعر شرائه وهو جديد. كلّ ذلك، إضافة إلى أمور أخرى، أدى إلى إدارة مجتمعاتنا وفقاً لمبدأ الجشع على أساس لائحة لا متناهية من المقتنيات وتجديدها باستمرار، مما يطرح مشكلة عويصة كان قد أشار إليها المهاتما غاندي عندما قال إن «الأرض توفّر ما يكفي لتلبية احتياجات كلّ إنسان، ولكن ليس جشع كلّ رجل».

 

مهمة استراتيجية

  ومن هنا تبدو أهمية التقشف الذي ليس هو الاقتصاد أو التوفير في المال أو الطعام فقط، لكنّه كما يوضح ترينت هام في كتابة "الدولار البسيط"، متعلق بما هو أكثر من ذلك بكثير. فهو يرتبط بمجموعة أوسع من الخيارات والقيم الحياتية وتقدير الملذات البسيطة والتخفيف من المقتنيات بشكل عام في مجتمع يشجع على التنافس والمادية.

ويفرض اتباع التقشف ضرورة طرح مجموعة من الأسئلة المهمة عند التفكير في شراء أي شيء، مثل: هل أنت حقاً بحاجة إلى ذلك المنزل الكبير؟ وما هو أصغر حجم منزل تحتاج إليه؟ كم ستكون تكاليفه من حيث الصيانة والتدفئة والتنظيف والتأثيث وخلافه؟ أو، هل حقاًّ أنت بحاجة إلى سيارة جديدة؟ هل حتى أنك تحتاج إلى سيارة على الإطلاق؟ أو، هل أنت حقاًّ بحاجة إلى شراء خاتم الخطوبة الماسي الباهظ الثمن، أو إقامة ذلك العرس الكبير الفاخر؟

وهل هناك فعلاً رابط بين الحبّ والإنفاق؟ أو، هل تحتاج فعلاً إلى تجديد أجهزتك الإلكترونية؟ لماذا لا يمكنك استخدام هاتف أو كمبيوتر محمول قديم الطراز لبضع سنوات أخرى، إذا كان ذلك يوفر عليك 1000 دولار أو أكثر؟

وهل أن الرغبة الفعلية في اقتناء ذلك الجهاز الجديد تتبع من الرغبة في إقناع الآخرين والتباهي أمامهم، أو من حاجتك إلى خدمات لا يمكن لجهازك القديم تقديمها لك؟

فالتقشف يدور حول شراء أقل، والشراء بشكل أفضل، والوقوف في وجه الاستهلاك الطائش، وحول ضرورة أن يصبح التسوق مهمة استراتيجية محسوبة بدقة، وليس مجرد هواية للتسلية وإرضاء الذات.

 

المصدر: مجلة البيت العربي

ارسال التعليق

Top