◄قال الإمام عليّ (ع): أتزعم أنك جُرمٌ صغير *** وفيك انطوى العالم الأكبر؟
إنّ الشخص الذي يحقق ذاته يملك خبرات تفوق ما عند الآخرين، وهذه ناتجة عن مشاعر التواجد الدائم والشعور بالقوَّة والقيمة، والوعي بأنّ الكون كله انطوى في وجوده، وطوَّع الله له كلّ قدرات الحياة، فمن الشخص الذي يملك خبرات القمّة؟
حقّاً ذلك هو الشخص الذي يستفيد من كلّ لحظة تمر عليه في حياته، ومن كلّ موقف يُصادفه من أيِّ شخص كان، ومن كلّ مجال عمل يدخل فيه، وهكذا يكون لديه كمٌّ تراكمي من الخبرات، وذلك من خلال الأحداث التي تضم جهداً وسعياً ناجحاً، لا سيما تجاوز بعض المواقف الصعبة، فتصل بالإنسان إلى خبرات القمة من خلال التجارب، فتكون حياتهم غنية ودافعة للنحو والتطوير.
أما في مجال العلاقات العامة مثلاً: عندما يجلس في مكان عام يُحاول – قدر المستطاع – ألّا يتكلم كثيراً بدون حاجة بل يسْمع، وهذا يولِّد لديه خبرات، ولكن أيَّ نوع من هذه الخبرات التي اكتسبها من هذه الجلسة البسيطة؟.
وحتى تدرك هذه الفرصة الثمينة سوف أقدِّم بعضاً منها:
1- "خبرات فن التعامل"، فعندما تلاحظ هذا وذاك وهم يتعاملون فيما بينهم، تتعلم منهم الأسلوب الصحيح، إلى أن يصبح لديك كمٌّ تراكمي للكلمات والعبارات وفنُّ إدراكها.
2- كما أنّك تكتسب من الصمت والملاحظة "فن الانتقائية".
3- عندما يكون هناك شخصيتان تلاحظهما وأنت في حالة هدوء وتأمل، حيث الأوّل يقول للآخر كلمات جميلة وعبارات مرتبة، وكذلك ملاحظة ملامح الآخر المتغيِّرة، كملامح الوجه ونظرة العينين وكيفيّة انسجامها وتناغمها وتأثّرها واكتسابها تلك لجلسة المليئة بالمشاعر الحميمة، وهذا يعني أنّ هذه الجلسة البسيطة قد أضافت لك خبرة في كيفية "فن التواصل مع الآخر".
فعند تعاملنا مع الآخرين بهذه الكيفيّة، من استعمال العبارات الجميلة والأسلوب الهادئ اللبق يتولّد لدينا فنُّ التواصل مع الآخرين، وتُبنى لدينا جسور مودة مع الآخرين.
كذلك عند مُلاحظتنا للشخصيات المختلفة غير المتوافقة وردود أفعال كلّ منها فإننا نلاحظ ملامح بها نوع من الحدَّة والغضب، ونركِّز على ملامح الآخر، كذلك من خلال لغة الجسد أحياناً ومن ردود الفعل حيناً آخر، كلُّ ذلك يُكسبنا كمّاً تراكميّاً في كيفية بناء حوار مودَّة وصلة مع الآخر، ويكون لدينا خبرة في أهمية الكلمة ودورها الفعّال والمؤثر، فنحاول أن نتْقن هذه المهارات.
بطبيعة الحال، إنّنا لو جلسنا في مجلس والكُلُّ يتحدَّث في وقت واحد فلن يستفيد الجميع من هذه الجلسة، فكلما كنّا في حالة من الإنصات والتركيز على السمع أكثر من الكلام عمَّت لنا الفائدة، فلنركِّز دائماً على بناء خبرات من هذا المجال.
لا شكّ أيضاً في المجالات العملية، سواءً كانت المهنية أو الاجتماعية أو الثقافية، نحاول دائماً أن نسعى إلى اكتساب مهارات وفنون التعاطي مع الأمور وكيفية إدارة المشكلات، نحرص على الاستفادة من خبرات وتجارب الآخرين، وبذلك نصل إلى (البناء الذاتي).
فعندما يحدث موقف بينك وبين شخص آخر، فلا تدع ذلك الموقف يمر مرور الكرام، بل حاول أن تستفيد منه، فمثلاً حينما تجلس مع شخص وتتحدّث له عن أحد أصدقائك، وفي اليوم التالي يأتي هذا الصديق ويحاسبك على ما قلته عنه، فهُنا لابدّ أن تقف وقفة مع ذاتك، وتصل إلى نتيجة بألّا تتحدَّث إلى أيِّ شخص عن خصوصياتك إلّا بعد اختبار وتمحيص، فإذا لم تتعلم من هذه التجربة فلن تكوِّن خبرات، ولن تبني علاقات سليمة.
