• ٧ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٥ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

دائرة الخلاف ومهارة الحل الوسط

دائرة الخلاف ومهارة الحل الوسط

إنّ أهم شيء في حياة الأطفال وكبرى أولويات حياتهم لا يخفى علينا جميعاً؛ إنّه اللعب ثمّ اللعب، فمشاهدة التلفاز واللعب مع الأصدقاء وركوب الدراجة وألعاب الكمبيوتر كلّها مهام حيوية وأولوية ضرورية بالنسبة للطفل، بينما تأتي الواجبات المدرسية وتنظيف الغرف وغيرها في أسفل قائمة أولوياته... ولكن الأب والأُم لديهما مجموعة مختلفة من الأولويات، فعمل الواجبات وتعليق الملابس والاستعداد للمدرسة من ضروريات الحياة، والوالدان يريدان إتمام هذه المهام في وقتها المحدد، ولذلك فهما يصرخان في الطفل ويهددانه حتى ينجز ما يرونه أولوية وضرورة، وهنا يعترض الأطفال لأنّهم يريدون القيام بما يطلبه منهم الوالدان، يجب أن يكون في أوقات الاستراحة من اللعب أو في الفاصل بين البرامج التلفزيونية، لكنّ الأب والأُم يفضلان الانتهاء من هذه المهام في الوقت الذي يأمران فيه الطفل سواء كان ذلك أثناء لعب الطفل أو وسط مشاهدة ما يحب، وهنا يبدأ الصراع..

والسؤال: هل يجب أن يمثل هذا الاختلاف الحتمي – بين أولويات الأطفال والكبار – مشكلة؟ ليس بالضرورة، ولاسيّما إذا نظرت إليه على أنّه جزء طبيعي من الحياة وسنة من سنن الله تعالى في الكون، قال تعالى: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) (هود/ 118-119)، قال العلماء: والمراد من اختلاف الناس هو افتراقهم في الأديان والأخلاق والأفعال والآراء، فلا تكاد تجد اثنين يتفقان مطلقاً في كلّ شيء، فالكلّ مختلف إلّا مَن رحم ربّك بالهداية إلى الدّين الحقّ والرأي الصواب، إنّ إدراك حقيقة أنّ الاختلافات شيء طبيعي تخفف من حدة المشاكل بيننا وبين أبنائنا، إنّ طفلك بطبيعة الحال يفضل اللعب على تنظيف حجرته، وعندما تتقبل هذه الحقيقة باعتبارها أمراً طبيعياً؛ فقد حللت نصف المشكلة، والنصف الثاني هو في الإجابة عن السؤال التالي: كيف نخرج من دائرة الخلاف ونجعل الطفل يقوم بما يأمره به والداه دون تذمر وفي الوقت الذي يحدده الوالدان؟.

 

كيف نخرج من دائرة الخلاف؟

كثيراً ما تدخل مع ابنك في دائرة الخلاف عندما تطلب منه أمراً ويرفضه نتيجة تعارض أولوياتك مع أولوياته، على سبيل المثال:

الأُم: محمّد، ضع ألعابك الملقاة على الأرض في صندوق ألعابك.

محمّد: فيما بعد إنّني أشاهد التلفاز الآن.

الأُم: قلت لك التقط ألعابك وضعها في مكانها.

محمّد: (لا يجيب).

الأُم: (تغلق التلفاز) وتقول: اذهب وافعل ما أمرتك به.

محمّد: (يشغل التلفاز مجدداً) وهو يقول: إنّني أشاهد هذا البرنامج.

الأُم: (تغلق التلفاز مرة أخرى) وهي تصرخ قائلة: قلت لك إجمع ألعابك وضعها في مكانها.

محمّد: لن أذهب...

وبالطبع تعرف بقية السيناريو... مزيد من الصراخ والنواح واتهامات تشتمل على كلمات مثل: دائماً لا تطيعني، وتعبيرات تدل على مشاعر قوية مثل: إنّني أكرهك، وربما يصل الأمر إلى الصفع والدموع، لقد دخل محمّد وأُمّه في دائرة الخلاف، وبالتأكيد لم تكن تلك هي المرة الأولى، وفيما يلي نموذج يوضح دائرة الخلاف كيف تبدأ وبماذا تنتهي.

يبدأ الخلاف بالمعتقدات، فالأُم تعتقد أنّ ابنها يجب أن يطيعها فوراً، ومحمّد يريد إكمال مشاهدة البرنامج، ويرى أنّ ما تطلبه أُمّه يمكن أن يؤجل..

يحدث خلاف وصراع بين الطرفين..

نتيجة الخلاف تغضب الأُم وتصيح، ويتحداها محمّد ويصبح عنيداً، ويصرخ هو أيضاً..

النتائج والعواقب غضب وتحدّ ودموع وفائز وخاسر.

عندما تفكر الأُم في المشكلة القائمة بينها وبين طفلها، وتدرك أنّها ليست مسألة حياة أو موت، فما الضرر الذي سيحدث إن تنازلت قليلاً، وتنازل ابنها قليلاً؛ ليتقابلا في منتصف الطريق؟ إنّ الأُم في الموقف السابق إذا فكرت "بمهارة الحل الوسط"، فإنّ الحوار بينها وبين ابنها محمّد سيدور بالطريقة التالية:

الأُمّ: محمّد، ضع ألعابك الملقاة على الأرض في صندوق ألعابك.

محمّد: فيما بعد، إنّني أشاهد التلفاز الآن.

الأُمّ: ومتى سينتهي هذا البرنامج؟

محمّد: بعد قليل.

الأُمّ: حسناً، عندما ينتهي البرنامج افعل ما طلبته منك.

محمّد: حاضر يا ماما.

وهكذا حقق محمّد وأُمّه نتيجة إيجابية وخرج كلّ منهما منتصراً...

أيها المربي الكريم؛ إنّ التفاوض مع أطفالك ينبع من اعترافك بأنّك لا تعرف الأفضل دائماً، فقد يكون الطفل الصغير محقاً في بعض الأحيان فيما يقول، كما أنّ استسلامك في مثل هذه الحالات لرأي ابنك يبيّن له أنّك مرن وعلى استعداد لتقبل وجهة نظره، وعندما يصل ابنك لمرحلة المراهقة، ستجد أنّه على استعداد لأن يلتزم بما تمليه عليه من قواعد، ولكن بشرط أن تسمح له بإبداء رأيه... وكما هو الحال بالنسبة لأي مفاوضات، يجب أن يكون كلا الطرفين قادراً على طرح قضيته بشكل جيّد وأن يحظى باهتمام الطرف الآخر، فهذا من شأنه أن يبني الثقة بالنفس ويعلم الطفل بعض المهارات، كما أنّه يظهر للطفل أنّك تعتز به وتقدر مهارته في التفكير والحكم على الأمور... إنّ المربي الجيد هو مَن يعرف متى تكون المرونة والتفاوض ضرورين...

 

ابحث عن طرق إبداعية للتمسك برفضك:

عندما يطلب طفلك شيئاً، وترفض أنت قائلاً: "لا"، يسأل الطفل: لماذا؟ وتوضح رأيك، فيلح عليك مرة أخرى، فتقول: "لا"، فيتوسل طفلك، فتكرر قول: "لا"، فيتفاوض طفلك معك، فتغير رأيك وتوافق قائلاً: "نعم"... بهذه الطريقة تعلّم طفلك مبدأ خاطئاً في الحياة يقول: "ابك أكثر، وترجى أكثر، تربح أكثر"، ولكي تنجح في الثبات على موقفك عليك:

1-  أن تفكّر جيداً قبل أن تقول "لا" أو "نعم".

2-  عندما تقول "لا" التزم بها، حتى وإن غيرت رأيك.

تقول إحدى الأُمّهات: ذات يوم هممت بمغادرة المنزل بمفردي وأنا مطمئنة لأّنني سأترك طفلي "خالد" و"سلمى" مع جدتهما، وطلب مني طفلاي أن يخرجا معي وكانا حيئذٍ في الرابعة والثانية من عمرهما، فقلت: لا، ليس الآن، فقالا: من فضلك، فقلت: لا، وهنا فعلا شيئاً يضعف أمامه أقسى القلوب، لقد أخذ كلّ واحد منهما بطرف ثوبي وتعلق به، وبدموع تنهمر من عينيهما قالت سلمى: إنّني أحبك كثيراً يا أمي، من فضلك خذيني معك، وسأنفذ أي شيء تطلبينه، وقال خالد بدموع منهمرة: وأنا أيضاً، سأكون مطيعاً للغاية، وفي هذه اللحظة أدركت أنّني يجب أن أوافق وآخذهما معي، فلم أكن على عجلة من أمري ولا بأس من أن أصحبهما معي، وفي الوقت نفسه لا أريد أن أتراجع بسبب بكائهما عن قولي لا، لو غيرت رأيي ووافقت لعلمتهما التشبث بي والبكاء والتوسل عندما يريدان مني فعل شيء ما، فماذا أفعل؟

لقد قلت لهما لا مرتين، وانطلقت قبل أن ينفطر قلبي وتركتهما يبكيان عند الباب، وركبت السيارة وقدتها حتى صندوق البريد الموجود عند الناصية وأرسلت خطاباً، واستدرت عائدة للمنزل، ودخلت قائلة: السلام عليكم، لقد عدت، لدي مهمة أخرى سأقوم بها، هل تحبان أن تأتيا معي يا أولاد؟ وبهذه الطريقة استطعت أن أتمسك برفضي وفي الوقت نفسه تراجعت عن رفضي أخذهما معي دون أن يشعرا... المهم هو أن تبحث عن طريقة إبداعية تستطيع بها التمسك برفضك...

 

مع الرفض هناك وقت للحل الوسط:

 

أبي (أمي) احذر من استخدام الحل الوسط معي نتيجة لنواحي وبكائي وإلحاحي، لأنّني سأفهم عندها أنّ البكاء والإلحاح يعطياني كلّ شيء في الحياة، وسيكون شعاري "ابك أكثر، تربح أكثر".

 

والآن بعد أن أخذت منك وعداً بأن تصر على رفضك عندما تنطق به، سوف أخبرك بأنّ هناك بعض الأوقات يكون من المناسب فيها أن تغير رأيك، لكن بشرط ألا يحدث ذلك نتيجة لانتحاب طفلك وبكائه وإلحاحه، وإليك مثالاً على ذلك:

حل وسط غير جيِّد:

هاني: بابا، هل يمكنني زيارة خالد؟

الأب: لا، ليس اليوم.

هاني: ولِمَ لا؟ إنّك لا تسمح لي بالذهاب إلى أي مكان.

الأب: لقد قلت لا.

هاني: ولكن يا أبي حسام وشعبان سيزورانه.

الأب: توقف عن إزعاجي.

هاني: أعدك أنّني سأكون بالمنزل عند أذان العشاء.

الأب: قلت لا.

هاني: أرجوك يا أبي أريد رؤية أصحابي.

الأب: لا.

هاني: من فضلك يا أبي

الأب: حسناً، موافق، بشرط أن تعود للبيت عند أذان العشاء.

حل وسط جيِّد:

هاني: هل يمكنني زيارة خالد؟

الأب: لا، ليس اليوم.

هاني: ولكن أبي حسام وشعبان سيزورانه.

الأب: لقد علمت منك أنكّم قليلاً ما تجتمعون، لذلك سأسمح لك، ولكن عليك أن تعود للمنزل عند أذان العشاء.

هاني: أشكرك كثيراً يا أبي، سوف أفعل.

أيها المربي الكريم، إنّك بالسماح لأطفالك باستخدام أسباب صحيحة – غير النواح والبكاء – لتشجيعك على تغيير رأيك وتعديل قرارك، فإنّك تشعرهم أنّ رأيهم ومشاعرهم واحتياجاتهم مهمة، كما أنّهم يتعلمون أنّ الوالدين بشر وقد يتراجعان عن بعض القرارات...

 

إذا فشل الحلّ الوسط.. كن دكتاتوراً خيّراً:

إذا كانت المشكلة القائمة بينك وبين طفلك حول أحد الثوابت التي لا يمكن التنازل عنه، أو فشلت فكرة الحل الوسط في علاج المشكلة؛ كن المستبد العادل، كن عطوفاً ولكن زمام الأمور في يديك، إنّ أسلوب الدكتاتورية الخيّرة مهم جدّاً في التربية، فكلمة "خيّرة" تعني الطيبة والرعاية والعطف والعدل، أما كلمة "دكتاتور" تشير إلى الوالد الذي يكون له الكلمة العليا، وفي هذا النوع من العائلات يكون لكلّ أفراد العائلة حقّ إبداء الرأي (حسب عمر الطفل ونوع القضية)، وفي بعض الأحيان يذعن الآباء لرغبات الأطفال شريطة المنطقية والمناسبة، ولكن لو فشل الطرفان في الوصول إلى حل وسط، يتولى الأب أو الأُم زمام الأمور ويتخذ القرار النهائي، وإذا أدرك الطفل أنّ هذه هي طريقة إدارة العائلة لشؤونها، فسيتقبلون العملية ويحترمونها، وطبعاً سيكون هناك بعض التذمر وبعض العبارات مثل: "هذا ليس عدلاً"، وقد يكون الموقف فعلاً ليس عادلاً من وجهة نظر الطفل، لكنه عادل من وجهة نظر الراشدين الذين يحملون على عاتقهم مسؤولية توفير الأمان والسعادة للأطفال، وبالتالي مسؤولية اتخاذ القرار النهائي...

وإذا حدث يوماً واعترض طفلك العنيد على قرار قد اتخذته، وفشل الحوار بينكما ولم تنجحا في التوصل إلى حل وسط، يمكنه حينئذٍ كتابة حجته ورأيه على الورق، فعلى سبيل المثال: إذا كان محمود يعتقد أنّ ذهابه إلى النوم في التاسعة مساء مبكر جدّاً، وأنّ من حقه البقاء لنصف ساعة أخرى، فعليه التعبير عن رأيه كتابيّاً إذا فشل الحوار مع والديه حول تلك النقطة، والواقع يقول: إذا كان موضوع الخلاف تافهاً بالنسبة للطفل فإنّه لن يكتب شيئاً، أما الموضوعات المهمة بحقّ فهي التي سيسعى ويبذل جهداً في كتابتها، وإذا كان الطفل على استعداد لتخفيص الوقت والجهد لكتابة قضيته، فيجب على الوالدين أن يهتما بما كتبه اهتماماً خاصّاً، ويناقشاه ويفكرا فيه وقد يردن عليه كتابة وربما يتنازلان من جانبهم استجابة لما كتبه الطفل وبذل فيه الجهد.

 

الخبير التربوي عبد الله محمّد عبد المعطي

المصدر: كتاب أطفالنا كيف يسمعون كلامنا؟

ارسال التعليق

Top