• ٥ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٣ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

حلم لم يتحقق

رمضان سلمي

حلم لم يتحقق

استيقظ قرص الشمس الذهبي المشع في إشراقة جديدة ليوم جديد، انطلقت نسائم الربيع الساحرة لتملأ أركان حديقتنا الصغيرة أمام منزلنا الصغير، بدأت الطيور باستقبال الصباح بأجمل التغريدات التي أعجبتني ولطالما بهرتني.. استيقظ إثر وقع الحدث الجميل، فتحت الشرفة وأزحت الستائر لاستقبل أروع منظر للحقول والمزارع الخضراء الساحرة في بلدتي الصغيرة "سبحان الله".

فهناك عشق بيني وبين اللون الأخضر الذي يريح عيني ونفسي، وينقيني من شوائب الإرهاق واليأس والملل. فأثناء دراستي وكلما مللت من المدينة الصاخبة المزدحمة الجافية التي دائماً تفتقر إلى الدفء والحنو، فأسارع بأخذ العطلة والانتقال لقريتي الصغيرة الهادئة الخضراء، والتي ريثما أطأ ترابها بقدميّ فأمنح كلّ ما افتقدته بالمدينة الجافية.. تناولت إفطاري، سألت أمي: أين أبي؟ فأجابتني إنّه قد ذهب إلى السوق لشراء حاجيات المنزل.

جلست احتسي الشاي في حديقة المنزل الصغيرة، بدأت استرجع ذكرياتي المنقضية ها هنا.. تذكرت الأيام الخوالي وتلك الفتاة الصغيرة، ابنة أحد جيراننا في القرية، كانت في غاية الجمال، وتملك عينين عسليتين، كانت شديدة "الخجل"، وقد كانت تصغرني بأعوام عدة.

كنت إذا ذهبت إلى حقلنا البعيد عن البيت بعض الأميال، أراها في طريقي، إنّها الصغيرة الساحرة، وهذا "الحقل" لهم وهي تعمل فيه ومعها أخوها الذي يصغرها في العمر.

لاحظت أنّها تختلس النظرات إليّ، فبادلتها الاختلاص في خجل، ولكنها سرعان ما أدارت وجهها ونطقت ملامحها الخجل، وقد مزج بكبرياء وتذمر.. ابتسمت وتعجبت.. لماذا تنظرني تلك الصغيرة الجذابة، ولمَ الخجل والكبرياء؟ بعد أن ابتعدت عنها وتقدمت في طريقي أحسست بأنّها تنظرني ثانية، فباغتها بنظرة إلى الخلف، فاكتشفت أنّها حقاً كانت تتابعني بعينيها، وسرعان ما عادت لتذمرها وخجلها.

وذات مرة كانت عائداً من السوق، وعندما ركبت السيارة فوجئت بالصغيرة ذاتها في السيارة أيضاً، فجلست وكانت أمامي، وبجوارها فتاة يافعة، ابتسمت لي ونطق وجهها السعادة، وبدأت تداعبني بعينيها الجميلتين، نظراتها المليئة بالاهتمام والشغف جعلتني ارتجف وأشعر بالخجل، فأنا أخجل إذا نظرت لي إحداهن. ثم استثارت نظراتها نبضات قلبي، فبدأت تزداد. اختلست نظرة لتلك الفتاة اليافعة، أحسست بأنّ صغيرتي بدأت تغار، وانتهت فوراً من مداعبة العيون، وبدأت في جلدي بأقوى النظرات الحادة تارة لي وتارة للفتاة اليافعة، وسط استغراب بعض من في السيارة ممن لاحظوا حديث العيون البادئ تواً. كان هذا عقابي جزاء اختلاسي نظرة لفتاة غيرها. بعد عودتي للبيت، ساعتها، تساءلت كثيراً:

هل وقعت الصغيرة في حبي؟ أم يخيل إليّ ذلك؟ ولكنها صغيرة، لا تعرف معنى "الحب"، إذن لماذا النظرات ولماذا الغيرة؟ وبدأت أشعر بدقات قلبي تتسارع دقة تلو الأخرى، شعرت لوهلة بأنّ هنالك إنسانة تهتم لأمري. تخيلت ماذا لو كبرت وصارت "عروس" ولا زالت تحتفظ بأحاسيسها تجاهي؟ هل وقتها سأبادلها المشاعر نفسها، وربما تزوجنا، نعم. فالفتيات هنا تكبر بسرعة وتتزوج أسرع. غريبة، ماذا حدث لي؟ أنا لست جاهزاً للزواج الآن فما زلت أدرس.. أوووه.

وبدأ عقلي وقلبي يسبحان إلى المستقبل وينسجان قصصاً للحب، بطلاها، أنا وصغيرتي التي كبرت في خيالي فقط. فأزحت ستائر الحاضر، وفتحت شرفتي على المستقبل، ونظرت إليه، فرأيتها محبوبتي، ورأيت يدي لا تعرف إلّا يديها، ورأيت الفرحة في عينيها، رأيتها كسفينة أرهقتها أمواج الحياة وبأحضاني رست وأنا مرساها، رأيت شقائي قد تبدل وروداً ونثرت ورودي أمامي أنا وإياها، رأيتها ترتدي فستانها الأبيض وبين يديّ أقبل محياها، يا محلاها صغيرتي لما كبرت وعشقت وصار الحب لي دنيا ودنياها، لن أعشق سوى هاتين العينين ولن أنساها، فلولاها ما ذقت الهوي لولاها.. وفجأة، وجدت نفسي شاعراً أنشد للغرام أناشيدي، فعدت لحاضري، ومرت الأيام والسنون، كان طيفها يزورني من المستقبل البعيد، فيمكث معي للحظات كانت أجمل اللحظات في حياتي.. كانت زياراتي لبلدتي قليلة جداً وسريعة، ولم أعد أرى "الساحرة الصغيرة"، حاولت أن أسأل عنها لأطمئن أنها بخير.. ولكن حدث لي ما لا تحمد عقباه.

عدت في عطلتي أواخر الشتاء الماضي، اقتربت من "بيتنا"، فمرت على سمعي دقات طبول لا تنقطع، وزغاريد تنطلق بين الفينة والأخرى، وغناء فتيات تتخلله ضحكاتهن التي تنقشع بها وحشة الليل، وتصفيق حار ملائم لما سبق. توقفت لأنصت ولم أدخل المنزل بعد، عدت أدراجي إلى الشارع، بدأت أذهب باتجاه الصوت، انقبض قلبي، اقتربت أكثر، شعرت بخوف. ما هذا لا أصدق إنّ "الحفل" في بيت "الفتاة الصغيرة"، أحسست بأنّ هناك حلماً من أحلامي يصارع الموت، ولكن مازال هناك أمل..

وقفت قبل أن أصل إلى بيتها، استوقفتني إحدى السيدات في القرية وسلمت عليّ، وقالت لي: لقد تمت خطبة "فلانة بنت فلان" والعاقبة لك، نريد أن نفرح بك يا بني؟

صدمت وأصبحت أشعر بأني أغادر الوعي إلى اللاوعي، ثم استجمعت قواي وأجبتها: إن شاء الله.. عدت لمنزلي، وقفت أمام شرفتي، أزحت ستائر الماضي والحاضر، حتى أنظر مستقبلي، فلم أرَ شيئاً سوى الظلام الحالك.

أدمعت عيناي، وأدركت حينها أنّ الأحلام لا تتحقق بالتمني والتخيل والانتظار، ولابدّ للمرء أن يعيش الواقع يكافح ويكد حتى يحقق مبتغاه، وإن لم يفعل فسيظل رهين تخيلات مستقبل لن يأتي أبداً.

 

الكاتب من مصر

ارسال التعليق

Top