فحاول أن تستفيد من الخبرات في بناء العلاقات، وأن تكتسبها من الصديق أو الزوج أو الأب أو الأخ أو الابن أو أيِّ فرد من أفراد مجتمعك، وهنا نسأل: ما هي الأساليب التي من خلالها نستطيع التواصل وإدامة العلاقات مع ما يحصل بيننا من مشاكل ومن اختلاف في الآراء مع الآخرين؟.
بعضُ الناس لديهم قناعة بأنّ الشخص الذي يختلف معهم في الرأي من الصعب التواصل معه، إلا أن ذلك أمر خاطئ، فكل شخص يختلف معك في الآراء والأفكار أنت تتطور بواسطته وتبني خبرة من خلاله؛ لأنّه يضيف إلى أفكارك أفكاراً جديدة، بينما الشخص المتوافق معك في الأفكار لا يأتي لك بالجديد، وإنما العائد عليكما هو بناء علاقة حميمة.
كُلما رأيت شخصاً مخالفاً لك في الأفكار حاول التقرب منه، سواءً كانت فكرته صحيحة أو خاطئة؛ لأنّ الفكرة الخاطئة تُوحي لك بفكرة صحيحة، وتفتح لك آفاقاً جديدة، فكيف يكون ذلك؟.
مثلاً: أمٌّ تبلغ من العُمر أربعين عاماً، وابنها عُمره عشرين سنة، فهذا الفارق الزمني بينهما يولِّد اختلافاً في الآراء، ولكن باستطاعة الأمِّ الاستفادة من ذلك الاختلاف، فالسَّهر مثلاً خارج المنزل لساعات طويلة سلوك خاطئ، إلا أنّ الابن يتعوَّد على هذا السلوك، وعندما تناقشه الأم يُجيبها بأنّه ليس الوحيد هكذا، فعشرات الشباب يمضمون وقتهم لساعات متأخرة من الليل خارج المنزل (على شاطئ البحر أو في المقاهي)، فمعنى ذلك أنّه لم يخطئ في نظره.
هذا الاختلاف يُوحي للأُمّ بأفكار جديدة، ولا يُحدث بين الأُمِّ والابن تصادماً، بل يدفعها إلى أن تُجدِّد وسائل وأساليب الإقناع وتقريب الأفكار، فتسمح له بجزء من التأخير، وذلك من أجل إشباع رغباته، والتوافق مع أقرانه، وفي الوقت ذاته كي تطمئن عليه في أنّه سيرجع في الوقت المحدد، ولكن يجب على الأُم ألّا تضع رأسها على الوسادة إلا وأبناؤها في البيت.
هذا الاختلاف قد استفادت منه الأُم في تعاملها مع بقية أبنائها، وحتى مع أحفادها في المستقبل، بل مع أيِّ فرد من أفراد المجتمع.
فعلى الوالدين أن يحاولوا مخاطبة الجوانب الوجدانية والإنسانية وجوانب الخير في نفوس أبنائهم، واستثارتها وتحريكها وتفعليها في نمط حياتهم كسلوك وتعامل، فأبناؤنا يحملون في كوامن نفوسهم بذور الخير، فهم فقط يحتاجون لمن يرويها ويغذِّيها بالمحبة والتقدير والفهم والاحتواء، بإعطائهم القيمة والمكانة من خلال الإفصاح عن مشاعرنا وحبِّنا لهم، وشدة حرصنا على سلامتهم وحمايتهم من كلّ سوء ومكروه، وكذلك من خلال الحوار الهادئ معهم مما يولِّد الثقة والانسجام والتوافق بيننا وبينهم.
وفي نهاية المطاف، إنّ التفاعل والتماس المباشر بين المربين وبين الأبناء ومشاركتهم مع المحيط الاجتماعي في كلِّ أبعاده يكون لها الأثر البالغ من خلال التأثر والتأثير، ومما يولِّد أيضاً خبرات القمة التراكمية في حياة الإنسان، وكذلك في حياة الذين يريدون أن يحققوا ذواتهم.
ولحسن الحظ، فإن كل الناس يملكون فرصاً كثيرة للوصول إلى هذه الخبرات، كما يقول الإمام عليّ (ع): "من حفظ التجارب أصابت أفعاله"، فإذا أحسنوا الاستفادة من هذه الخبرات واستثمارها في حياتهم بشكل إيجابي سوف يوفِّر لهم حياة أفضل بإذن الله، ويروا الأثر لا سيما إذا كان سعيهم لخير الدنيا والآخرة، وهو أعلى غايات الأهداف من كلّ حركة أو سكنة أو سعي في حياتهم، وكما قال الله تعالى: (وَأَنْ لَيْسَ لِلإنْسَانِ إِلا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى) (النجم/ 39-40).►
المصدر: كتاب تعلم فن التواصل وإدارة الضغوط
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق