أسرة
غاية ما تصبو إليه الصحة النفسية هي أن تحقِّق للإنسان السلام الداخلي الذي يتغلّب على حالات الصراع النفسية، وذلك في إنجاز حالة من الإنسجام والتوافق وتغيير النظرة إلى الأشياء والأشخاص والحوادث، فكيف السبيل إلى ذلك؟
هناك جواب عام عن هذا السؤال مفاده أو ملخّصه: أنّ الصحة النفسية هي منطقة وسطى بين (الشكر) وبين (الصبر)، فأنتَ في حياتك أمام إحدى حالتين، أمّا أن تعيش الألم والمكابدة والمعاناة، ودواء ذلك (الصبر)، الذي لا يعني أن تقف مكتوفَ الأيدي إزاء المشاكل والمحن والأزمات، وإنّما تتحلّى بالصبر على معالجتها والخروج منها بأقلِّ الخسائر والإستفادة من دروسها وتجاربها. وإمّا أن تعيش النعمة واليسر والرخاء، ودوام ذلك بالشكر، والشكر هنا ليس مجرّد كلمة (الحمد لله أو الشكر لله)، بل كل ما يمكن أن يجعل النعمة التي أنتَ فيها متحرِّكة في الإنعام بها على غيرك وإسعادهم، وإشعارهم بسعة الخير الذي أنتَ فيه، وتعمل على أن يكونوا شركاءك فيه.
وجواب خاص تحدّثت عنه بعض الدراسات النفسية العلاجية، خاصة تلك التي تناولت (التطوير الذاتي للشخصية)، وكيف تتغلّب على عيوبها في الغيرة والخجل والخوف والتشاؤم والنفور والتسلط والوسوسة والأنانيّة والشعور بالنقص، وعشق الذات، والكراهية والعصبية والشك والكآبة والقلق والملل والتردد والإنطواء والإحباط.
ونحبّ قبل الدخول في الخطوات أو الوصايا، التي تنتج سلاماً داخلياً، أن نؤكِّد على أنّ ما يسمّى بـ(مشكلات العصر) أو (أمراض العصر) ليس خاصّاً بهذا العصر، بل بكلِّ عصر ابتعد فيه الإنسان عن (المصدر)، فحتى في زمن النبي (ص)، مَهّدَ حيث كانت الأرضُ بكراً، وتعاليم السماء تأتي تباعاً ويعيشها الناس واقعاً وعياناً، كانت هناك طائفة من المنافقين والمشكِّكين وأصحاب الأمراض النفسية التي رفضت كل الأدوية، التي اجتمعت في صيدليّة الإسلام، والتي شفيت بها نفوس كثيرة، مفضِّلةً مرضها على الشفاء على يدي الدِّين الجديد: (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا) (البقرة/ 10).
بل حتى ونحن في عصر التوتر والإحباط والكآبة والقلق، تجد هناك أناساً يعيشون الطمأنينة النفسية والسلام الداخلي، لأنّهم تشرّبوا الخير فصار سجيّة لهم، وانطبعت نفوسُهُم المتعالية بالرغم من ضحالة الواقع على الإستقامة، فصارت منهجاً لهم، فهم في الناس ومع الناس، ولكنّهم ليسوا من سنخهم في التردِّي والإنكفاء والإنسياق مع التيار، ولا مع الصائحين النائحينَ على أطلال الماضي القائلين: سلاماً على تلك الأيام التي كان الإنسان فيها إنساناً!
نعم قد يسودُ الصلاح فيغلب على أهله في مقطع زمني، وقد يسودُ الفسادُ فيهيمنُ على أهله في مقطع لاحق، ولكنّك لا تعدم في المقطعين من أن تجد فاسدين في زمن الصلاح، ومصلحين في زمن الفساد، ولذلك كانت واحدة من علاجات الإسلام الكبرى أن يعلِّم أتباعه أن لا يكونوا إمعة، إن أحسن الناس أحسنوا، وإن أساء الناس أساءوا، وإنما يوطِّنوا أنفسهم إن أساءُ الناسُ أن يحسنوا.
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) (المائدة/ 105).
ولقد أساءَ بعضُ الناس فهم الآية في أنّها تعطيل للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، في حين أنّها تنهى عن الإستسلام للحالة اليائسة التي يبرِّر الإنسان فيها لنفسه ارتكاب المعاصي على أنّها حالة عامة شائعة، وكأنّه يتساءل: الكلّ يفعل ذلك، فهل أنا الصالح الوحيد فيهم؟ أو كلٌّ تخلّى عن مسؤوليته، فِلمَ أكون المسؤول الوحيد، وهكذا.
سبقَ أن ضربنا مثلاً بالشمعة التي تشقُّ ظلامَ غرفة، وقلنا إنّها تبدو في البداية شيئاً ضئيلاً إزاء كَمُّ الظلام المتراكم، ولكنّها مع بقائها مشتعلة، سوف تحيل جوَّ الغرفة من مستوى الطاقة المنخفضة إلى مستوى الطاقة المرتفعة، حتى لتبدو الغرفة مُشعة بذلك النور.. أو البصيص: (استحضر في ذاكرتك أو من خلال قراءتك عن سير الأنبياء والمصلحين، القادة العظماء في التأريخ، كيف بدأت حركاتهم في المحيط الدامس الظلام، وكيف أشعلوا (الشّمعة) المتواضعة التي أصبحت فيما بعد (مشتعلاً) تتلاقفه الأيدي المناصرة وصولاً إلى خطّ النهاية)!
إنّ ما يتّفق عليه علم النفس الإكلينيكي أو العلاجي مع مفاهيمنا الدينية أنّ افتقاد الإيمان في قوّة الروح على الشفاء سوف يلعب دوراً معوّقاً في عملية الشفاء، نفسك، وعلى العكس من ذلك، فإنّ العودة إلى المصدر تعني رفض العيش في ظلِّ الطاقة المنخفضة، لأنّك حينذاك تحملُ زخماً للحركة عالياً جدّاً يصل بك إلى أرقى الأهداف وأسماها أي أنّ جذوة الحماس في داخلك وأنت تتحرك باتِّجاهه لن تنطفىء أبداً، بخلاف ما لو تحرّكت باتِّجاه الأهداف الضيِّقة المحدودة التي تبرد فيها الجذوة وتخمد حال الوصول إليها.
إنّ واحداً من أهم الثمار التي تجنيها وأنت ترتبط بمصدر الطاقة المرتفعة، هو أنّك تقوِّي جهاز المناعة في داخلك، وتزيد من إفرازات أنزيمات الصحة النفسية في جهازك العصبي.
يقول أحد أطباء الصحة النفسية مشخصاً العلّة الكُبرى فيما نعاني: "لقد أصبح المرض عنصراً وجزءاً لا يتجزّأ من حياتنا عندما انفصلنا عن (الصحة المثالية)، التي قدّر لنا أن نتمتّع بها منذُ لحظة ميلادنا". ويعني بالصحة المثالية، هي ارتباطنا بالمطلق أو المصدر وهو الله تبارك وتعالى.
وقد تبدو وصفة من قبيل: إستعدِ الثِّقة بالله وزِد من حسن ظنّك به، وسوف تشفى من الكثير من اضطرابك وقلقك النفسي، مضحكة أو مستهلكة أو نافدة المفعول، لأنّها – بحسب تعبير البعض الذي لم يعرف قيمة ذلك حقاً – ربما كانت تنفع غيرنا، أمّا نحن فبحاجة إلى عقار عصري آخر.
إنّ هؤلاء ينسون أنّ الشفاء من التطرّف، كان باستعادة التوازن الذي ركّز عليه الطبيب النفساني الإسلامي، وأنّ الشفاه من أمراض الضعف والتردد والعجز والإنسحاق، كان باستعادة الإرتباط مع مَن بيده الأمر كله، وإنّ الشفاء من الحقد والحسد والبغضاء والغيرة، كان باسترجاع حالة الحب للآخرين الذي طالما ردّد أطبّاءُ الصحة النفسية في العيادة الإسلامية نصائح الأخذ به.
إنّنا على يقينٍ من أنّ كل العقاقير المهدِّئة، ومضادّات الكآبة في الصيدليات، لن تفعل فعل (الإرتباط بالمصدر) في تجلِّيات الحبّ والمعرفة والثقة والإطمئنان والعافية، كما أنّنا على ثقةٍ من أنّ المرض النفسي لا يعالَجُ بدواءٍ مادّي، بل علاجه بشيء معنويّ، نفسي أو روحي، إنّه ليس رمداً في العين وزكاماً في الأنف وإسهالاً في المعدة أو تسمّماً من أكلةٍ معيّنةٍ حتّى يعالج بالحقن والحبوب والدهون، ويندر أن تجد عقاراً لعلاج مرضٍ نفسيٍّ خالٍ من المضاعفات أو الآثار الجانبية.
إنّ القلوب المضطربة، والنفوس القلقة، والأعصاب المشدودة، إن ذكرت الله تعالى ذكراً يُشعرها أنّه سيِّد الكون، الذي كما زوّدها بالنعم المادية، موّلها كذلك بالنِّعم المعنوية، فلا يقول قائل إنّ وصفته تعالى: (أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرعد/ 28)، كانت قبل أن يكتشف الطب العقاير والأدوية والمهدِّئات والمسكِّنات والمنشِّطات، بل هي صالحة للإستعمال في كلّ وقتٍ، فكم من مريض عَجَزَ الأطبّاءُ عن علاجه، فلم يجد سوى الإلتجاء إلى المصدر الشافي، باعتباره – كما سبقت الإشارة – طبيب الأطباء، فيشفى ممّا أدهش الأطباء أنفسهم الذين كانوا يظنُّون أنّ ساعات المريض المتماثل للشفاء معدودةٌ!
لنعد إلى السؤال الذي تصدّر هذا الموضوع، وهو: كيف أعيشُ حياةً هادئةً خاليةً من الضغوطِ؟ كيف أصل إلى السلام الداخليّ؟
1- توقّف عن الإحساس الدائم بالإستياء:
كيف يتسنّى لي هذا؟ وهل هذا ممكن فعلاً؟
أوّلاً: راجع ما ذكرناه في حديثنا عن الرضا بقضاء الله وإذا لم يكن ذلك كافياً تدبّر في المعاني النبيلة التي تنطوي عليها القصة الحقيقية التالية:
أوحى الله تعالى إلى نبيه داود (ع): أنّ (خَلادة بنت أوس) بشّرها بالجنة، وأعلمها أنّها قرينتُكَ في الجنة! فانطلق (ع) إليها فقرع الباب عليها، فخرجت، وقالت: هل نزل فيِّ شيءٌ؟ قال: نعم. قالت: وما هو؟ قال: إنّ الله تعالى أوحى إليَّ وأخبرني أنّكِ قرينتي في الجنة، وأن أُبشِّرك بالجنّة. قالت: أوَ يكون اسمٌ وافق إسمي؟! (أي ربّما تكون أخطأتَ في العنوان)، قال: إنّك لأنتِ هي! قالت: يا نبي الله ما أكذِّبك، ولا والله ما أعرف من نفسي ما وصفتني به!
قال داود (ع): "أخبريني عن ضميرك وسريرتك ما هو؟ قالت: أمّا هذه فسأخبركَ به: أُخبرك أنّه لم يصيبني وجع قط نزل بي كائناً ما كان، ولا نزل بي ضُرٌّ، وحاجةٌ، وجوعٌ كائناً ما كان إلا صَبَرْتُ عليه، ولم أسأل الله كشفه عنيِّ حتى يحوِّله الله عني إلى العافية والسعة، ولم أطلب بدلاً، وشكرتُ الله عليها وحمدته. فقال داود (ع): فبهذا بلغتِ ما بلغْتِ"!!
قال الراوي للقصّة وهو الإمام الصادق (ع): "وهذا دينُ الله الذي ارتضاهُ للصالحين"(1).
إنّ المستائينَ يُسمِّمون حاضرهم إمّا (بالبُكاء) على الماضي أو (القلق) من المستقبل، فلا الماضي يعود ولا المستقبل معلوم، ولا الإستياء والشكوى والتذمّر بقادرين على حل المشكلة.
ولو قارن المستائون من واقعهم أو معيشتهم أو ظروفهم بمَن هم دونهم لكانوا استراحوا، بل لو قارنوا ما عند الغير بما هو عندهم لاستشعروا الراحة أيضاً.
فقد يكون الآخر صاحبُ قدرةٍ عقليّةٍ ممتازة.. ولكنّك أنت صاحبُ قدرةٍ عاطفيةٍ ممتازة.
قد يكون قوياً بسلطته وموقعه وثروته.. لكنّك أنت قوي بأخلاقك وإيمانك ومواهبك التي قد لا يمتلكها.
قد يكون صاحبُ علاقات مع عِليَةِ القوم ووجهاء الناس.. لكنّك أنت صاحبُ علاقاتٍ طيِّبة مع عامة الناس ومع بُسطائهم وفُقرائهم... إلخ.
إنّ هذه المسكِّنات أو مخفِّفات الإحتقان ليست حقناً تحذيريّة، بل هي ملطِّفات لأنواع النّسائم التي تبعثها المروحة في الجو الساخن.. إنما تُحرِّك الهواء الثقيل، وتمتص حالة الإختناق، وترفع الشد العصبي والتوتر، هي عقاقيرٌ معنوية ليس لها أيّة مضاعفات جانبية، بل إنّ تأثيرها ومفعولها قويّانِ نافِذان إن أحسنَ إستخدامها ضمن تعليمات وتوصيات الطبيب المختصّ.
لقد قارنَ أحدُ الفقراء نفسه بأحدِ الأثرياء قائلاً: إنّه يمتلك قصراً منيفاً فيه العديد من الغرف والصالات، ولكنّه في هذه اللحظة لا يستطيع أن يتواجد في القصر كله، أو أن يتمدّد في الغرف والصالات كلها، وأنّا في حجرتي الضيِّقة هذه أشغل منها ما يشغله من أيِّ مكانٍ يكون فيه بقصره!
إنّه يمتلك أموالاً طائلةً وأرصدةً ضخمةً، لكنّه يستهلكُ منها مقدار حاجته والباقي يدّخره، أنا ليس لدي ما أدّخره، لكنني أمتلك ما أقضي به حوائجي.
إنّه حينما يريد النوم ليلاً لا يتمدّد على أسرّةِ القصر كلها، بل على سريرٍ يلقي عليه جسده، أنا ليس لديَّ سرير، لكنني أجدُ مكاناً أنامُ فيه كما ينامُ هو، وربّما أرى أحلاماً سعيدةً قد لا يراها!!
إنّه يمتلك أكثر من سيارة في مرآبهٍ، ولكنه إذا خرج لعمله أو للنزهة لا يقود إلا سيارة واحدة، وأنا لا أملك إلا دراجتي تقودني إلى حيث أُريد.
قد تبدو هذه المقارنة لمن لا يجد لها وجهاً سخيفة ومثيرة للضحك، فأين الثريُّ المنعّم وأين الفقير المُعدم؟! وأين البساط الحقيرُ من السرير الوثير؟! وأين الأموال الطائلة من الدراهم المعدودة؟! وأين الأُبهةُ الفارهة الباذخة من حياة الشغف والكفاف؟! وأين السيارةُ من الدراجة؟!
نعم، هذا بعينيك أنتَ لا بعيني صاحبُنا، الذي أجرى المقارنة واستراحت لها نفسه، ولو كانت حساباته كما هي حساباتك لما عاش قرير العين هانئ البال موفور الصحة النفسية!
ولكي توقف هذا الإحساس الدائم بالإستياء والشكوى، تذكّر أن دوامَ الحالِ من المُحال، وأنّ الله تعالى يقول: (وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) (آل عمران/ 140)، وأنّ الدهر يومان يومٌ لك ويومٌ عليك، فإذا كان عليك فاصبر، وأنّ ما أنتَ فيه ليس قدراً إذا كنتَ جادّاً في التغيير والطموح والسعي نحو الأفضل.
من أساليب بعض الناس العملية أنّهم يضعون الصغيرة في إطارها فلا يُكبِّرونها بانفعالاتهم، فتراهم يُردِّدون كلمات من قبيل: (بسيطة)، (هيِّنة)، (عابرة).. وقد لا تكون صغيرة فعلاً، ولكنهم بهذه الطريقة لا يتركون للمشكلة أن تكون ضاغطاً نفسياً يشلِّ حركتهم، ولا هم بذلك يخدعون أنفسهم بتصغير الكبائر والعظائم من الأمور، ولكنّهم يوحون إلى أنفسهم بأنّهم قادرون على حلِّها، أي أنّها هيِّنة على الحلِّ.
وانتبه، فقد يكون الإستياء شكوى من الله تعالى والله يُشتكى إليه ولا يُشتكى منه: (في سيرة المصطفى (ص) أنّه كان يشكرُ الله على النعمة، وفي حال البلاء يقول: الحمد لله على كلِّ حالٍ)، وهذه إحدى طرق علاج الإستياء أيضاً.
2- تخلّص من الرغبة في الفوز!
هذا طلبٌ مثيرٌ للغرابة، فهو يعني أن نوقف جميع المباريات التي تجري في كل الملاعب والنوادي، وأنّ على موسوعة (غينيس) للأرقام القياسية أن تعتبر طبعتها الأخيرة هي الأخيرة فعلاً، فليس هناك تحطيم للأرقام القياسية بعد اليوم، وأنّ تلامذة المعاهد والجامعات لا يبذلون جهوداً ممتازة ليتفوّقوا على بعضهم.. هكذا تترهّل همم أصحاب الشركات والمؤسسات والمصانع فيغرقون في التثاؤب.
مَن فهم من نصيحة الناصحين هذا المعنى لم يصبِ الهدف، فإنّ الرغبة في الفوز والغلبة والتفوّق تكاد تكون نزعة إنسانية.
أمّا ما نفهمه نحن على ضوء الصحة النفسية، فإنّ الرغبة في الفوز قد تصل في كثيرٍ من الأحيان إلى تحطيم الخصم، ومسح الأرض به، كما يُجندل الملاكم أو المصارع غريمه، وقد تصل إلى أتباع الطرق غير المشروعة لنيل قصب السبق، وقد تجعل الداخلين في سباق محموم يعيشون الحقد والحسد والتباغض، وكل ذلك ليس من الصحة النفسية في شيء، إنّه حرقٌ للأعصاب ونسفٌ للراحة والإستقرار.
إنّ القرآن الكريم حينما يدعو إلى التنافس في الخيرات أو إلى المسارعة فيها، وإلى السبق في ميدان الفضائل والقيم، يتيح الفرصة للجميع بالمنافسة التي لا يُسقط فيها مؤمنٌ مؤمناً، ولا عاملٌ عاملاً، ولا صالحٌ صالحاً، ولا مخلصٌ مخلصاً، لأنّ التنافس هنا ليس تنافساً مادياً صرفاً، ليس هو على كأس، أو على ربح مالي أوفر، إنّه فوز معنوي ينتظر الجائزة الكبرى عند الله تعالى، وجائزة الله الكبرى (جنّته) التي تسع كل الفائزين، وكأسه رضاه.
تصوّر مثلاً أنّ موسى (ع) فكّر بالطريقة التالية: لماذا أُشرِك أخي (هارون) معي في حمل شرف الرسالة، لماذا لا أكون الوحيد الذي يحمل هذا الشرف، هذه فرصتي في التفرّد بهذا الموقع فلماذا الشراكة التي تُضعف منه؟!
إنّه لم يفكِّر بهذه الطريقة، لأنّه لم يكن يفكِّر بالمهمّة الرسالية تفكيراً دنيوياً مادِّياً، ولم يفهمه على أنّه صراع إرادات ومواقع، ولذلك رأيناهُ يطلب شريكاً ولم يطلب (فتى) معاوناً، أو عنصراً تنفيذياً: (وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي) (طه/ 32)!
إنّني وأنا أفكِّر في طريقة التخفيف من غلواء الفوز على الآخرين بطريقة التنافس المحموم التي تُسقط كل القيم والإعتبارات وتخترق كل الممنوعات، وتصيبني بأمراض نفسية قاتلة، لابدّ لي أن أراجع ما يلي:
أ. فوزي الأوّل هو على نفسي، على نقاط ضعفي، على عيوبي، على ذنوبي، على تعلّقي بالدنيا.. فوزي بأن أرتقي بها لتأتي آمنةً يوم الفزع الأكبر، كما ارتقيتَ بها في الدنيا لتكونَ في خدمة الناس ونفع الناس، وما يرضي الله عنِّي.
ب. فوز الذين أحبُّهم فوزٌ لي أيضاً، فوز إخوتي، فوز أبنائي، فوز زوجتي، فوز صديقي.. فأنت حينما تفرح لفوز أي من هؤلاء وتعتبره كأنّه فوزٌ لكَ، تكون فعلاً ممّن يهتمّ بالمحافظة على صحّته النفسية، وعلى صحة الآخرين أيضاً.
ت. جميل أيضاً أن تستحضر روحية موسى (ع).. أن تشترك بالفوز مع آخر.. لقد كانت السيدة كوري تعمل وزوجها في مُختبر واحد لليورانيوم، ويقومان بالبحث معاً. وإذا أصدرا تقريراً علمياً عن نتائج أي بحث يوقِّعانه بالتوقيع التالي: هذا عملناه أو صنعناه معاً!!
ث. تذكّر أيضاً أنّ الخسارة تنطوي على ربح أيضاً، لأنّها تُعلِّمك درساً لا يُنسى، ولأنّها تجعلك أكثر مثابرة، فهي ليست نقيضة الفوز بمعنى أنّها بلا ربح، وأنّ الذي لا يتذوّق الخسارة لا يستمتع بمذاق الفوز.
3- تخلّص من الحاجة إلى أن تكون الأفضل:
مرّة أخرى، يجب أن لا نسيء فهم هذه التوصية، فأن تكون الأفضل بين زملائك وأقرانك مطلب مشروع إذا كان السعي إليه بطريق مشروع، بمعنى أن عليك أن تعمل بجدٍّ واجتهادٍ، والمكافآت تأتي تلقائيّاً، لا أن تكون الرغبة في التميّز سبباً في إزاحة الآخرين عن طريقك، حتى ولو على طريقة إزاحة قابيل لهابيل، أو اخوة يوسف ليوسف.
إنّ الكثير مما يسبب الحقد والغيرة والحسد والإنتقام والتسقيط وانعدام الثقة هو إشعارك الآخرين بالتعالي عليهم، وأنّهم دونكَ.. وإنّك الوحيد الذي تستحق فرصة الحياة، وأنّ (الملعب) أو (الميدان) لا يسعكما معاً!
لقد كان من حقّ النبي (ص) أن يكون مميّزاً عن سائر المسلمين حتى في مجلسه أو في احترام موقعه، لأنّه الأفضل بلا منازع، ولكنّه حينما كان يبدو كأحدهم في مجلسه، أو في تبضّعه من السوق وحمل حاجيّاته بنفسه، أو في المشاطرة بالركوب أو المشي عندما تكون الدابّة واحدة، أو عندما يختار أن يجمع الحطب فيها يوزِّع الآخرون أعمال الطبخ فيما بينهم، يقلّ ذلك كراهة أن يتميّز عليهم، وهو سيِّدهم ونبيِّهم وقائدهم.
إنّ مقولة: "سيِّد القوم خادِمُهُم"، لو روعيت حقٌ مراعاتها، لارتفعت نسبة المخلصين لقادتهم ودفاعهم عن مبادئهم، ولسادَ نوع من الحبّ والثقة بين القيادة وبين القاعدة لا يفصمه إلا الموت، ولاحترم الراعي رعيّته وبجّلت الرعيةُ راعيها.
إنّ الفضل أو الفضيلة حتى يكونا رصيداً للصحة النفسية، لأنّه لا يقترن بالتواضع، وهذا ما التفتَ إليه الأنبياء والأوصياء والعلماء والفضلاء، فسعدوا به وأسعدوا مَن حولهم.
4- إعترف بأنّك خطّاء:
أطباء الصحة النفسية يطرحون السؤال التالي:
ماذا تريد أن تكون (محقّاً) أم (سعيداً)؟
وهم إذ يريدون القول بأن جوابك بأنّك تريد أن تكون سعيداً هو الذي ينفعك في تحسين صحّتك النفسية ولا ينفون أنّ الحق سعادة بذاته، ولكن لأنّنا قد نختلف في إيجاد تعريف واضح محدد مُجمع عليه للحقِّ – إن كان الحقُّ واحداً لا يتعدّد – فقد ندخل في جدال وخصام يثير النّعرات أكثر ما يؤلِّف القلوب.
إنّ صاحب الحقّ أحياناً قد يسكت عن حقّه من أجل أن لا تتسبّب مطالبته بحقِّه في إراقة دماء أناس كثيرين، فهو إذا تزاحم الأمران قدّم الأقل ضرراً والذي به جور خاصّة.
ولا شك أنّ مراد الأطباء النفسانيِّين هو ليس هذا، وإنّما هو حينما يتحوّل الجدال فيمَن هو صاحب الحق ومن الحق عليه إلى صراع ديكة تسيل فيه الدماء وليس فيه رابح، هنا يكون الحل بالإعتراف بالخطأ، والإعتراف بالخطأ – كما يشهدُ العقلاءُ – فضيلة، فبدلاً من المماطلة واللّف والدوران وشدّ الأعصاب وحرقها وتضييع الوقت، ليجد أحدنا في نفسه الجرأة على الاعتراف بأنّه المخطئ، أسوةً بإمرأة العزيز: (الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ) (يوسف/ 51)، وباخوة يوسف: (وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ) (يوسف/ 91).
وإذا كانت العصمة خصلة لا تكون إلا للأنبياء والأوصياء فلِمَ التنازع عليها وهي ليست من حقِّ أحد، وباستثناء أصحاب العصمة ليس هناك من البشر مَن يقول أنّني كنتُ على صوابٍ أو حقٍّ دائماً.
قارن بين حالتيك: حالتك وأنتَ مُصِرٌّ على أنّك صاحب الحقِّ، وأنت لست كذلك، وبين حالتك وأنتَ تتخوّف بالإعتراف بأنّك كنتَ على خطأ.
البعض يرى أنّ الأولى أهون من الثانية، لأنّ في الثانية إراقة لماء الوجه، وحطّاً للكرامة، وسقوطاً في أعين الناس، وما يدري أنّ في الأولى قد تُراق دماء!!
قارن هذا بسقوطك في عين نفسك، وأنتَ تعرف الحقيقة.. وسقوطك في عين مَن زعمت أنّك تُحقّه، وسقوطك في عين الله الذي يعرف أنّك كاذب.. أيّهما أهونِ وأخفّ وطأة في نظرك؟
إنّ مشكلة المرضى النفسانيِّين، أنهم يوقعون أنفسهم في الشباك ويشتكون من الخروج سالمين، بعدما يكونون كدودة القفز قد شرنقوا أنفسهم بما صنعوه بأيدهم.
إنّك في الحالة الأولى قد تستريح مؤقّتاً، وفي الثانية قد تتألّم مؤقّتاً، ولكن – في حسابات الصحة النفسية، وهي حسابات إيمانيّة أيضاً – فانّك في الأولى تتعب طويلاً، وفي الثانية يعقب ألمك القصير راحة طويلة: "شتّان ما بين عملين: عمل تذهب لذّته وتبقى تبعته، وعمل تذهب مؤونته ويبقى أجره"(2).
5- تخلّص من تقييم ذاتك بناءً على ما حقّقته من إنجازات:
تفيد بعض الدراسات الخاصة بالتأهيل النفسي والإجتماعي، أنّك عندما تتعلّق بالإنجازات، وتصدِّق أنّك وحدك الذي حقّقتها، فسوف يزداد إحجامك عن الشعور بالإمتنان للمصدر، ما يشيعه ذلك في النفس من سلام وسكينة.
والحقيقة التي تنساها في ظلّ الزهو والإنتشاء بسكرة الإنجاز هي أنّ هذا الجسد الذي قام بكل هذه الإنجازات هو خلق الله وصناعته: (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النّجْدَيْنِ) (البلد/ 8-10).
في سورة (البلد) يذكر القرآن الكريم لنا مثلاً عن بعض المغرورين المعجبين بأنفسهم وبإنجازاتهم وأموالهم وشهاداتهم وأوسمتهم، التي أنفقوها في الخيرات، فيقول على لسانهم: (يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالا لُبَدًا) (البلد/ 6). جاء في التفاسير أنها نزلت في (الحرث بن عامر)، الذي أذنب ذنباً، فاستفتى النبي (ص)، فأمره أن يكفِّر. فقال: لقد ذهب مالي في الكفارات والنفقات منذ دخولي دين محمّد؟! أو كما كان (طلحة) يؤشِّر – في أثناء حديثه – بإصبعه المقطوعة، ليلفت انتباه الناس إلى أنّها قُطعت في إحدى حروب المسلمين ضد المشركين، أو كما كان بعض المسلمين يمنّون بإسلامهم على رسول الله (ص)، فجاء القرآن ليتقرّعهم (بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإيمَانِ) (الحجرات/ 17).
تأمّلْ في انجاز أي من إنجازاتك مهما كانت درجته، واطرح على نفسك الأسئلة التالية:
أ. مَن الذي أعطاني العقل لأفكِّر فيه بهذا الإنجاز؟
ب. مَن الذي منحني الإرادة الفاعلة المنفذِّة له؟
ت. مَن الذي وهبني الجوارح والآلات التي ساعدت في إخراجه؟
ث. من الذي وفّقني وهداني لأفضل السبل؟ مَن الذي هيّأ لي الظروف المواتية؟
ج. أما كان بالإمكان أن يُسلب ذلك مني في لحظة؟!
ح. مَن الذي ألقى عليَّ محبّة من الناس، ليتعاونوا معي، يقدِّروني ويحترموني؟
وأسئلة أخرى كثيرة جوابها واحد: هو المصدر... الله تبارك وتعالى، ولذلك جميلٌ بي ومفيدٌ لصحتي النفسية، أن أقول كما قال سليمان (ع)، وقد كان لديه أضعاف ما عندي بما لا يُقاس ولا يُقدّر: (هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ) (النمل/ 40).
إنني لا أجامل الله بقولي: (هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي)، بل أفصحُ عن شكر حقيقي، لأن وجودي كله من فضل ربي، فكيف لا تكون هذه الجزئية في هذا الإنجاز أو ذاك من فضله وهو ذو الفضل العظيم والمنِّ القديم؟!
إنّ في ثقافتنا الأدبية والتربوية أنك حتى ولو عملت عملاً جباراً، فتُقلِّل من شأنه لئلا يأخذ الإعجاب بما أنجزت مذهباً بعيداً، لترى كما رأى ذلك النحات الذي خاطب تمثالاً صنعه من الطين، فأبدع صنعته، فتصوّر للحظةٍ أنّه خالقه: انطقْ!! ولما بقي التِّمثال أخرساً صامتاً لا ينطق، راح يصرخ بوجهه، انطقْ.. انطقْ في هلوسة المتصوِّر أنّه أحسنَ خلقه فلم يبق إلا أن ينطق!
لقد وصف الإمام علي (ع) المتقين بقوله: "فهم لأنفسهم متّهمون، ومن أعمالهم مشفقون".
فعلى الرغم من أنهم متّقون ورعون يخافون الله ولا يفعلون إلا ما أمرهم، إلا أنهم مشفقون من أعمالهم وهم منها على وجل: هل تُقبل أم لا، فما يدري أحدنا وهو يتصور الإخلاص في عمله الذي قد تشوبه الشوائب وتعكِّره الرواسب.
ولذلك ورد في الحديث القدسي:
"لا يتّكل العاملون (المؤمنون) على أعمالهم التي يعملونها لثوابي، فانّهم لو اجتهدوا واتعبوا أنفسهم وأعمارهم في عبادتي، مقصِّرين غير بالغين في عبادتهم كنه عبادتي فيما يطلبون عندي من كرامتي، والنعيم في جناني، لكن برحمتي فليتّقوا"!!
خذها نصيحة من مُجرِّب: دَع أعمالك هي التي تتحدث عنك لا أنت الذي تتحدث عنها!
إلى هنا نكون قد عالجنا مشكلة (الأنا) والسيطرة عليها من خلال الخطوات المارّة الذكر، والتي تُجمع على كلمة واحدة وهي: لا تنظر إلى ذاتك على أنّها نقطة ارتكاز محوري، وإنّ غدّة (الأنا) السرطانية يمكن أن تخضع إلى عملية جراحية لاستئصالها تُسمّى (التواضع)، وبغيرها تتضخّم الغدّة السامة، حتى ليبدو صاحبها المنتفخ كبالون قابل للإنفجار عند أيّة وخزة، لأن من طبيعة البالونات المنتفخة أنها لا تتحمل الوخز، وأنها سريعة الإنفجار!
6- ارتقي إلى مستوى الطاقات الأكثر ارتفاعاً:
الإرتقاء إلى الطاقات الأكثر ارتفاعاً يتطلب مسعيين مختلفين:
مسعى للإحتكاك والتواصل مع الطاقات المرتفعة أساساً.
ومسعى للإبتعاد عن الطاقات المضعفة المثبِّطة المهبِّطة.
وكلا المسعيين يصبان في رفع مستوى شحن بطاريّتك، ففي المسعى الأولى تجد توصيات من قبيل (وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) (التوبة/ 119)، و(وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا) (النساء/ 69)، و(لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا) (الفرقان/ 27).. "إلتقِ بمن يُذكِّرك بالله"، "زاحم العلماء بركبتيكَ".. "أخوكَ دينكَ، فاحتط لدينك".. (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ) (الأنعام/ 90)، (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) (الأحزاب/ 21).. "مجاليس الصالحين داعية إلى الصلاح".. "جالس الحُلماء تزدد حلماً"... إلخ.
وفي المسعى المضاد أو المعاكس تجد التحذيرات التي من قبيل: "لا تصحبوا أهل البدع ولا تجالسوهم، فتصيروا عند الناس كواحدٍ منهم". "إياكم ومجالسة الموتى؟ قيل يا رسول الله من الموتى؟ قال: كلُّ غني أطغاه غناه".. "مَن جالس الجاهل فليستعد لقيل وقال".. (وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ) (العنكبوت/ 29).. (إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) (النساء/ 140).. "لا تجلسوا على مائدةٍ يُشرَبُ عليها الخمر، فإنّ العبد لا يدري متى يؤخَذ"... إلخ.
في الصِّنف الأوّل أو الطائفة الأولى من التوصيات هناك مجالات حيوية لرفع الطاقة وأطباء التأهيل النفسي، يؤكِّدون أن أحداً لن يستطيع النيل منك إو إحباطك إن كان مستوى طاقتك مرتفعاً، ويعتبرون أن مقابلة الإساءة بالإساءة (كما هو اعتبار الدِّين) مجال من مجالات الطاقة المنخفضة، فإذا تصرّف شخص معك بشكلٍ عدائي وتجاوبت معه بالمثل، فهذا يعني أنّك تُشاركه نفس مجال الطاقة المنخفضة، الأمر الذي يعني أن مقابلة الإساءة بالإحسان (وهو مبدأ أخلاقي) وارتفاعٌ بالطاقة، وبهذا يمكننا أن نُفسِّر على ضوء نظرية الطاقة المرتفعة والأخرى المنخفضة معنى الحديث الشريف: "اليدُ العُليا خيرٌ من اليد السُّفلى"، بأنّ اليد العُليا (المعطاءة) تُمثِّل الطاقة المرتفعة، واليد السُّفلى (المستعطية) تُمثِّل الطاقة المنخفضة، بل وكل الأحاديث الشريفة التي تستخدم صيغة التفضيل (أو أفعل التفضيل، الذي يؤشِّر دائماً باتجاه الطاقة المرتفعة، فتعامل من الآن فصاعداً مع كل (أفضلكم) (أحسنكم) (أكرمكم) (أقربكم) (أتقاكم) (أصبركم) (خيركم)، على أنّه مجال للطاقة المرتفعة التي تحتاج أن تشحن بها بطاريّتك باستمرار.
وفي دراسات التأهيل النفسي والإجتماعي، تجد لائحة مما يُطلق عليه بـ(محوِّلات رفع الطاقة) تتجه في نفس الإتِّجاه؛ فيقال مثلاً:
- إنّ مجرد تعاملك بطيبة مع نفسك ومع كل ما هو حي هو أكبر طاقة قادرة على التحويل، ولكي تصل بهذه الطيبة إلى أعلى معدلاتها لا تسمح بأي استثناء.
- إنّ معظم برامج التلفزيون، ما هي إلا تدفّق للطاقة المنخفضة في معظم الأوقات.
- الصورة الفوتوغرافية هي أحد الأشكال المولِّدة للطاقة، كما أنّ كل صورة تحتوي على قدر من الطاقة، حتى ليقال أنّ الصورة أحياناً تعبر عن مئات الكلمات، ولعل هذا أحد أسباب احتفاظنا بألبومات نتصفّحها بين حين وآخر تستمدّ من بعض الصور طاقة ما.
- إلتفت إلى أفكارك، إن كل فكرة تملكها تؤثر عليك، فثمّة فكرة ترفع الطاقة وثمّة فكرة تهبط بها إلى أدنى مستوى لها (في مطلع هذه النقطة أو الخطوة ذكرنا بعض الأمثلة عن الأفكار من النوعين).
- قرِّر أن تقيم علاقة تقارب وثيق مع كل الأشخاص الذين يمكن أن يمدّوك بالطاقة. لأنّ أصحاب الطاقة المرتفعة يشعّون بطاقاتهم على من حولهم فتشيع فيهم روح الإيجاب والتفاؤل والتفاعل والتواصل، وعلى العكس منهم أصحاب الطاقات المنخفضة (لاحظ أنّ المريض النفسي يزداد مرضه بصحبة مريض نفسي مثله، وتتحسّن صحّته بصحبة مريض تشافى أو صحيح معافى.
إنّ كل نشاط يملك مجالاً للطاقة. ندعوك هنا للتأمّل في شخص يعلِّم أُمِّيِّين القراءة والكتابة بشكل مجّاني، أو مقطوع للخدمة في دار المسنِّين، أو حينما تُكلّف بعمل أو مسؤولية ما، بدلاً أن تكون مجرد عضو في فريق.. هناك مستوى من الطاقة عالٍ، وهناك مستوى أعلى.. وبالتالي، فإن كلمة (كل نشاط إيجابي)، تعني رفعاً للطاقة، (وكلّ نشاط سلبي) تعني خفضاً للطاقة.
- تأمّل الطبيعة بعُمق واستشعار جمالها ففي ذلك استمداد للطاقة المرتفعة: تأمّل مثلاً: لماذا كان النظر إلى الخضرة يقوِّي البصر؟! أو رمي البصر في الآفاق البعيدة يجعله حادّاً؟ ولماذا تسلّق الجبال يقوِّي القدرة على التحدي وتجاوز الصعوبات؟ ولماذا السباحة ضد التيار توجب القوة والمهارة، ولماذا الجلوس عند المياه يبعث السكينة في النفس؟.. إلخ.
- إحضرْ محاضرات روحانيّة: هل تعلم أنّ رسول الله (ص) وهو الذي نزل القرآن عليه وبلّغه للناس كان يطلب من (عبدالله بن مسعود) أن يتلو عليه شيئاً من القرآن، لأنّه كان يحب أن يسمعه من غيره، وعلى هذا فإنّ الإستماع إلى محاضرةٍ أخلاقية أو روحية أو وعظيّة، قد ترفع من مستوى طاقتك الروحية أكثر من مجرد قرائتها، فللأسلوب ونبرة الصوت وحرارة التعاطي المباشر، وتقديرك لصدق المتحدِّث، أثره في تفاعلك الروحي مع ما تسمع.
- زر دور العبادة: هذا هو السبب الذي جعل (المسجد) في الإسلام مركزاً إسلامياً مأموماً ومقصوداً من قِبَل المسلمين أبناء المحلة أو المنطقة، لأنّه يُمثِّل مركز إشعاع حيوي لا في إقامة الصلاة فحسب، بل بما يشيعه من روح الجماعة والألفة والتفقّد والإعانة وما يجمعه من العلم إلى جانب العبادة، وكلّ تلك الأنشطة رافعة لمستوى الطاقة.
- ألزم نفسك بمساعدة الآخرين من المحتاجين والمسنِّين والمرضى.
ولكي تتأكّد أن هذه المساعدة ترفع الطاقة أيضاً، إرجع إلى ما ذكرناه في أن كل نشاط يملك مجالاً للطاقة، فكيف إذا كان هذا النشاط إنسانياً ونابعاً من داخلك، وتتلّمس انعكاساته على نفسية من تُبدي لهم الخدمة وتقدِّم لهم المساعدة.
- مارس الإحسان بلا مُقابل. سبق أن أشرنا إلى أن ثقافتنا التربوية تركِّز على عمل المعروف مع من يستحقه ومع من لا يستحقه، فإن كان من لا يستحقه من غير أهله فأنت من أهله، أي أنك يجب أن تنظر إلى الإحسان كقيمة لا كمزاج، ولذلك فأنتَ حينما تُقدِّم مساعدة ماليّة بدون الإفصاح عن اسمك، أو تقوم بعمل خير ولا تنتظر كلمة شكر، ترتفع بطاقتك إلى مستوى (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا) (الإنسان/ 9).
يُروى أنّ طفلاً ضعيف الشعبية في فصله الدراسي، الذي يضمّ (37) تلميذاً، أراد أن يقدم لزملائه في أحد الأعياد بطاقات تهنئة، فجلس مع أُمّه يتذكرهم واحداً واحداً، وكان قلق أُمّه متزايداً من أن يعود مبتئساً من أنّ أحداً من زُملائه لم يُقدِّم له بطاقة تهنئة في قِبال قلقه واهتمامه البالغ بأن لا يكون قد نسي زميلاً له.
عند عودته من المدرسة، لم ترَ أُمّه أية بطاقة في يده، لكنها رأت فرحة غامرة تشيع في وجهه وهو يقول لها: الحمد لله يا ماما، تصوّري أنني لم أنسَ أحداً!!
لقد ذكرهم أو تذكّرهم جميعاً ولم يذكره أحد، فلم يبدِّد نسيانُه من قبلهم فرحته الكُبرى في أنّه لم يدع زميلاً من زملائه من غير تهنئة، هذا هو العطاء بلا مقابل.
إنّ في حياة الأطفال دروساً في الصحة النفسية جديرٌ بالكبار أن يتلقّوها في مدرستهم العفويّة!
7- تخلّص من الشكوك لأنّها خائنة:
يقول الشاعر الإنجليزي الكبير (شكسبير): "إنّ شكوكنا خائنة، لأنّها هي التي تجعلنا نفتقد كل الخير الذي يمكن أن يعود علينا باحجامنا عن المحاولة"!
ولو درست بعض الشكوك التي اعترضتك في حياتك، لرأيت أنها ناتجة إمّا عن حالة التهيّب وهي حالة نفسية يمكن حلّها أو تجاوزها بالاقتحام والمغامرة، أو من تشكيك الآخرين بقدراتك، وهي إمّا أنّها غير موضوعيّة أو ناجمة عن غيرة وحسد.
الإمام علي (ع) عالج مشكلة الشاكِّين بقدراتهم معالجة نفسيّة، فقال: "إذا هبت أمراً فقع فيه، فإن شدة توقِّيه أشدّ من الوقوع فيه". و(التوقِّي)، يعني الشك والتردد والتهيّب والتخوّف وإن لبس لباس (الحذر) و(الإحتياط) و(الإحتراز)، وأمّا (الوقوع فيه)، فتعني تقحّم التجربة مهما كانت نتائجها، ذلك أنّنا كثيراً ما نستصغر قدراتنا ونستضعف أنفسنا، وبالتالي فلسنا أفضل من يُقيِّم أنفسنا، فلعلّ القريبين المخلصين يعرفون فينا ما لا نعرفه في أنفسنا، وفي هذه الحالة يجب أن نصدِّقهم ونسعى أن نكون عند حُسن ظنّهم، لإثبات أنّ تصوّراتهم عنا ليست وهميّة أو محض خيال.
إننا عندما نظن ببعض الناس السوء نأثم، وننسى أن ظننا بأنفسنا سوءاً، بأن نظلمها حين لا نضعها في الموقع اللائق بها إثم أيضاً، ولذلك قيل: "رَحِمَ الله امرءاً عَرَفَ قدرَ نفسه".
وعلى هذا، فالتردد في فوضى الشكوك حالةٌ ينسبها القرآن لأهل النفاق (وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ) (التوبة/ 45)، وأمّا تحث شمس الإيمان، فلا ريب ولا تردّد: "دَعْ ما يُريبك إلى ما لا يُريبك".
وحتى نقرِّب الصورة أكثر، فإنّ القرآن ينسب الكثير من المخاوف إلى أستاذ المخاوف وبطلها وهو (الشيطان) الذي لا همّ له إلا أن يُقعد العاملين عن العمل أو يُثبِّط همم الناشطين ليخذلهم، فيهوِّل ما يرى في تهويله هزيمة نفسية، حتى ليظهرك قزماً صغيراً إزاء ما يداهمك أو يتحداك. قول الله تعالى التالي يحمل تحليلاً للمشكلة وسببها وحلها:
(الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ) = (المشكلة).
(فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) = (المواجهة).
(فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) = (الحلّ).
(إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) = (التحليل) (آل عمران/ 173-175).
تأمّل في: (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ)، ليس في ميدان الحرب والقتال فقط، بل (يجبِّنُ) أتباعه والمصدِّقين به في كل وقت وكل مكان، والفهم الدقيق للتحليل هو أنّ المخاوف ليست حقيقية بل وهميّة.
لقد خوّف الشيطان إبراهيم (ع) من فقدان ولده الوحيد والغالي إن ذبحه، في ثلاثة مواضع وفي كل موضع كان يرجمه إبراهيم (ع) بحجر، وهذا ما تفعله اليوم وأنت تحجّ بيت الله الحرام، لتقول: أنا لا أستجيب للمخاوف الشيطانيّة، معي الله ولا حول ولا قوّة إلا بالله.. لذلك هو سلاحي، وتلك هي عدّتي.. هداني السبيل، وآتاني العقل والإرادة وأدوات الكَدْح، وقال لي: هذي أرضي، فاسعَ في مناكبِها، ورزقك مضمون عليَّ، فلا تلق بالاً للشيطان.
إنّ شكوك الغني الذي إذا أحسن أو تبرّع أو أعان فقيراً أو محتاجاً بأن ماله سينقص أو يفنى.. شيطانيّة لا أساس لها من الصحة.
وشكوك المُضحِّين بأوقاتهم في خدمة الناس، في أنّهم لا يستخفونها، أو أنّ الدولة هي المعنيّة، أو أنهم سيتنكّرون لك.. شكوك خائنة.
إنّ الشكوك التي تقف في طريق إصلاحك لمشكلة، أو علاجك لأزمة، أو تنفيذك لمشروع، في أنّه أكبر من طاقتك، وإن غيرك حاول وفشلَ، وإنّ الإمكانات ضئيلة، وإنّ النتائج قد تكون مُخيِّبة.. همسات شيطان يعرف أنّك لو مضيت لتحوّلت أحلامك إلى وقائع، ولذلك كلّما كنت أصماً لا تلقي أذنك للشيطان وشكوكه.. كان توفيقك أكبر.
- خلاصة الدراسات البحثية في عالم الشفاء:
"الشفاء من خلال العزيمة مُتاح لأيِّ شخص عادي، شرط أن يهجر الخوف، الذي يحول دون تواصله مع الويل": (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ)!!
والأطباء النفسانيّون يقولون:
إنّ أي مرض هو إشارة إلى أنّ هناك نقصاً ما، وأيّ خوف مصاحب للمرض، هو دليل آخر على أنّ هناك شيئاً ناقصاً في أعمال العقل!
هذا يعني:
(المرض) إشارة إلى نقص (بدنيّ).
(الخوف) إشارة إلى نقص (عقليّ) أو روحي.
وقديماً قال (المتنبِّي) مبدِّداً فكرة أنّ الخوف – في أكثر حالاته – حقيقي:
وما الخوفُ إلا ما تخوّفه الفتى **** وما الأمن إلا ما رآه الفتى أمنا
إنّ الإرتباط أو الإتِّصال بالمطلق أو المصدر هو إرتباط وإتِّصال بـ(خالق العافية) و(رزاق العافية) هو اتِّصال بالعافية كلّها. فهل ذلك الذي عجز الأطباء عن معالجته وتحرّك قلبه باتجاه الله متضرِّعاً، و(يا مَن اسمهُ دواء وذكرهُ شفاء)!! كان يمارس طقساً خرافياً، وإذاً كيف تغلّب على مرضه وقاومه بـ(مناعة) غير التي في الصيدليات؟!
إستمع إلى هذه الشهادة الطبية الموحية:
"من خلال الصلاة اليومية المنتظمة ونمو الذات يستطيع الإنسان أن يشكِّل تكيّفه مع ضغط المرض، وإنّ أنشطة الصلاة تُسمّى في (الصحة النفسية): (الإستجابة للإسترخاء) فهي تعطي القوّة لمصارعة الإحباط والفشل":
أنتَ إذاً في غرفة إنعاش روحي غير غرفة الإنعاش الطبي المادي.. غرفة إنعاش تتجه فيها إلى القبلة لتركِّز الإنتباه على شيء واحد، وهو كيف تحقِّق الإتصال بالمصدر!!
8- دور الصلاة في السلام الروحي:
لو أعدنا قراءة الصلاة على ضوء مفهوم (الإرتباط بالمصدر)، فماذا يمكن أن نجنيه من صلاتنا اليوميّة؟
إنّ تكبيرة الإحرام (الله أكبر)، تختزن في داخلها شحنات هائلة ضدّ الكثير من المضعِفات أو المثبِّطات والمخوِّفات.
وإنّ (سورة الفاتحة)، بما تحتوي من مضامين الإرتقاء إلى مقام الخطاب مع صاحب الجلالة (الله تبارك وتعالى) تفتح دروباً واسعة وآفاق رحبة أوسع لما تتصوّر، خذ مثلاً واحداً فقط:
(اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) (الفاتحة/ 6-7).
إنّك هنا تنفتح على طريق الخير والإستقامة والصّلاح ليس في بدء الإسلام بل من فجر الخليقة.. لأنّ نقطة البداية فيه من هناك.. إنّك تطلب الإلتحاق والإنخراط في الطائفة المؤمنة التي أنعم الله عليها بإيمانها حتى حازت مقام القُرب منه منذ آدم (ع) وحتى آخر إنسان صالح على هذه الأرض.
وإنّك عندما تقول وأنت راكع: "سُبحان ربِّي العظيم وبحمدِه".. تعيش محلِّقاً في أجواء العظمة المتعالية على كل الصغائر. إرتباط بالعظمة في أعظم مصادرها.
وحينما تسجد لتقول: "سُبحان ربِّيَ الأعلى وبحمدِه".. تترامى في العلوِّ المعنوي، الذي لا تطالُ أجنحة غير المؤمنين ذُراه.. فأنتَ (الأعلى) لأنّك مرتبطٌ بـ(الأعلى).
وهكذا في كل فصلٍ من فصول صلاتك ودعائك وأذكارك.. هناك إنفلات من (المحدود)، وسباحة في فضاء (المطلق).. هناك تمزيقٌ لشرنقة المادّة للتحليق في سماوات الروح.. لذلك كانت ركعتان يصلِّيهما المُصلِّي لا يحدّث نفسه فيهما عن شيء من الدنيا، كافيتان بأن تُحدثا إنقلاباً نفسيّاً هائلاً من جنبات روحه وشفاء نفسه.. جرِّب ولا تيأس.. وحين تتمكّن من أداء هاتين الركعتين، ستجد أنّك في عالم آخر، أنّك مخلوق آخر.. وما يُقال عن الصلاة يُقال عن سائر العبادات.
تؤكِّد دراسات روحيّة حديثة على أنّ الإنسجام أو التجانس مع المصدر، قادر على أن يهبك بلا حدود!!
إنّ هذا والذي تقوله ثقافتنا من أنّ الإرتباط بالمصدر هو إرتباط بفيض العطاء الدائم المتّصل الذي لا تنفدُ خزائنه واحد:
تأمّل في (الفيض المعنوي اللامحدود) في نماذج أو عيِّنات من النور المبين:
(وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا) (لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) (العنكبوت/ 69).
(وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا) (البقرة/ 103)، (لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ) (الأعراف/ 96).
(فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) (إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا) (نوح/ 10).
(يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا) (وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ) (وَبَنِينَ) (وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ) (نوح/ 11-12).
(وَاتَّقُوا اللَّهَ) (وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهَ) (البقرة/ 282).
"عَبدي أطِعني تكُن مثلي" "تقل للشيء: كُن فيكُون"... إلخ.
إنّ الذين تحدّثوا عن (الواقي المقدّس) لم يتحدّثوا عن خرافة، فبعض ممّا هو قابل للإحتراق حينما لا يحترق في النار التي تلتهم كلّ شيء.. لم يكن شيئاً مسحوراً! تذكر أنّ الطاقة المنخفضة، عندما تواجه طاقة أكثر ارتفاعاً يحدث لها تحوّل تلقائي، فلو لم يحدِّثنا القرآن عن سلامة يونس (ع)، ونجاته من بطنِ الحوت، أما كنّا اعتبرناها قصّةً من وحي الخيال ونسج الوهم، والإعجوبة الأكبر ليس في نجاة يونس (ع) فقط، بل بإمكانية نجاة كلّ اليونسيِّين الذين إذا كانوا في قلب الحوت.. قلب الموت.. قلب النهاية.. قلب التيه.. قلب المجهول، قلب الخطر الهائل، وحملوا معهم المصباح الذي حمله يونس.. مصباح النجاة.. الواقي المقدس: (فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) (الأنبياء/ 87).
أتاهم النِّداء الحاني.. والوعد الصادق.. والنجاة الممتدّة قوارب نجاة وأخشاب إنقاذ عبر العصور (وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) (الأنبياء/ 88)!!. وعدٌ صادقٌ غير مكذوب.. ومَن أصدقُ من الله قيلا؟!
هل تأكّدت الآن أنّنا لا نُطلقُ الكلمات جزافاً، وأنّ الذين يتحدّثون اليوم عن الإمساك بمقبض الحافلة، أدركوا – مبكِّرين أو متأخِّرين – أنّك بدون المقبض.. تتأرجح.. تترنّح.. ثمّ لا تلبث أن تنكبّ على وجهك: (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) (ق/ 16)، (فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (البقرة/ 186)! (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ) (النمل/ 62)... "كُن لما لا ترجو أرجى منكَ لما ترجو"!! والقائمة طويلة والمؤدّى واحد.
9- مرحباً بالموت!!
متى يمكنك أن تُرحِّب بالموت؟
حينما تكون قد قرّرت أن تُحدِّد موعداً مع اللانهاية وأنت حيّ تُرزق، فهذا أشبه (بتعلّم الموت) أثناء الحياة.
إنّ امتزاجك بالأبديّة، عندما تكون قد بنيت لك داراً هناك، سيمنحك شعوراً عالياً بالراحة والسكينة.. إنّه بيتك في المنطقة الخالية من الزلازل.
ولئلّا نحدِّثك كيف استقبل الأنبياء والأولياء الموت، ولكي لا تلقي أشباحه على حياتِكَ أو صحتك النفسية ظلالاً قتمة، ندعوك أن تقرأ معنا الكلمات الأخيرة لطائفة من العظماء، لترى أنّهم كانوا مقبلين على السعادة الأبدية:
- "الله، الله، الله" (المهاتما غاندي).
- "إنّ الحياة هنا غاية في الرّوعة" (أديسون).
- "هذا هو آخر ما في الأرض.. إنّني سعيد" (جون أدمز).
- "سوف أستردّ سمعي في الجنة" (بتهوفن).
- "النّور، النّور، هذا العالم بحاجة إلى مزيد من النور" (جوته).
- "لو كان هذا هو الموت، فأنا أراهُ أسهل من الحياة" (روبرت ستيفنسون).
- "الساعة التي طالما تمنيتها قد حانت الآن" (الأُم تيريزا).
لماذا قالت (آسية زوجة فرعون) وهي في أضخم قصر في مصر: (رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ) (التحريم/ 11)؟!
إنّ خروجك من شارعٍ ضيِّق إلى شارعٍ فارِه.. بماذا يُشعرك؟
وخروجك من سجن طويل إلى حرِّية أبديّة.. ماذا يعني لك؟
والنهاية التي تكون بداية لما لا نهاية له.. كيف هو انطباعك عنها؟
هذا هو الموت.. مرحباً به في أيِّ وقتٍ جاء.. المهم أن نكون قد نقلنا بعض أثاثنا إلى بيتنا الجديد!! وأن نكون أقمنا علاقة حبّ مع المصدر ونحن هنا!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
- الهوامش:
(1) قصص الأنبياء: 206.
(2) نهج البلاغة، الحِكَم القِصار.
تعليقات
jelan
جزاكم الله خيرا من افضل ما قرأت على الاطلاق