• ٢٦ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٧ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

داود (ع).. النبيُّ العامل والقاضي العادل

أسرة البلاغ

داود (ع).. النبيُّ العامل والقاضي العادل

 في طريق الأنبياء
           (4)

 

 

داود 7

النبيُّ العامل والقاضي العادل

 

 

لجنة التأليف- مؤسسة البلاغ

 

 

 

-               داود 7.. السيرة الذاتية:

1-         داود.. اسم أعجمي لا ينصرف للعَلَميّة والعجمة والشخصية. وفي (القاموس المقدّس): داود: المحبوب.

2-         داود 7 نبيّ من أنبياء بني إسرائيل، ووالد سليمان 7، وكلاهما ينحدران عن إبراهيم 7. وهو ابن يسا (وقيل يسى بالألف المقصورة) من سبط يهودا. قيل إنّه وُلِدَ قريباً من سنة (1033)، وقيل (1071)، وقيل (1086) قبل الميلاد ببيت لحم بفلسطين.

3-         اختاره الله مَلكاً ليقوم مقام شاءول (طالوت) ملك إسرائيل. وقيل ملك (40) سنة.

4-         في (مروج الذهب) للمسعودي (ج1، ص32): «وندب طالوت الناس، وجعل لمن يخرج إلى جالوت ثُلث مُلكه، ويتزوَّج ابنته، فبرز داود فقتله بحجر كان في مخلّاته، رماه بمقلاع فخرّ جالوت ميتاً، ورفع الله ذكر داود وانقادت بنو إسرائيل إليه. فكان أوّل ما لمع اسمه وذاعت شهرته عندما كان جندياً في جيش طالوت».

5-         ألانَ له الله عزّوجلّ الحديد فعمل منه الدروع وحلق الحديد.

6-         سَخَّرَ الله تعالى له الجبال والطير يُسبِّحن معه.

7-         في (أعلام القرآن) للشبستري: «داود من عظماء أنبياء وملوك بني إسرائيل، عُرِف بكثرة العبادة والتهجُّد لله عزّوجلّ. كان في حداثته يرعى الغنم، وكان معروفاً بنقاوة القلب، وطهارة السريرة، والانشغال بالعبادة، فكان يقوم الليل، ويصوم أكثر أيامه، ويأكل من كسب يده».

8-         كان معاصراً للنبيّ إشموئيل 7 أحد أنبياء بني إسرائيل، والملك طالوت أحد ملوكهم. اتّخذ مدينة حبرون (الخليل الحالية) عاصمة لمُلكه، وبعد سبع سنين انتقل إلى حصن صهيون وسمّاه مدينة داود.

9-         انشقّ عليه قسم من الإسرائيليين وكفروا به واتّهموه ببعض التُّهم، فغضب الله عليهم وسَلَّطَ عليهم الموت والهلاك، وقيل هلك في ساعة واحدة سبعون ألف شخص جرّاء أفعالهم وأقوالهم عليه. وقد شنّ حروباً كثيرة ضدّ أعدائه وكان النصرُ دائماً حليفه.

10-   لم يزل مُتصدِّراً للنبوّة والملوكية في بني إسرائيل (40) سنة حتى توفّي فجأة في أورشليم. واختُلِف في تاريخ وفاته أيضاً. دُفِنَ في مدينة داود على جبل صهيون بفلسطين.

 

-               داود 7 في القرآن:

ورد اسم داود 7 في القرآن الكريم في (16) موضعاً، نعرض لها بالآتي:

1-         داود 7.. قاتل الطاغية جالوت:

قال تعالى: ﴿وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ﴾ (البقرة/ 251).

2-         داود 7.. آتاه الله المُلك:

قال تعالى: ﴿وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ﴾ (البقرة/ 251).

3-         داود 7.. آتاه الله الحكمة (النبوّة) وفصل الخطاب:

قال تعالى: ﴿وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ﴾ (البقرة/ 251).

4-         داود 7.. آتاه الله زبوراً (رسالة سماويّة):

قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا﴾ (الإسراء/ 55).

5-         داود 7.. عابد مخلص لله:

قال تعالى: ﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ﴾ (ص/ 17).

6-         داود 7.. آتاه الله علماً واسعاً:

قال تعالى: ﴿وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ﴾ (البقرة/ 251).

وقال عزّوجلّ: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا﴾ (النمل/ 15).

7-         داود 7.. كان يقضي بين الناس بالعدل:

قال تعالى في قصّة الخصمين: ﴿فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ﴾ (ص/ 22).

وقال جلّ جلاله: ﴿وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ﴾ (الأنبياء/ 78).

8-         داود 7.. آتاه الله القوّة والتأييد:

قال تعالى: ﴿اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأيْدِ﴾ (ص/ 17).

9-         داود 7.. أوّاب كثير الاستغفار والرجوع إلى الله تعالى:

قال تعالى عنه 7: ﴿إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾ (ص/ 17).

10-   داود 7.. سَخَّرَ الله له الجبال والطير يُسبِّحن معه:

قال تعالى: ﴿وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ﴾ (الأنبياء/ 79).

11-   داود 7.. فَضَّلَهُ الله على كثير من عباده المؤمنين:

قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (النمل/ 15).

12-   داود 7.. عمل شكراً لله تعالى:

قال تعالى: ﴿اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾ (سبأ/ 13).

13-   داود 7.. لعن الكافرين من بني إسرائيل:

قال تعالى: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ﴾ (المائدة/ 78).

14-   داود 7.. وهب الله له ولداً نبيّاً وملكاً:

قال تعالى: ﴿وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾ (ص/ 30).

15-   داود 7.. وريثه ولده النبيّ سليمان الحكيم 7:

قال تعالى: ﴿وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ﴾ (النمل/ 16).

16-   داود 7.. خليفةُ الله في الأرض بالحقّ:

قال تعالى: ﴿يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ﴾ (ص/ 26).

 

بنو إسرائيل بعد موسى 7

عن أبي بصير، عن الإمام محمد الباقر 7: إنّ «بني إسرائيل بعد موسى 7 عملوا بالمعاصي وغيَّروا دين الله وعتوا عن أمر ربّهم، وكان فيهم فيما يأمرهم وينهاهم فلم يطيعوه، ورُوِي أنّه (أرميا) النبيّ، فَسلَّط الله عليهم (جالوت) وهو من القبط، فأذلّهم وقتل رجالهم وأخرجهم من ديارهم، وأخذ أموالهم، واستعبد نساءهم. ففزعوا إلى نبيّهم وقالوا: سِل الله أن يبعث لنا مَلكاً نقاتل في سبيل الله.

وكانت النبوّة في بني إسرائيل في بيت، والمُلك والسلطان في بيت آخر، لم يجمع الله لهم النبوّة والمُلك في بيت واحد، فمن ذلك قالوا: ﴿ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ (البقرة/ 246)، فقال لهم نبيّهم: ﴿هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا﴾ (البقرة/ 246). وكان كما قال الله تبارك وتعالى: ﴿فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلا قَلِيلا مِنْهُمْ﴾ (البقرة/ 246)، فقال لهم نبيّهم: ﴿إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا﴾ (البقرة/ 247)، فغضبوا من ذلك، وقالوا: ﴿أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ﴾ (البقرة/ 247)؟! وكانت النبوّة في ولد لاوي، والمُلك في ولد يوسف، وكان طالوت من ولد بنيامين أخو يوسف لأُمّه، لم يكن من بيت النبوّة ولا من بيت المملكة. فقال لهم نبيّهم: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ (البقرة/ 247). وكان أعظمهم جسماً، وكان شجاعاً قوياً، وكان أعلمهم، إلّا أنّه كان فقيراً، فعابوه بالفقر، فقالوا: ﴿لَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ﴾ (البقرة/ 247)، فقال لهم نبيّهم: ﴿إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَة﴾ (البقرة/ 247). وكان التابوت (الصندوق) الذي أنزله الله على موسى فوضعته فيه أُمّه وألقته في اليم (البحر)، كان في بني إسرائيل يتبرّكون به، فلمّا حضر موسى الوفاة وضع فيه الألواح ودرعه وما كان عنده من آيات النبوّة وأودعه يوشع وصيَّه، فلم يزل التابوت بينهم حتى استخفّوا به، وكان الصبيان يلعبون به في الطُّرُقات، فلم يزل بنو إسرائيل في عزّ وشرف مادام التابوت عندهم، فلمّا عملوا بالمعاصي واستخفّوا بالتابوت، رفعه الله عنهم، فلمّا سألوا النبيّ وبعث الله إليهم طالوتَ مَلكاً يُقاتل معهم، ردّ الله عليهم التابوت، كما قال الله: ﴿إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَة﴾ (البقرة/ 247). قال: البقية: ذُرِّيّة الأنبياء، وقوله: ﴿فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ فإنّ التابوت كان يوضع بين يدي العدو وبين المسلمين فتخرج منه ريحٌ طيِّبة»[1].

وعن الحسن بن خالد، عن الإمام علي بن موسى الرضا 7 في تتمّة الحكاية، عن الإمام الباقر 7: «أوحى الله إلى نبيّه أنّ جالوت يقتله مَنْ يستولي على درع موسى 7، وهو رجل من ولد لاوي بن يعقوب 7 اسمه داود بن آسي. وكان آسي راعياً للغنم وكان له عشرةُ بنين أصغرهم داود. فلمّا بُعِث طالوت إلى بني إسرائيل، وجمعهم لحرب جالوت بعث إلى آسي أن أحضر ولدك، فلمّا حضروا دعا واحداً واحداً من ولده فألبسه درع موسى 7، منهم مَنْ طالت عليه، ومنهم مَنْ قَصُرت عنه، فقال لآسي: هل خلّفت من ولدك أحداً؟ قال: نعم، أصغرهم، تركته في الغنم يرعاها. فبعث إليه ابنه فجاء به، فلمّا دُعِي أقبل ومعه مقلاع. وكان شديد البطش قوياً في بدنه شجاعاً، فلمّا جاء إلى طالوت ألبسه درع موسى فاستوت عليه، ففصل طالوت بالجنود... إلى بقية القصة»[2].

ويذكر (أحمد بهجت) في (أنبياء الله) كيفيّة مقتل (جالوت) على يد داود 7، فيقول: «كان داود 7 مؤمناً بالله، وكان يعلم أنّ الإيمان بالله هو القدرة الحقيقية في هذا الكون، وأنّ العبرة ليست بكثرة السلاح، ولا فخامة الجسم ومظهر الباطل، وتقدَّم داود يطلب من الملك طالوت إذنه بمبارزة جالوت. تقدَّم بمقلاعه (نبلة يستخدمها الرُّعاة) وتقدَّم جالوت المُدجَّج بالسلاح والدروع، وسخر جالوت من داود وأهانه وضحك منه ومن فقره وضعفه، ووضع داود حجراً قوياً في مقلاعه وطوَّح به في الهواء، وأطلق الحجر نحو جبهة جالوت فقتله، وتقدَّم داود منه فأخذ سيفه»[3].

 

-         خلاصة ما تقدّم:

1- لم ينقذ الله تعالى بني إسرائيل من جالوت بأن بعث لهم مَلكاً يقاتلون تحت رايته وهو (طالوت) فحسب، وإنما نصرهم براعٍ صغير (حدث السن) لا يملك إلّا (الثقة بالله) و(مقلاعه) و(عدم الخوف إلّا من الله)، وأنّ الفئة القليلة قد تغلب الفئة الكثيرة بإذن الله.

2- سَدَّد الله رمية داود 7: ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى﴾ (الأنفال/ 17) فجاء الحجرُ كالطلقة في جبهة الطغيان، وفي الناصية الخاطئة الكاذبة، فأردته قتيلاً، والقوّة لا تقاسُ بمقدار رُعبها، بل بمدى تصويبها، واليد الشجاعة التي تطلقها، والقلب الثابت الذي يُسدِّدها نحو المرمى، وتوفيق الله في دقّة التصويب.

3- بزغ نجمُ داود 7 في قتله لأعتى طاغية واجههُ بنو إسرائيل بعد فرعون، فكان حقّاً له أن يكون هو المَلِك الجامع للمُلك مع النبوّة، ولقد رفع الله له ذكره، وانقادت بنو إسرائيل إليه، وشدَّد الله له المُلك فلم ينكسر في أيّة معركة قطّ.

 

مزايا شخصية داود 7

ذَكَر القرآن الكريم أهم مزايا داود 7 وجاءت الإشارة إلى مزاياه مترابطة متكاملة، فداود 7:

1-         شجاع

قال تعالى: ﴿وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ﴾ (البقرة/ 251).

2-         مَلك

قال تعالى: ﴿وَآتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ﴾ (البقرة/ 251).

3-         حكيم

قال تعالى: ﴿وَآتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ﴾ (البقرة/ 251).

وقال عزّوجلّ: ﴿وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ﴾ (ص/ 20).

4-         عالم

قال تعالى: ﴿وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ﴾ (البقرة/ 251).

وقال عزّوجلّ: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا﴾ (النمل/ 15).

5-         مُحسنٌ

قال تعالى: ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ (الأنعام/ 84).

وقال تعالى: ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى﴾ (الأنفال/17).

6-         قاضٍ بالعدل

قال تعالى: ﴿وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ﴾ (الأنبياء/ 78).

وقال سبحانه: ﴿فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ (ص/ 26).

7-         مُسبِّح كثير العبادة

قال تعالى: ﴿وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ﴾ (الأنبياء/ 79).

وفي الحديث عن رسول الله 6: «كان داودُ أعبدَ البشرِ»[4] [5].

8-         الشاكر بعمله شكراً عملياً

قال تعالى: ﴿اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾ (سبأ/ 13).

9-         أوّاب ومنيب

قال تعالى: ﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾ (ص/ 17).

وقال جلّ جلاله: ﴿وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ﴾ (ص/ 24).

ولو تأمّلنا في هذه الباقة أو الحزمة من المزايا والخصال والخصائص، لتبيّن لنا أنّ داود 7 لم يكن مَلكاً يحكم باسم الله، بل كانت النبوّة والمُلك كلاهما عنصري أو عاملي عبودية لله وظّفهما كليهما في نصر دين الله وإعزاز رسالته من خلال عبوديته المخلصة لله تعالى، وشجاعته الفائقة المتنمّرة في ذات الله التي تخشى الله ولا تخشى أحداً غيره، وكانت نبوّته وعلمه وإحسانه ورجوعه إلى الله تعالى عوامل مساعدة في قضائه بالحقّ والعدل بين الناس.

والملاحظ أيضاً، أنّ سليمان 7 – كما سيأتي البحث عنه في كتاب لاحق يتحدّث عن سيرته – يحمل نفس خصائص أبيه، فهو لم يرث العلم والنبوّة والمُلك منه فقط، بل ورث حتى صفاته الشخصية وسماته العالية، فالله تعالى يقول عن كلّ منهما: ﴿إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾ والرجوع إلى الله تعالى عند كلُّ غفلة أو نسيان فضيلة، وكلّ منهما آتاه الله فضلاً.

يقول سبحانه على لسان ابنه سليمان: ﴿وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ﴾ (النمل/ 16)، وكلاهما عبدٌ شكور: ﴿وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (النمل/ 15)، وكلاهما قضى بالعدل: ﴿وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ﴾ (الأنبياء/ 78).

ونخلص إلى أنّ داود 7 كان أباً مُربِّياً، ومُعلِّماً ناجحاً، وبارّاً بابنه كما كان ابنه سليمان بارّاً، وسيأتي الحديث عن ذلك في موضعه من كتاب (سليمان 7.. النبيُّ المَلِك).

والسؤال هنا: لماذا فَضَّل الله تعالى داود 7 أو آتاه الفضل المُبين؟

الجواب ورد على لسان الإمام جعفر بن محمّد الصادق 7 في الرواية عنه: «إنّ الله تبارك وتعالى أوحى إلى داود 7: ما لي أراك وَحداناً (وحيداً)؟ قال: هجرتُ الناس وهجروني فيك. قال: فما لي أراك ساكتاً؟ قال: خَشيتُك أسكتتني. قال: فما لي أراك نَصِباً (شديد العناء والتعب)؟ قال: حبُّك أنصبني. قال: فما لي أراك فقيراً وقد أفدتك (وهبتك مُلكاً)؟ قال: القيام بحقّك أفقرني. قال: فما لي أراك متذلِّلاً؟ قال: عظيمُ جلالك الذي لا يوصف ذللني، وحقّ ذلك لك يا سيدي. قال الله جلّ جلاله: فأبشر بالفضل منِّي، فلك ما تحب يوم تلقاني. خالط الناس وخالقهم بأخلاقهم وزايلهم في أعمالهم تنل ما تريد منِّي يوم القيامة»[6].

 

إشارات النص هي:

1- الله تعالى يطرح على عبده داود جملة من الأسئلة التي هي ليست من نوع الأسئلة الاستعلامية أو الاستيضاحية أو الاستبيانية، فالله تعالى أعلم بالإنسان من نفسه؛ ولكنها أسئلة المناجاة بين (الحبيب) و(المحبّ)، وهي تكشف الستار لمن لم يعرف خفايا وأسرار هذا الحبّ أنّه إنما وصل إلى درجة تفضيل الله لداود 7 لأنّه هجر الناس في الله وهجروه فيه، وهو من خشية الله ساكتٌ عن ما لا يليق، وفي حبّ الله يعاني ويكابد، وإنّه وإنْ أُوتي المُلك فهو الفقير لله الغنيّ الحميد، وهو متذلِّل لجلال الله متواضع لهيبته، فكان جزاء ذلك كلّه أنْ بَشَّره الله بالفضل.

2- في النص بشارتان: الأُولى بالفضل الدنيويّ، وقد آتاه الله الألطاف والنِّعم التي ذكرناها، والثانية بنعيم أخرويّ يرضاه داود 7 نفسه، غير أنّه اشترط عليه شرطاً لينال ما يحبّ يوم يلقى الله تعالى، وهو أنْ يخالط الناس ودينه لا يُكلِّمنّه (لا يجرحنّه بما يخالفه) فهو يداري الناس في أخلاقهم – تقديراً لضعفهم – ؛ لكنه يُخالفهم في أعمالهم التي لا يحبّها الله ولا يرضاها.

3- الإشارة الثالثة، هي أنّ التوفر على الشرط ليس داودياً حصرياً، فأيّما إنسان مؤمن بالله يخالط الناس ويتفاعل معهم اجتماعياً؛ ولكنّه لا يقترف ما يقترفون من سيِّئات، أو يرتكب ما يرتكبون من معاصٍ، أو يجترح ما يجترحون من منكرات، فهو ممّن ينال من الله يوم القيامة ما يريد.. ودليلنا في ذلك، أنّ الله تعالى أوحى إلى داود 7 في غير مناسبة أنّ قُرناءه (أصحابه) أو (جيرانه) في الجنّة، هم فلان وفلان، وسيأتي الحديث عن ذلك بإذن الله، الأمر الذي يعني أنّ بعض الناس العاديين قرنهم الله بنبيّ عظيم لتوقّرهم وحيازتهم لخصال حَسَنة.

وأمّا سعة مُلكه، فيُحدِّثنا عنها الإمام محمد الباقر 7 في المروي عنه: «وأمّا داود، فملك ما بين الشامات إلى بلاد اصطخر، وكذلك كان مُلكُ سليمان»[7]. واصطخر – كما في الموسوعة الحرّة – مدينة قديمة تقعُ في جنوب إيران، في محافظة فارس (شيراز) على بُعد خمس كيلومترات إلى الشمال من أنقاض مدينة برسبوليس.. كانت مدينة مزدهرة خلال فترة الدولة الإخمينية، ثمّ أصبحت مؤقتاً عاصمة الدولة الساسانية. دُمّرت في الفتح الإسلامي. اليوم هي موقع أثري.

 

زبور داود 7

قال تعالى: ﴿وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا﴾ (الإسراء/ 55).

الزَّبور في اللغة: الكتاب عامّةً، ويُخصَّص بأنّه الكتاب الذي يُدوَّن بخط غليظ، وقيل في تعريفه: إنّه كلُّ كتاب مقصور على الحِكَم العقلية دون الحِكَم الشرعية. وهو من زَبرَ الكتاب إذا أتقن كتابته. والجمع: زُبَر. وقيل: الزَّبور: كلّ كتاب يصعب الوقوف عليه من الكتب الإلهية، قال تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأوَّلِينَ﴾ (الشعراء/ 196)، وقوله: ﴿أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ﴾ (القمر/ 43).

وأمّا الزَّبور الكتاب السماويّ المُنزل على نبيّ الله داود 7، فكما في الموسوعة الإسلامية الميسَّرة، ج6، ص1208: فلا يتضمّن أحكاماً، وإنما قُصِر الأمرُ فيه على الحِكَم، ويُشكِّل قسماً من أقسام التوراة (العهد القديم) واسمه فيه (مزامير داود)، وتشمل المزامير على (150) مزموراً، مُقسَّمة إلى خمسة أجزاء غير متساوية في الحجم، ولكلّ مزمور عنوان، وهي في جملتها مجموعة من الترانيم الدينية لليهود، يتلونها في بِيَعهم[8] وأديرتهم. وتذكر الروايات أنّها جمعت في أواخر القرن الثالث قبل ميلاد المسيح 7.

ومَيَّز (الدامغاني) في (قاموس القرآن) بين الزَّبور وبين الزُّبَر، معتبراً الزُّبرُ حديث الأوّلين وأمرهم الذي كان في الكتب. وقيل: الزُّبر: الكُتب، والواحد زبور. وأفاد بعض المفسِّرين بأنّ الزُّبر هي الكتب الإلهيّة المقدّسة، والصُّحف الأولى: صُحف إبراهيم وموسى 8 وكافة الرسالات السابقة على الإسلام. وقيل: الزَّبور الكتاب الذي يحتوي على أحكام مستحكمة ووظائف ثابتة لازمة.

وخلط بعض المفسِّرين بين معنى (الزُّبَر) التي هي القِطَع كزُبَر الحديد، وبين الزُّبَر التي هي الكُتُب السماوية، معتبراً الزبور زبور داود 7 كتاباً مقتطعاً من غيره من الكُتُب وتحديداً من القرآن الكريم الذي كان مكتوباً قبل أن ينزل، كما اقتطعت الصُّحف الأُولى منه وأعطيت للأنبياء قبل نبيّنا 6. ويُرجِّح ذلك لقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾ (الأنبياء/ 105)، إذ كيف يقول ﴿مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ﴾ إذا لم يكن الذكر (وهو القرآن) سابقاً عليه؟ فيما يرى مفسِّرون آخرون أنّ الذِّكر في الآية هو التوراة لأنّ الله سمّاها به أيضاً، كما في قوله تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ (النحل/ 43).

ويرى صاحب (التحقيق في كلمات القرآن الكريم) أنّ الكتاب الموسوم بـ(المزامير) هو غير الكتاب النازل على داود 7 والذي كان يُسمّى بـ(الزبور)، حيث تُرك وليس له أثر في زماننا في المكتبات العمومية، ولا يبعد أن يكون كتاب المزامير هذا مُلفَّقاً من الزبور وغيره.

وسُوَر الزبور باللغة السريانية، وقيل إنّ الذي نقلها إلى العربية هو (عبدالله بن عباس)، وكان داود 7 إذا قرأها بكى وبكت معه الجبال، وسجدت له الأشجار، وامتنعت الطيور عن الطيران، وصغت الأسماك في البحار إلى قراءته.

 

-         أُطلبني.. تجدني:

من سُوَر الزبور التي تتفق في معانيها مع ما ورد في القرآن الكريم النصّ المتعلِّق بقسم الأدعية، كما ورد في (الحِكَم اللدنيّة)، حيث تنتهي كلّ آية بقول الحقّ سبحانه (فاطلبني تجدني)، وهي نفس قوله جلّ جلاله في القرآن الكريم: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي﴾ (البقرة/ 186)، وقوله تعالى: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ (غافر/ 60). ولأنّها مجموعة من المناجاة والأدعية القريبة الشبه بما جاء في الصحيفة السجّادية الموسومة بـ(زبور آل محمّد)، وقيل إنّ الإمام علي بن الحسين زين العابدين 7 قد فَسَّرها. وإنما نقتطف أو نقتطع هذه الآيات للتدليل أو كشاهد على بعض ما ورد في زبور داود 7، ولا يخفى أنّ ثمة ركاكة في ترجمة النص وتعريبه، وإنْ كانت المعاني واضحة وجليّة.

بسم الله الرحمن الرحيم

·              أنا المطلوب فاطلبني تجدني، فإنْ تطلب سواي لم تجدني.

·              أنا المقصودُ لا تقصد سواي، كثيرُ الخيرِ، فاطلبني تجدني.

·              أنا الربّ الذي يخشى عذابي جميعُ الخلق، فاطلبني تجدني.

·              تجدني مراحماً برّاً رؤوفاً بكلّ الخلق، فاطلبني تجدني.

·              تجدني واسعاً للخلق، عبدي أنا المذكور، فاطلبني تجدني.

·              تجدني واحداً صمداً عظيماً كثيرَ البرّ، فاطلبني تجدني.

·              تجدني مُستغاثاً بي مُغيثاً.. أنا القهّار، فاطلبني تجدني.

·              إذا المضطرُّ قال: ألا تراني؟ نظرتُ إليه، فاطلبني تجدني.

·              إذا اللهفانُ ناداني كظيماً أقل لبيك، فاطلبني تجدني.

·              إذا عبدي عصاني لم تجدني سريع الأخذ، فاطلبني تجدني.

·              ومَنْ مثلي ومَنْ يكون مثلي، وليس يكون، فاطلبني تجدني.

إلى أن يقول تَقدَّس ذكره:

·              لي الآلاء والنُّعماء عبدي لي الخيرات، فاطلبني تجدني.

·              لي الدنيا وما فيها جميعاً، لي الملكوتُ، فاطلبني تجدني.

·              أنا الله الذي لا شيءَ مثلي، أنا الدَّيّان، فاطلبني تجدني.

·              أنا مَلكُ المُلوك، وبكلّ مُلك لي الميراث، فاطلبني تجدني.

ولكلّ واحدة من هذه الآيات ما يُقابلها في آيات الذِّكر الحكيم، مما يعني أنّ المُرسل أو المصدر واحد.

وفي المزمور أيضاً:

·              أتعرفُ منقذاً غيري سريعاً من الهلكاتِ، فاطلبني تجدني.

·              أتعرفُ ساتراً للعيب غيري، أنا الستّار، فاطلبني تجدني.

·              تجدني في سجودِك حين تدعو، وحين تقوم، فاطلبني تجدني.

·              تجدني في سواد الليل عبدي قريباً منك، فاطلبني تجدني.

... ويختم:

·              أنا المعبودُ لا تعبد سواي، أنا الجبّار، فاطلبني تجدني.

وإلى جانب مزامير الزبور أو سُوَره أو آياته، نجد أنّ الله تعالى كان كثير الوحي لداود 7. وقد حفظ لنا الأئمّة من أهل البيت : عدداً من تلك الإيحاءات، نذكر بعضها على سبيل التمثيل، لنشير إلى أنّ داود 7 لم يتلقَ الكتاب (الزبور) وحسب، بل كان يُوحى إليه على سبيل الوعظ والإرشاد والتعليم، والتنبيه، ومن ذلك:

 

1-         بي فافرحْ!

عن الإمام جعفر الصادق 7: «أوحى الله عزّوجلّ إلى داود 7: يا داود، بي فافرح، وبذكري فتلذَّذ، وبمناجاتي فتنعَّم، فعن قليل أُخلي الدار عن الفاسقين، واجعل لعنتي على الظالمين»[9].

 

2-         حقيقة الحبّ:

رُوِي – كما في بحار الأنوار – أنّ الله عزّوجلّ أوحى إلى داود 7: «مَنْ أحبّ حبيباً صدَّق قوله، ومَنْ أنسِ بحبيب قبل قوله، ورضى فعله، ومَنْ وثق بحبيب اعتمد عليه، ومَنْ اشتاق إلى حبيب جَدَّ في السير إليه. يا داود، ذكري للذاكرين، وجنّتي للمطيعين، وزيارتي للمشتاقين، وأنا خاصّة للمحبّين»[10].

 

3-         الشوق إلى الله تعالى:

ورُوِي أنّه 7 خرج مُصحراً مفرداً، فأوحى الله إليه: «يا داود، ما لي أراك وحدانياً؟ فقال: إلهي، اشتدّ الشوقُ منِّي إلى لقائك، وحال بيني وبين خلقك، فأوحى الله إليه: ارجع إليهم، فإنّك أنْ تأتيني بعبد آبق أُثبتُك في اللوح حميداً»[11]، أي إذا هديت شخصاً مارقاً أو عاصياً فثاب إلى رُشده وعرف ربّه وأطاعه هو خيرٌ من اعتزال الناس، بقرينة (ارجع إليهم).

 

4-         رحمة الله الواسعة:

عن النبيّ محمّد 6: «أوحى الله عزّوجلّ إلى داود 7: يا داود، كما لا تضيق الشمس على مَنْ جلس فيها، كذلك لا تضيق رحمتي على مَنْ دخل فيها، وكما لا تضرّ الطِّيَرة (التشاؤم) مَنْ لا يَتطيّر منها، كذلك لا ينجون من الفتنةِ المُتطيِّرون»[12].

 

5-         الطاعة والإعانة عليها:

روى الإمام جعفر الصادق 7، فقال: «إنّ الله تعالى أوحى إلى داود 7: أنْ بلِّغ قومك أنّه ليس من عبدٍ منهم آمرهُ بطاعتي فيُطيعني إلّا كان حقّاً عليَّ أن أعينه على طاعتي، فإنْ سألني أعطيته، وإنْ دعاني أجبته، وإنْ اعتصم بي عصمته، وإنْ استكفاني كفيته، وإنْ توكّل عليَّ حفظته، وإنْ كاد جميع خلقي كدتُ دونه»[13].

فحوى ومؤدّى هذه الإيحاءات:

1-         ثقافة داود 7 أو مصادر الثقافة الدينية ليست الزبور وحده، بل بما كان يوحي إليه تعالى بين الحين والحين من مواعظ وحِكَم ودروس وعِبَر.

2-         المفاهيم الواردة في النصوص المتقدِّمة منسجمة تماماً مع نصوصنا الدينية الإسلامية، ولذلك نلاحظ أنّ النبيّ 6 والأئمّة من أهل البيت : ينقلون لنا بعض ما أوصله الله تعالى لداود 7 للتأكيد على أنّ المنبع والمصدر واحد، وأنّنا لا نُفرِّق بين كتب الله، كما في قوله تعالى: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ﴾ (البقرة/ 285).

 

تسبيح داود 7

قال تعالى: ﴿وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ﴾ (الأنبياء/ 79).

أُوتي داود 7 صوتاً رخيماً عذباً شجيّاً، تختلط نبراته العذبة بتسبيحاته، فيمتزج لواعج الوجدان، وأشواق القلب، وجيشان الحبّ، وتدفُّق العواطف مع تسبيحاته المنسابة كأنينِ نايٍ تسيل المشاعر في ترنيماته فيسيلُ له حتى الجماد.. والصوت العذبُ الرقراق إذا خالط كلمات الجمال والكمال التي تحملها التسبيحات والتحميدات والتمجيدات والتهليلات والضراعات، غدا أنشودةً تُردِّدها الكائنات المحيطة نسيمها، وسائلها، وصلدها، وترتيلةً تعيدُ صداها حتى صخور الجبال التي تبدو صمّاء خرساء. يقول تعالى: ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾ (الحشر/ 21)، وبسملاتِ صلاةٍ ترقُ على ألسنة الطير فتنتج تغريداتها وزقزقاتها وهديلها تسبيحةً واحدة على تعدُّد نبراتها، وكأنّ حنجرةَ داود 7 مصفاةٌ لأنغامِ القلب وتراتيل الروح، وبوح الوجدان، تلقي على حنجرة الطير، وحنجرة الحجر سَلسَلها الرقراق، فتذوبُ الجمادات، وتسيلُ، حتى لا تكاد تسمع منها سوى أنّها نغمات متواشجة في سمفونية ربّانية لا يملك الكونُ إلّا أن يقف ساعةَ تسبيحها خاشعاً ومندغماً في العروج إلى الله تعالى.

يقول (أحمد بهجت) في (أنبياء الله) حول تسبيح داود 7 والكائنات من حوله: «نحن أمام معدن بشريّ من لون خاص. إنسان بلغ من شفافية النفس والتجرُّد أنْ انزاحت الحُجب بينه وبين الكائنات، فاستجابت عصارة النباتات وهي تصعدُ في سيقان الشجر لصوت ترنيمه، واتّصلت ذرّات الجبال بذبذبات صوته وهو يُسبِّح، وذابت الحدود بين ضمير المخلوق والطير والوحش وصخور الجبال فاتّسقت كلّها في نغم واحد يتجه إلى الله بالتسبيح والتمجيد والذِّكر. كان داود 7 يملك نفساً تستطيع أن تمتزج امتزاجاً صوفياً بغيرها من نفوس الكائنات، حتى ما نتصوَّر أنّه لا يملك نفساً كالجبال والصخور. وكان 7 إذا جلس يُسبِّح الله ويُمجِّده تَعرَّت الكائنات من إطار الوجود الجامد، وانكشف باطنها المُترنِّم بمجد الله، واستجاب هذا الباطن للنغم الصادر من داود»[14].

ولك أن تتخيّل داود 7 في أوليات الفجر بين زرقته وتنفُّسه وتململ الشمس عند استيقاظها في عرشها أو خدرها، وهو يذرفُ فلذات كبده ترانيم عشقٍ لله جلّ جلاله، والمُرنِّمون أو المُردِّدون معه جوقةً موسيقية من مختلف الأجناس والجنسيات في سمفونية تتصاعد نغماتها بوحاً صافياً في الإعراب عن حبّ الله والثناء عليه.. أو تصوّره 7 وهو في أُخريات النهار، والشمسُ متثائبةً مائلة إلى الغروب، وهو يزفر زفرات التعلُّق الوجداني بالله وإذا الكائنات تُصدِّق ما يقول، لا بأنْ تقول (آمين)، بل بترديدها صدى تسبيحاته لترتفع التسبيحات الكونية الكلِّية الشاملة باقةً من أشواق الأرض إلى لقاء السماء، واندغام الأرضيّ الترابيّ بالعلويّ المتعالي على التراب! إنها لحظات عناقٍ واحتضانٍ واستغراقٍ وامتنانٍ.

من هنا نفهم لماذا ندب القرآن الكريم إلى (ترتيل) آياته، ولماذا حثّت الروايات على تحسين الصوت وتجويده عند قراءة القرآن، ولماذا يرتفع الدُّعاء بالداعي إذا انداح من صوت تعزفه أوتار القلب، وتوصل أوتار الحنجرة رسائله بأمانة، وما يخرج من القلب تتجاوب معه القلوب والمشاعر.

 

قضاء داود 7

قال تعالى: ﴿يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ﴾ (ص/ 26).

حتّى نُبيِّن مدى العدالة التي كان يحكم فيها داود 7 بين الناس، ليس أفضل من أن نطلع على نماذج من حكمه بالحقّ:

 

أوّلاً – الحكم في الزرع الذي عبثت فيه الغنم:

قال عزّوجلّ: ﴿وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ﴾ (الأنبياء/ 78).

القضية:

جاء صاحب مزرعة (قيل مزرعة كروم وقيل غير ذلك ولا يهم ذلك أو يؤثِّر في أصل القضية شيئاً) واشتكى لداود 7 ما فعلته أغنام شخص آخر في الليلة الماضية، حيث أفسدت الزرع الذي يمضي صاحبه سنة في إنتاجه، فحكم داود 7 بأن تُسلَّم الأغنام العابثة في الزرع من دون أن يمنعها راعيها من النفش وتخريب الزرع ليلاً لصاحب المزرعة عوضاً عن الخسارة التي حَلَّت به. وكان سليمان 7 حاضراً مجلس القضاء، فقال لأبيه مستأذناً أنّ ثمة حلاً آخر أرفق من هذا الحُكم. فأشار داود 7 لابنه بالإفصاح عنه، فقال سليمان 7: تُسلَّم الأغنام لصاحب الزرع لينتفع منها على مدى سنة (حتى يخرج العنب أو الزرع من جديد) وفي الأثناء يعتني صاحب الأغنام بالزرع لحين نضوجه، وتعاد إليه أغنامه، وبذلك تُجبر الخسارة. فاستحسن داود 7 حُكم أو قضاء ابنه سليمان 7 وحكم به. وكلا الحكمين عادلان، إلّا أنّ حكم سليمان 7 كان أرفق من حُكم أبيه، ولاحظ الأب ذلك فاتّبع ما قاله ابنه، والحقُّ أحقُّ أن يُتبَع.

 

ثانياً – الحُكم بين خصمين في مسألة ضمّ النعجة إلى النعاج الـ(99):

قال تعالى: ﴿وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ * إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ * قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ * فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ﴾ (ص/ 21 – 25).

يذهب بعض المفسِّرين أنّ هذه الحادثة لم تكن في عالم التكليف والتشريع (أي ليس هناك خصمان من البشر تخاصما إلى داود)، بل كانت في عالم التمثل، حيث تمثل له مَلكان على هيئة شخصين جاءا في خصومة مفترضة ليريا رأي داود 7، وهذا أشبه بتمرين قضائي يُعطى للذي على أهبة التخرُّج من القضاء والمحاماة لمعرفة مدى دقّته في تطبيق التعاليم التي تَعَلَّمها.

وذهب صنف آخر من المفسِّرين إلى أنّ الحادثة واقعية، وأنّ المتخاصمين كانا إثنين من الناس، وكان قضاء داود 7 تقديرياً حكم لأحدهما قبل الاستماع إلى بيِّنة الآخر.

ورأى بعض أعلام التفسير أنّ الحادثة سواء كانت في عالم التمثيل أو عالم الواقع، فليس فيهما ما يطعن بعصمة داود 7 وحكمته وفصل خطابه.. وأمّا استغفار داود 7، فهو كاستغفار آدم 7 وتوبته أي قبل تشريع الشرائع والأحكام.

فهو 7 مُنزَّه في إطار المسؤولية القضائية، خاصّة وأنّ الحادثة تجريبية امتحانية ترسم الخط العام للقضاء العادل، وهو عدم التسرُّع في إصدار الحكم قبل الاستماع إلى رأي كلا المتخاصمين، وفي ذلك منهج لكلّ القضاة وليس لداود 7 فقط، حتى شاع في آداب وأدبيات القضاء أن لو أتاك خصم يشتكي ذهاب عينه فلا تحكم له، فقد تكون عينا المشتكى عليه ذهبتا جميعاً[15].

إنّ خطيئة داود 7، إنْ صحّ تسميتها خطيئة، هي أنّه قال للخصم: «لقد ظلمك» من غير أن يسأل خصمه عن دعواه، وإذا كانت القضية تمثيلية على سبيل التدريب العملي فلا معصية لداود 7 في ذلك، فيكون الاستغفار – على رأي البعض – هو مجرّد تعبير عن الانفتاح على الله والمحبّة له والخضوع له.

وقد أكّد الإمام علي بن موسى الرضا 7 ذلك فيما روي عنه في (عيون أخبار الرضا)، حيث سأله الراوي عن خطيئة داود 7 بقوله: يا ابن رسول الله، ما كانت خطيئته؟ فقال: «ويحك! إنّ داود إنّما ظنّ أنّه ما خلق الله خلقاً هو أعلم منه، فبعث إليه المَلكين فتسوّرا المحراب، فقالا: (خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحقّ ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط. إنّ هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة، فقال: اكفلنيها وعزّني في الخطاب). فعَجَّل داود على المُدّعى عليه، فقال: (لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه)، ولم يسأل المدَّعي البيِّنة على ذلك، ولم يُقبل على المدّعى عليه فيقول له: ما تقول؟ فكان هذا خطيئة رسم الحُكم، لا ما ذهبتهم إليه»[16].

إنّ حادثة الخصمين (صاحب النعجة) وصاحب الـ(99) نعجة يبدو أنّها تُمثِّل فاتحة عهد داود 7 في القضاء، والتي أُريد بها إعطاء المنهج في الفصل بين الخصومات والمنازعات، وبالتالي فهي لا تتعارض مع اعتبارنا داود 7 قاضياً عادلاً أخذ الدرس بقوّة وعمل به في القضايا القريبة التي عرضت عليه بعد تولّيه القضاء بشكل رسميّ. أمّا هل يتنافى هذا مع حادثة المتخاصمين: (صاحب المزرعة) و(صاحب الغنم)؟ فالجواب: إنّ هذه الحادثة وقعت – من حيث الترتيب – بعد حادثة المَلكين، وأنّ داود 7 استمع إلى الخصمين، وإذا كان ابنه سليمان 7 حَكَم بغير الحُكم الذي حَكَم به، فكما ذكرنا فإنّ كلا الحُكمين عادل؛ لكن حُكم سليمان أخفّ وحُكم داود أشدّ، والله يدعو إلى الرفق بالناس لا التشديد عليهم، وإلّا فقوله تعالى: ﴿وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ﴾ (الأنبياء/ 78) أي حاضرين نسمع ونرى، ينطوي على إمضاء الحُكمين وترجيح حُكم سليمان بأنّه الأرفق لم تصحبه أيّة إشارة أو مؤاخذة تدلّ على أنّ داود 7 أخطأ في القضاء.

 

ثالثاً – (مات الدين).. (عاش الدين)!

في كتاب (مَنْ لا يحضره الفقيه) للشيخ الصدوق، نقرأ القصة الآتية لعدل داود 7: «مرّ داود 7 بغَلَمة (غلمان) يلعبون وينادون بعضهم (أحدهم): مات الدين! (أي كان هذا هو اسمه الغريب). فدعا (أي داود) منهم غلاماً، فقال: يا غلام! ما اسمك؟ فقال: اسمي (مات الدين) سمّتني به أُمّي. فانطلق (أي داود) إلى أُمّه، فقال لها: مَنْ سمّاه بهذا الاسم؟ قالت: أبوه. قال: وكيف ذلك؟ قالت: إنّ أباه خرج في سفر له ومعه قوم، وهذا (أي ولدها) صبيٌّ حَملٌ في بطني، فانصرف (عاد) القوم ولم ينصرف زوجي، وقالوا: مات! قلت: أين ماله؟ قالوا: لم يُخلِّف مالاً! قلت: أوصاكم بوصيّة؟ قالوا: نعم، زعم أنّكِ حبلى، فما ولدتِ سَمِّهِ (مات الدين)، فسمَّيته. فقال داود 7: أتعرفين القوم الذين خرجوا مع زوجك؟ فقالت: نعم، وهم أحياء. قال: فانطلقي بنا إليهم. ثمّ مضى معها فاستخرجهم من منازلهم، فحكم بينهم بأن فَرَّقهم وغَطّى رؤوسهم، وأقام كلّ واحد منهم على إسطوانة، وقال لمن اجتمع إليه في مجلس القضاء: إذا أنا كَبَّرت فَكبِّروا، ثمّ راح يستدعي المتهمين متهماً متهماً، ويسأل فيُكبِّر ويُكبِّر الناس فيظنّ المتهمون الباقون أنّ صاحبهم اعترف عليهم، فاعترفوا جميعاً، فألزمهم المال (الذي سرقوه من زوج الأرملة) والدية (في مقابل قتله)، ثمّ قال للمرأة: سمِّي ابنك (عاش الدين)»[17].

هذا وقد قضى الإمام عليّ 7 في عهده (أيام خلافته) بحكم داود 7 هذا في قضية مشابهة كان قاضيه (شريح) قد بتّ فيها بأن استحلف (طلب قسم) المتهمين فقط، إلّا أنّ ابن القتيل لم يرضَ بحكم شريح فجاء المسجد إلى الإمام عليّ 7 وهو يبكي فأخبره الخبر، فقال 7: «والله لأحكمنّ فيهم بحكم، ما حكم به قبلي إلّا داود النبيّ 7»[18].

وفي (إرشاد المفيد)، عن الإمام جعفر الصادق 7: «إذا قام قائم آل محمد (المهدي المنتظر) 7 حَكم بين الناس بحُكم داود، لا يحتاج إلى بيِّنة، يلهمه الله تعالى»[19].

وإذا صحّت الرواية واعتمدناها، فإنّنا يُمكن أنْ نُفسِّر بها قصة الخصمين والنعاج، بأنّ داود 7 لا يحتاج في حُكمه إلى بيِّنة لأنّ الله تعالى يلهمه الصواب والعدل وفصل الخطاب، وإنما اعتبر عدم مطالبته بالبيِّنة في الحادثة المذكورة ليكون ذلك منهجاً ينتهجه القضاة في تحرّي العدل والتحرُّز له.

 

داود 7 العامل بيده

قال تعالى: ﴿اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾ (سبأ/ 13).

العمل شكراً لله ماذا يعني؟

الجواب:

1-         يعني – في ما يعنيه – أنّ الله تعالى واهب (النِّعم) و(الأدوات) التي بها تُستحصلُ (تُكتسب) تلك النِّعم، فالمتفضِّل في كسبها واستحصالها هو واهب المُمكِّنات من ذلك، وشكر اليد عملها، كما أنّ شكر الرجل السعي في ما يرضي الله تعالى من أعمال صالحة، وهكذا في كلّ عضو وجارحة، ويبقى شكر الله مع ذلك يحتاج إلى شكر، فكلّما قلنا بعملنا شكراً، وجب أن نقول لله على توفيقنا إلى ذلك شكراً.

2-         العمل شكراً يعني توظيف النعمة في المكان الصحيح، فليس كلّ عمل اليد شكر، بل إنّ الأعمال المُنكرة والمُستنكرة والمُستقبحة التي تقوم بها اليد من قتل وبطش وسرقة وتزوير وتحريف وصناعة أدوات القتل والتدمير، وغير ذلك مما يُشين النعمة ويُشوِّهها هو كفرٌ بالنعمة، ولذلك قال موسى 7 في توظيف نعمة وقوّة الفتوة التي كان يتمتّع بها: ﴿رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ﴾ (القصص/ 17).

3-         العمل شكراً، لأنّ المحرومين من إمكانات وأدوات وفرص العمل يتحسّرون على ما مُتّع به العاملون من ذلك كلّه، فإنْ ترى مُقعداً وأنت تعمل بكلّ قواك، أمرٌ يستاهل الشكر.. وأنْ ترى كسولاً مُفعماً بالصحّة والقوّة ولا يغتنمهما وأنت تسخِّر ذلك، أمرٌ يستحق الشكر.. وأنْ تجد سجيناً حيل بينه وبين حُرِّيته فلا يقوى على أن يعمل ما تعمل، أمرٌ يستوجب الشكر كلّ الشكر على حُرِّيتك.

عن الإمام عليّ 7: «أوحى الله عزّوجلّ إلى داود 7: إنّك نِعمَ العبد لولا أنّك تأكل من بيت المال، ولا تعمل بيدك شيئاً. قال: فبكى داود 7، فأوحى الله عزّوجلّ إلى الحديد: أنْ لِن لعبدي داود، فلانَ، فألان الله تعالى له الحديد، فكان يعمل في كلّ يوم درعاً فيبيعها بألف درهم، فعمل 7 ثلاث مئة وستّين درعاً فباعها بثلاث مئة وستين ألفاً، واستغنى عن بيت المال»[20].

 

ماذا نستوحي من ذلك؟

1-         حتى الأنبياء والملوك يجب أن لا يستغنوا عن العمل، وأن لا يكونوا عالة على بيت المال، ليكونوا في ذلك قدوة لا إلى أبناء شعبهم ورعيتهم فقط، بل لكلّ ملوك الزمان أيضاً. وإذا كانت إدارة المُلك بحد ذاتها عملاً، فإنّ عدم الاستيلاء على بيت المال (خزينة الدولة) أو الاستئثار هو الدرس الأهم في عمل داود 7.

2-         العمل بحد ذاته قيمة، وبحسب تعبير الإمام عليّ 7: «مَن أبطأ به عمله، لم يُسرع به نَسبه (حَسبه)»[21]، فلا يكفي أن يعتمد الابن على ثراء أو ثروة أبيه أو سُمعته أو أمجاده أو شرف نسبه، بل لابدّ أن يرتفع بعمله، لأنّه وحده الذي يعدّ شرفاً. وعن الإمام عليّ 7 أيضاً: «الشرفُ عند الله سبحانه بحُسن الأعمال، لا بحُسن الأقوال»[22].

3-         العمل بحد ذاته شكر، فليس يكفي أن تَتنعَّم بالنعمة وتقول شكراً لله، فما هو أكبر وأعظم درجة من ذلك هو أن تُوظِّف نِعَم الله في نفع الناس وذلك هو سبيل الله.

أمّا صناعة الدروع، فهي صنعة ربّانية عَلَّمها الله تعالى لنبيّه داود 7، وهذا يعني أنّه لم يسبقه إليها أحد. قال تعالى: ﴿أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ﴾ (سبأ/ 11). وربّما تكون صناعة شائعة؛ لكنها طُوِّرت على يد داود 7. فكما يحكي تأريخ صناعة الدروع التي هي إحدى أدوات الحماية الشخصية في الحروب، واتقاء الهجمات، ومنع المقذوفات كالسهام وضربات السيوف والفؤوس والهراوات والرماح، فإنّ أوّل مَنْ صنع الدروع هو داود 7، ثمّ تبعه الآشوريون. يقول عزّوجلّ: ﴿وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ﴾ (الأنبياء/ 80). واللبوس: السلاح سواء كان سيفاً أو رمحاً أو درعاً. ونقول بإمكانية تطوير الدروع لأنّنا نعرف أنّ من بين الأدوات أو (البقيّة) التي تركها آل موسى في التابوت (الصندوق) هي درعُ موسى 7، مما قد يعني أنّ الدروع، وكما يتحدّث تأريخها أيضاً، صُنِعت من الخشب، ومن جلود الحيوانات، والقصب المجدول، ودرقات السلاحف؛ ولكن يبدو أوّل مَن صنعها من الحديد هو داود 7 بعدما طَوَّع الله تعالى له الحديد وألانه له، إمّا بجعله طيعاً في الاستخدام أو الصناعة[23]، أو أنّه عَلَّمه كيف يصهره ليصنع منه الدروع، ولا ينفعنا البحث في ذلك كثيراً، طالما أنّ القرآن صريحٌ أنّ الله تعالى هو عَلَّم داود صناعة الدروع الحديديّة، كما عَلَّم نوحاً 7 صناعة السفينة من الأخشاب والمسامير، وهذا لا يعني أنّ لا سفينة قبل نوح؛ ولكنّه ربما عَلَّمه كيف يبني سفينة ضخمة من طراز خاص.

وسنتعرَّف بعد قليل على حطّاب كان يحتطب بيديه ويبيع حطبه ويأكل منه ويشكر الله على نِعَمه كلّها: ابتداءً من بذرة الشجرة إلى تكوُّنها، إلى تحوُّلها، إلى حطب، إلى تسويقها، وإلى إمكانية شراء الطعام بثمنها، كيف أصبح قرين داود 7 في الجنّة؟!

 

نحلة داود 7 وضفدعه

قال تعالى: ﴿يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ﴾ (سبأ/ 10).

وقال عزّوجلّ على لسان سليمان 7 متحدِّثاً عن النعمة المشتركة التي أنعم الله تعالى بها عليه وعلى أبيه داود 7: ﴿وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ﴾ (النمل/ 16).

الضمير (نا) في (عُلِّمنا) للجمع أو للتعظيم، والمرجَّح أنّ المراد هو وأبوه، فكما كان سليمان 7 يفهم منطق الطير ويتبادل معه الحوار والكلام، فكذلك داود 7، وإنْ كان التركيز على هذه النقطة جاء في قصة سليمان 7 أكثر من الوقوف عندها في قصّة أبيه داود 7.

وكما أنّ لسليمان 7 نملته التي قالت لبنات جنسها ادخلن مساكنكم لئلّا يُحطِّمنّكم سليمان وجنوده، وسمع قولها فتنحّى وجيشه عن مساكن النمل، فإنّ لداود 7 نملته أيضاً. ففي الرواية عن الإمام محمد الباقر 7: «إنّ داود النبيّ 7 كان ذات يوم في محرابه، إذ مرّت به دودة حمراء صغيرة تدبّ حتى انتهت إلى موضع سجوده، فنظر إليها داود وحَدَّث في نفسه: لِمَ خُلِقت هذه الدودة؟ (والسؤال هنا ليس استنكارياً، بل هو سؤال عن السرّ والحكمة)، فأوحى الله إليها: تَكلَّمي. فقالت له: يا داود، هل سمعتَ حسّي؟ أو استبنتَ على الصفا (الحجر الأملس) أثري؟ فقال لها داود: لا. قالت: فإنّ الله يسمع دبيبي، ونَفَسي، وحسّي، ويرى أثر مشيي، فاخفض من صوتك»[24].

أي تَعلَّم منِّي يا نبيّ الله كيف أدبّ على الأرض بصمت، وأعمل بصمت، من غير أن أحدث ضوضاءَ ولا ضجيجاً، وقد لا يلتفت الكثير من الناس إليَّ، إلّا أنّ عين الله تراني وترعاني، ولست بحاجة إلى الجلبة والصراخ حتى أثبت وجودي، تَعلَّم من النملة كيف تكون خفيض الصوت وأنت تدبّ على الأرض.

وكما رأى سليمان 7 النملة التي تقلّها ضفدعةٌ في فمها لتنقل الغذاء إلى نملة عمياء في صخرة في قعر البحر، فإنّ الإمام جعفر الصادق 7، في ما يُروى عنه، قال: «قال داود النبيّ 7: لأعبدنَّ الله اليومُ عبادة، ولأقرأنَّ قراءةً لم أفعل مثلها قطّ! فدخل محرابه ففعل. فلمّا فرغ من صلاته إذا هو بضفدع في المحراب، فقال له: يا داود، أعجبك اليوم ما فعلت من عبادتك وقراءتك؟ فقال: نعم. فقال: لا يعجبنّك، فإنّي أُسبِّح الله في كلّ ليلة ألف تسبيحة يتشعّب لي مع كلّ تسبيحة ثلاثة آلاف تحميدة، وإنّي لأكون في قعر الماء فيصوّت الطير في الهواء فأحسبه جائعاً فأطفو له على الماء ليأكلني وما لي ذنب»[25].

مع فرض صحّة الرواية، فإنّ الله تعالى يُلقي تعاليمه ومواعظه لأنبيائه : على لسان أصغر مخلوقاته، ليكونوا أكثر تواضعاً لله، وهم بالفعل أكثر الناس تواضعاً وتذلُّلاً له، فما بالك يا ترى بالمُعجبين بأنفسهم وليس لديهم ما للأنبياء ولا عُشره؟!

قصّة داود 7 مع النملة (الدودة الحمراء)، ومع الضفدع في المحراب، ربما هي نماذج لأحاديثه ومحاوراته مع حيوانات أخرى، وإذا كانت الطيور تُسبِّح معه، فهو ليس كمثلنا يسمع تغريداتها وهديلها وهمهماتها وزقزقاتها، وإنما يسمعها تُسبِّح بتسبيحاته وبلغة واضحة بيِّنة، بل هو يسمع الجبال وهي تُسبِّح بلغة جلية، الأمر الذي يعني أنّ داود 7 أوتي منطق الطير أيضاً.

 

عبادة داود 7

قال تعالى عن نبيّه داود 7: ﴿إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾ (ص/ 17).

وقال عزّوجلّ داعياً الجبال والطير للتأويب معه: ﴿يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ﴾ (سبأ/ 10).

واللافت في بعض الآيات والروايات أنّنا إذا أردنا أن نعرف مكان داود 7 – بعد فراغه من أعماله – وجدناه في المحراب، حتى أنّ الخصمين (المَلكين) الذين تسورا المحراب، جاءاه في أثناء عبادته للتقاضي في شأن نعاجهما، ولذلك حينما تَبيَّن له تعجُّله وعرف أنّه في موضع اختبار ﴿وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ﴾ (ص/ 24)، بل حتى حديثه مع الضفدع – على فرض صحّة الرواية – كان في المحراب.

ومرَّت بنا شهادة النبيّ محمّد 6 بشأن عبادته: «كان داودُ أعبدَ البشرِ»[26]. وعنه 6: «كان الناس يعودون (يزورون) داود ويظنّون أنّ به مرضاً، وما به إلّا شدّة الخوف من الله تعالى»[27].. كما مرّ قراره بأن يعبد الله عبادة لم يفعل مثلها قطّ، أي أنّه يكسر الرقابة في العبادة، فلا يواظب على المعتاد، وإنما يخرج به في النوع والازدياد.

وحتى القصة المزعومة التي هي من بعض الروايات الإسرائيلية في رؤيته لامرأة (أوريا) والتي سنتحدّث عنها لاحقاً، تُشير إلى أنّه بينما هو في محرابه ذات يوم إذ وقعت حمامة، فأراد أن يأخذها فطارت إلى كوّة المحراب.. مما يعني أنّ داود 7 إذا لم يكن في عمل دنيوي يكسب به عيشه وهو صناعة الدروع، أو في القضاء بالعدل بين الناس، أو في شأن من شؤون مملكته، فإنّك تجده حليف المحراب، وهذا مظهرٌ من مظاهر شدّة عبادته وكثرة صلاته. وإن كان في الروايات دلالة أخرى، وهي أنّ المسجد عنده ليس مكاناً للصلاة فقط، بل لكلّ عمل عباديّ، هذا هو داود 7 في نهاره.

أمّا داود 7 في ليله، فهو ساهرٌ يُناجي الله ويُصلّي له ويتضرّع بين يديه، ونعرف ذلك من شهادة الإمام عليّ 7. فعن (نوف البكالي) – كما ورد في نهج البلاغة – قال: رأيت الإمام أمير المؤمنين عليّ 7 ذات ليلة، وقد خرج من فراشه (كان نوف ضيفاً عليه بات تلك الليلة معه)، فنظر في النجوم، فقال: يا نوف، أراقدٌ أم أنت رامق (يقظ)؟ فقلت: بل رامق يا أمير المؤمنين. فقال 7: «يا نوف، إنّ داود 7 قام في مثل هذه الساعة من الليل فقال: إنّها ساعة لا يدعو فيها عبد إلّا استجيب له، إلّا أن يكون عشّاراً[28]، أو عريفاً[29]، أو شرطياً[30]، أو صاحب عرطبة[31]، أو صاحب كوبة[32]»[33].

هذا كلّهُ فضلاً عن تسبيحاته وتأديباته في أوقات من النهار (ربّما أوّله وآخره)، حيث تُسبِّح معه الجبال والطير، فيكون داود 7 في غير خدمات المُلك والمملكة ومهمّات الدعوة والنبوّة، عابداً يقضي أغلب أوقاته في المحراب، أمّا أوقات استراحاته فقليلة.

 

رُفقاء وقُرناء داود 7 في الجنّة

هذا العبد الأوّاب، الشديد العبادة، هذا النبيُّ المَلِك، هذا العامل شكراً لله، القاضي بالعدل بين الناس، يُوحي إليه الله تعالى أكثر من مرّة مشيراً إلى أنّ ثمة أُناساً عاديين هم رفقاؤه في الجنّة. فلا يسأل ولا يتسائل: كيف يكونوا بشراً عاديين ولهم مقامٌ مثلُ مقامي، فالأنبياء المتأدِّبون بأدب الله، المتخلِّقون بأخلاق الله لا يعترضون ولا يحتجّون على الله في شيء. فطالما أنّ الله تعالى أخبره أنّ فلاناً أو فلانة قريناه في الجنّة، سَلَّم لله الذي مثلما هو أعلمُ حيث يجعل رسالته كذلك هو أعلم بمن يدخل جنّته؛ لكنه من باب حبّ الاستطلاع والتعرُّف على مزايا وخصائص الذين يرافقوه أو يجاوروه في الجنّة، كان يبحث عنهم ليطّلع بنفسه على أسرار قُربهم من الله تعالى، وهذان المثالان شاهدان:

 

أوّلاً – الحطّاب (متّى) أبو يونس:

سأل داود 7 الله تعالى عن قرينه في الجنّة، فأوحى الله إليه أنّه (متى) أبو يونس، فجاء مع ابنه سليمان لزيارته فرأياه، إذ أقبل وعلى رأسه وقر (حزمة) من حطب، فباعه واشترى طعاماً، ثمّ طحنه وعجنه وخبزه فأخذ لقمة، فقال: بسم الله، فلمّا ازدروها، قال: الحمدُ لله، ثمّ فعل ذلك بأخرى وأخرى، ثمّ شرب الماء فذكر اسم الله، فلمّا وضعه قال: الحمد لله، يا ربّ مَن ذا الذي أنعمت عليه وأوليته مثلما أوليتني، قد صَحَّحت بصري وسمعي وبدني وقوّيتني حتى ذهبت إلى شجرٍ لم أغرسه، ولم أهتم لحفظه، جعلته لي رزقاً، وسُقت إليَّ مَن اشتراه منِّي فاشتريت بثمنه طعاماً لم أزرعه، وسَخَّرت لي النار فأنضجته، وجعلتني آكله بشهوة (بشهيّة) أقوى بها على طاعتك، فلك الحمد، قال: ثمّ بكى!

قال داود 7 لابنه سليمان 7: «يا بُني، قُم فانصرف بنا فإنّي لم أرَ قطّ أشكر لله من هذا».

لماذا كان (متّى) رفيق داود 7 في الجنّة؟

الجواب: كونه عاملاً يعمل ويأكل من كدّ يده، وهكذا كان داود 7 يفعل، وكونه عبداً شكوراً يشكر الله على كلّ شيء، مثلما كان داود 7 عبداً شكوراً، وكونه يذكر الله في كلّ صغيرة ويثني عليه، وهكذا كان داود 7 يفعل، وكانت قناعته كنزه، مثلما كانت قناعة داود 7 بما قَدَّره الله عليه من صناعة الدروع وكسب كفافه، فلم يلتفت إلى ما تحت يديه من مُلك لتقضمه بيت المال قضماً. وعلى ذلك، فالإنسان العامل الذاكر الشاكر قرين الأنبياء في الجنّة، وليس (يونس بن متى) فقط، وحسن أولئك رفيقاً.

 

ثانياً – الصابرة والراضية بالقضاء (خلادة بنت أوس):

أوحى الله تعالى إلى داود (صلوات الله عليه) أنّ (خلادة بنت أوس) بَشِّرها بالجنّة وأعلمها أنّها قرينتك في الجنّة. فانطلق إليها فقرع الباب عليها، فخرجت وقالت: هل نزل فيَّ شيء؟ قال: نعم. قالت: ما هو؟ قال: إنّ الله تعالى أوحى إليَّ وأخبرني أنّك قريني في الجنّة وأنْ أُبشِّرك بالجنّة. قالت: أَوَيكون اسمٌ وافق اسمي؟! (أي أنّها كانت في شكّ من الأمر). قال داود 7: إنّك لأنتِ هيَ! قالت: يا نبيّ الله، ما أُكذِّبُك، ولا والله ما أعرف من نفسي ما وصفتني به. قال: أخبريني عن ضميرك وسريرتك ما هما؟ قالت: أمّا هذا فسأخبرك به، أخبرك أنّه لم يُصبني وجع قط نزل بي كائناً ما كان، ولا نزل ضُرٌّ بي، وحاجة وجوع، كائناً ما كان، إلّا صبرت عليه، ولم أسأل الله كشفه عنِّي حتى يُحوِّله الله عنِّي إلى العافية والسِّعة، ولم أطلب بها بدلاً، وشكرتُ الله عليها وحمدته. فقال داود (صلوات الله عليه): «فبهذا بلغتِ ما بلغتِ»!!

ثمّ قال الإمام جعفر الصادق 7 الذي روى الرواية: «وهذا دينُ الله الذي ارتضاه للصالحين»! فبماذا استحقّت (خلادة) أن تكون رفيقة نبيّ الله داود في الجنّة؟ الجواب: برضاها بقضاء الله وقدره، وبصبرها على البلاء، وعدم الشكوى من الله وإلى الله (لم أسأل الله كشفه عنِّي حتى يُحوِّله الله عنِّي إلى السِّعة والعافية)، و(لم تطلب على ما تعاني بدلاً)، و(تشكر الله على البلاء مثلما تشكره على النعماء).. وبذلك غدت خلادة سعيدة في السُّعداء، وهكذا يغدو مَنْ يصلح مثلما صلحت، وذلك وعدُ الصادق 7 بأنّ الدين ما تفعله خلادة.

هذا في الصالحين الذين عَرَّفهم الله تعالى لداود 7 ولم يكن على معرفة بسريرتهم وسلامة فطرتهم، وقد يغفر الله تعالى لمن هو صالح في الظاهر مُراءٍ في عمله بشهادة الناس له بحُسن السلوك، وهذا درسٌ آخر نَتعلَّمه من خلال ما أوحى اللهُ تعالى به لنبيّه داود 7.

في الرواية عن الإمام محمّد الباقر 7: «كان في بني إسرائيل عابد فأعجب به داود 7 فأوحى الله عزّوجلّ إليه: لا يعجبك شيء من أمره فإنّه مُراءٍ. قال: فمات الرجل فأُتي داود 7 وقيل له: مات الرجل. فقال 7: ادْفِنُوا صاحبكم. قال: فأنكرت بنو إسرائيل (أي استغربت الموقف لما كانت تعرفه من إعجاب داود بالرجل). وقالوا: كيف لم يحضره؟ (أي لم يشهد جنازته ويُصلِّي عليه). قال (أي الإمام الباقر 7): فلمّا غُسِّل قام خمسون رجلاً فشهدوا بالله ما يعلمون منه إلّا خيراً، فلمّا صلّوا قام خمسون آخرون فشهدوا بالله أنّهم لا يعلمون منه إلّا خيراً، فلمّا دفنوه قام خمسون فشهدوا بالله ما يعلمون منه إلّا خيراً، فأوحى الله عزّوجلّ إلى داود 7: ما منعك أن تشهد (تحضر جنازة ودفن) فلاناً؟ قال داود 7: الذي اطّلعتني عليه من أمره. فأوحى الله عزّوجلّ إليه أنّه كان كذلك؛ ولكنه قد شهد قوم من الأنصار والرُّهبان ما يعلمون منه إلّا خيراً، فأجزت شهادتهم به عليه، وغفرتُ له علمي فيه»!!

الأمر الذي يعني أنّ سُمعة الإنسان عند الناس مهمّة، وأنّ الله تعالى يأخذ بشهادة الصالحين بصلاح إنسان حتى وإنْ كان في سريرته غير ما يعلمون أو بخلاف ما يظنّون، وهذا هو الذي يدعو المربّي الإسلامي إلى التأكيد والتشديد على التوصية بالحفاظ على السمعة وأنّ الإنسان إذا ابتلي بالمعاصي فليستتر، ولا يرى الناس منه إلّا حُسن الظاهر. أمّا إذا جمع الحسنيين، فكان صالحاً ظاهراً وباطناً، في السرّ وفي العلن، فهو الخير كلّ الخير.

 

اتّهام المُصلحين وتشويه سُمعتهم

يتعرّض الأنبياء والأوصياء والعلماء العاملون، والدُّعاة المخلصون إلى سلسلة من الاتهامات التي تحطّ من كرامتهم، وتُشوِّه سُمعتهم، وتدقّ بين الناس وبينهم إسفيناً، ولو بحثنا عن المُحرِّض والمُحرِّك الأوّل في دفع المتهمين إلى اتّهام المصلحين لرأينا أنّهم الطُّغاة والحُكّام المستكبرون الذين لا يروق لهم أن يدين الناس بدين الحقّ، وأن يكونوا عباداً لله من دونهم، فكلّ الملوك والمستبدّين من حُكّام الشعوب يدّعون أنّهم (الربّ الأعلى) وليس فرعون فقط، وهم يقتفون خُطاه ويترسّمون طريقه في تلطيخ سُمعة الأنبياء والأولياء بوحول أباطيلهم. فلمّا رأى فرعون موسى وهارون 8 يدعوان إلى الله تعالى، لم يتهمهما بالسِّحر فقط، بل استثار مشاعر الناس بأنّهما يريدان أن يخرجوهم عن طريقتهم المُثلى، وأنّهما ليسا مُمثِّلين عن الله أو مندوبين عنه، وإنّما هما طالبا سيادة ووجاهة وتحقيق أمجاد ومآرب شخصية.

ولو استعرضنا حياة الأنبياء والمصلحين عموماً، لرأينا كمّاً هائلاً من التُّهم والإسقاطات التي تهدف إلى الإطاحة بشعاراتهم الدينية أو الإصلاحية، بل والعمل على الإساءة إلى ذواتهم وأعراضهم بشتّى صيغ وأساليب المكر والخبث واللؤم والدناءة. فما أكثر ما اتُّهم المصلحون بالسِّحر والجنون، وبالفسق والفجور والضلالة، وبالخيانة وبالعمالة، وبالسرقة والفساد الأخلاقي، وبأنّ لهم أهدافاً سياسية بحتة يتوسّلون بالدين من أجل الوصول إلى مآرب ومصالح شخصية ضيِّقة.. ومن بين الاتهامات الشنيعة الفظيعة قذفُ الأنبياء والمصلحين بأنّهم زُناة أو لا يتورَّعون عن ارتكاب الجرائم الجنسية باسم الدين.

النبيّ داود 7 الذي هو أشدُّ الناس عبادة لله لم يكن استثناءً من ذلك، فلقد شَوَّه بعض بني إسرائيل صورته النقيّة في ما كتبوه ونسبوه إليه في رواياتهم الدخيلة والباطلة والتي لا تصحّ في سيرة إنسان صالح عادي، فضلاً عن نبيّ من أنبياء الله، فبماذا اتّهموه 7؟

رُوِيَ في (الدرّ المنثور)، عن أنس، وعن مجاهد والسدّي وبعدّة طُرق، عن ابن عباس قصة دخول الخصم على داود 7 على اختلاف في الروايات، ما خلاصته: إنّ داود 7 كان كثير الصلاة، فقال: يا ربّ، فَضَّلت عليَّ إبراهيم فاتّخذته خليلاً، وفَضَّلت عليَّ موسى فكلَّمته تكليماً. فقال: يا داود، إنّا ابتليناهم بما لم نبتلك بمثله فإنْ شئت ابتليتك. فقال: نعم يا رب، فابتلني.

فبينما هو في محرابه ذات يوم إذ وقعت حمامة، فأراد أن يأخذها فطارت إلى كوّة المحراب، فذهب ليأخذها فاطّلع من الكوّة فإذا امرأة (أوريا بن حيّان) تغتسل فهواها وهَمَّ بتزويجها، فبعث بأوريا إلى بعض سراياه وأمر بتقديمه أمام التابوت الذي فيه سكينة، ففعل ذلك وقُتل. فلمّا انقضت عدَّتها تزوَّجها (أي داود) وبنى بها فولد له منها سليمان، فبينما هو ذات يوم في محرابه إذ دخل عليه رجلان ففزع منهما، فقالا: لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض.. فنظر أحد الرجلين إلى صاحبه ثمّ ضحك، فتَنبَّه داود على أنّهما مَلكان بعثهما الله إليه في صورة خصمين ليُبكِّتاه (يُؤنِّباه) على خطيئته، فتاب وبكى حتى نبت الزرع من كثرة دموعه.

والقصة مأخوذة من التوراة المُحرَّفة التي فيها أشنع وأفظع مما جاء في الرواية المعدَّلة، ففي التوراة ما ملخّصه: وكان في وقت المساء أنّ داود قام عن سريره وتمشّى على سطح بيت الملك، فرأى من السطح امرأة تستحم، وكانت المرأة جميلة المنظر جداً، فأرسل داود وسأل عن المرأة، فقيل: إنّها بتشبع امرأة أوريا الحيّي، فأرسل داود رُسلاً وأخذها، فدخلت عليه فاضطجع معها وهي مطهَّرة من طمثها، ثمّ رجعت إلى بيتها وحبلت المرأة فأرسلت وأخبرت داود أنّها حُبلى.

وكان أوريا في جيش لداود يُحاربون بني عمون، فكتب داود إلى (يوآب) أمير جيشه يأمره بإرسال أوريا إليه، ولمّا أتاه وأقام عنده أياماً كتب مكتوباً إلى (يوآب) وأرسله بيد أوريا وكتب في المكتوب يقول: اجعلوا أوريا في وجه الحرب الشديدة، وارجعوا من ورائه فيُضرب ويموت، ففُعل به ذلك فقُتل، وأُخبر داود بذلك.

فلمّا سمعت امرأة أوريا أنّه قد مات ندبت بعلها (زوجها)، ولمّا مضت المناحة أرسل داود وضمّها إلى بيته وصارت له امرأة ووَلدت له ابناً. وأمّا الأمر الذي فعله داود فقبُح في عيني الربّ، فأرسل الرب (ناثان) النبيّ إلى داود، فجاء إليه وقال له: كان رجلان في مدينة واحدة منهما غني والآخر فقير، وكان للغني غنم وبقر كثيرة جدّاً. وأمّا الفقير، فلم يكن له شيء إلّا نعجة واحدة صغيرة قد اقتناها وربّاها. فجاء ضيف إلى الرجل الغني فعفا أن يأخذ من غنمه ومن بقره ليُهيِّئ للضيف الذي جاء إليه، فأخذ نعجة الرجل الفقير وهيّأ لضيفه، فحمي غضب داود على الرجل جداً، وقال لناثان: حيٌّ هو الربّ، إنّه يقتل الرجل الفاعل ذلك وتُردُّ النعجة أربعة أضعاف، لأنّه فعل هذا الأمر ولأنّه لم يُشفق.

فقال ناثان لداود: أنت هو الرجل يُعاقبك الربّ ويقول: سأقيم عليك الشرّ من بيتك، وآخذ نساءَك أمام عينيك، وأعطيهنَّ لقريبك فيضطجع معهنّ قدّام جميع إسرائيل وقدّام الشمس، جزاءً لما فعلت بأوريا وامرأته.

فقال داود لناثان: قد أخطأتُ إلى الربّ. فقال ناثان لداود: الربّ أيضاً قد نقل عنك خطيئتك، لا تموت غير أنّه من أجل أنّك قد جعلت بهذا الأمر أعداء الربّ يشمتون، فالابن المولود لك من المرأة يموت. فأمرض الله الصبي سبعة أيام، ثمّ قبضه، ثمّ ولدت امرأة أوريا بعده لداود ابنه سليمان[34].

وفي (عيون أخبار الرضا) في باب مجلس الرضا 7 عند المأمون مع أصحاب الملل والمقالات، قال الإمام الرضا 7 لابن جهم: وأمّا داود فما يقول مَنْ قبلكم فيه؟ قال: يقولون إنّ داود كان يُصلِّي في محرابه، إذ تَصوَّر له إبليس على صورة طير أحسن ما يكون من الطيور، فقطع داود صلاته وقام يأخذ الطير إلى الدار فخرج في إثره فطار الطير إلى السطح، فصعد في طلبه فسقط الطير في دار أوريا بن حيّان، فاطّلع داود في إثر الطير فإذا بامرأة أوريا تغتسل، فلمّا نظر إليها هواها، وكان قد أخرج أوريا في بعض غزواته، فكتب إلى صاحبه أن قَدَّم أوريا أمام التابوت، فَقدَّم فظفر أوريا بالمشركين فصعب ذلك على داود، فكتب إليه ثانية أنْ قَدِّمه أمام التابوت، فقُدِّم فقُتل أوريا وتزوَّج داود بامرأته.

قال (أي ابن جهم): فضرب الرضا 7 يده على جبهته وقال: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، لقد نسبتم نبيّاً من أنبياء الله إلى التهاون بصلاته حتى خرج في إثر الطير، ثمّ بالفاحشة، ثمّ بالقتل! فقال الراوي: يابن رسول الله، ما كانت خطيئته؟ فَقَصَّ عليه الإمام علي بن موسى الرضا ما جاء في القرآن من قصة صاحب النعجة الواحدة وصاحب النعاج الـ(99)، وعلَّق 7 بالقول: فعجّل داود على المُدّعى عليه ولم يسأل المدّعي البيِّنة على ذلك، ولم يُقبل على المُدّعى عليه، فيقول له: ما تقول؟ فكان هذا خطيئة رسم الحكم لا ما ذهبتم إليه، ألا تسمع الله عزّوجلّ يقول: ﴿يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ﴾ (ص/26)؟!

فقال: يابن رسول الله، قصتهُ مع أوريا؟ قال الرضا 7: إنّ المرأة في أيام داود كانت إذا مات بعلُها (زوجها) أو قُتِل لا تتزوَّج بعده أبداً، فأوّل مَنْ أباح الله عزّوجلّ له أن يتزوَّج بامرأة قُتِل بعلها (زوجها) داود 7، فتزوَّج بامرأة أوريا لمّا قُتِل وانقضت عدّتها، فذلك الذي شقّ على الناس من قتل أوريا.

وفي (أمالي الصدوق)، عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق 7، أنّه قال لعلقمة (أحد أصحابه): «إنّ رضا الناس لا يُملَك وألسنتُهم لا تُضبَط، ألم ينسبوا داود 7 إلى أنّه تبع الطير حتى نظر إلى امرأة أوريا فهواها، وأنّه قدَّم زوجها أمام التابوت حتى قُتِل ثمّ تزوَّج بها»؟!

 

التعامل مع الإسرائيليات

تَبيّن من نسج القصة الهابطة في اتّهام نبيّ الله داود 7 أنّ الاتهامات ليست باطلة ولا تليق بنبيّ فحسب، وإنما هي إهانات ساقطة لمقام النبوّة المعصومة، إذ كيف يجوز اتّباعُ نبيّ بهذه المواصفات التي وصفه بها الوضّاعون من بني إسرائيل وهو مؤتمن من قِبَل السماء؟ أليس الغاية والغرض من ذلك تشويه صورة النبيّ، بل كلّ الأنبياء بأنّهم لا يختلفون عن العُصاة وأتباع الشياطين والشهوات والخطاة بشيء؟ فماذا يبقى من رمزيّة وقدسيّة النبيّ إذا كان بهذه المثابة من عصيان الله؟ وهذه الدرجة من التهافت المُهين والمُشين على شهوته المُحرَّمة؟!

إنّ هذه الرواية وغيرها من الإسرائيليات لابدّ من الرجوع فيها إلى القرآن الكريم ومحاكمتها على ضوئه ووفقاً لأُصوله (كما فعل الإمام الرضا 7 في ردّ ونقض الرواية المكذوبة عن داود 7). ورد عن النبيّ 6: «ما وافق كتاب الله فخذوه، وما خالفه فاتركوه، أو اضربوا به عرض الجدار»[35]، وبذلك أعطى 6 معياراً تُوزن به الروايات المنقولة عنه وعن أهل بيته :، فما بالك بالروايات المنحولة والمجعولة وغير المعقولة المرفوضة غير المقبولة؟!

أمّا كيف تَسلَّلت الإسرائيليات إلى كُتُب الحديث والتفسير، فيجيب (الذهبي) في (تذكرة الحفاظ) أنّها أخذت طريقها إلى هذه الكُتُب بطرق ثلاث، هي:

1-         الرواية عن كُتُب الإسرائيليات مباشرة.

2-         الأخذ عمّن دخل الإسلام من أهل الكتاب ككعب الأحبار، وعبدالله بن سلام، وتميم الدارمي.

3-         عن طريق مَنْ أُخِذ عنهم.

والملاحظ أنّ الإسرائيليات دخلت كُتُب التفسير من خلال الموضوعات التالية:

1-         قصص وأخبار الأنبياء السابقين خصوصاً أنبياء بني إسرائيل (وقصة داود 7 مع أوريا واحدة منها).

2-         قصص وأخبار الأُمم السابقة.

3-         قصص وأخبار الغيب عن الملائكة والعرش والجنّة والنار والقيامة وعلامات الساعة كالمسيح والدجّال وغيره.

إضافة إلى موضوعات الترهيب والترغيب الأخلاقية، ولولا تساهل المفسِّرين في ذكر الإسرائيليات لما تعرّض النبيّ داود 7 وغيره إلى تلك الطعون في شرفه وسُمعته وسلامة دينه ونزاهة أخلاقه واستقامة سلوكه.

رُوِي عن الإمام عليّ 7 أنّه قال: «لا أوتى برجل يقول إنّ داود ارتكب فاحشة إلّا ضربته حدّين: أحدهما للقذف (الاتّهام كذباً)، والآخر لأجل النبوّة»[36].

هذا على صعيد الروايات السخيفة المتجنّية وغير الراعية لأبسط قواعد التأدُّب في التعامل مع سِيَر وتراجم الأنبياء :، ولم يسلم داود النبيّ 7 من رواة التاريخ غير المدقِّقين وغير المحقِّقين في ما يقولون وينسبون.

في كتاب (قصة الحضارة) لـ(ول ديورانت) الذي أوجزه (د.غازي طليمات) وفي الجزء الأوّل من (الوجيز في قصة الحضارة)، ص102 – 103 ورد ما يلي: «أمّا داود قاتل (جالوت) فقويٌّ عارم الحيوية، متناقض الأخلاق، وخيرٌ منه ابنه (سليمان الحكيم) مُعلِّم القانون، ومُتخذ أورشليم عاصمة له، ومُنشِّط التجارة، والفحل المزواج، والمُسرف في جميع الضرائب لبناء الهيكل في أورشليم بأموال يهودية، وفنٌّ فينيقي، وبعد أن انتهى الهيكل أعجب به اليهود، واغتفروا لسليمان استبداده وكثرة نسائه»!!

وديورانت الذي يحاول الوقيعة التاريخية بين نبيّين عظيمين، ومَلكين ملكا أنفسَهما قبل أن يملكها المُلك ويُفاضل بين النبيّ الأب والنبيّ الابن مفاضلة وقحة وسيِّئة للإثنين، يصف داود 7 بـ(مُتناقض الأخلاق) حتى تبدو شخصيته للقارئ رجراجة لا تستقيم على مبدأ ثابت، فإذا صدر عنه حادث كقتل أوريا والزواج بزوجته قبل مقتله ولتحمل منه سفّاحاً – بحسب الرواية الإسرائيلية النكراء – فلا يستغرب، لأنّ الشخصية المتناقضة الأخلاق شخصية ازدواجية يمكن أن يصدر عنها الخير ويمكن أن يصدر عنها الشرّ، وبذلك لا يُبقي هذا المؤرِّخ الذي يُؤرِّخ للحضارة الإنسانية شيئاً حضارياً وقيمياً للنبيّ داود 7، بل نراه وهو يُقيِّم ابنه سليمان 7 ويقول عنه بأنّه (خيرٌ منه) وأنّه مُعلِّم القانون والمُنشِّط للتجارة، يعرج إلى القدح والطعن في شخصية النبيّ الابن أيضاً حينما يصفه بـ(الفحل المزواج) على ما في هذا الوصف من استغراق في الجنس والشهوانية والحيوانية، وبأنّه (المسرف في جميع الضرائب)، والإسراف صفة مناقضة للعدل، فكيف يكون نبيّاً ويكون مُسرفاً؟!

والغريب أنّه يتناغم مع النظرة الإسرائيلية لشخصية سليمان 7 الذي وصفته بأنّه ارتكب الخطايا ثمّ تاب منها وألّفوا كتاباً منسوباً إليه (نشيد إنشاد سليمان) كما هو اسمه بالعبرية، و(نشيد الإنشاد) كما هو مُعرَّب بالعربية فهو مما يأنف كاتب يحملُ شيئاً من الأخلاق أن يقوله، فما بالك بنبيّ عظَّم الله شأنه ورفع مقامه؟! ولكنه – كما غفرت الإسرائيليات فعلة داود بزوجة أوريا بطريقتها الإسفافية – فغفرت لسليمان إسرافه في الضرائب بطريقتها الإنتقائية الفجّة، فسليمان الذي بنى الهيكل لليهود (وفي الروايات أنّ لا صحّة للهيكل) حمل اليهود على الإعجاب بهيكله فاغتفروا استبداده وكثرة نسائه؟! وإذا كان إثنان من أعاظم أنبياء بني إسرائيل قد تَعرَّضا إلى ما ذكرناه وإلى غيره مما لم نذكره، فمن الطبيعي أن يتعرّض نبيّ الإسلام محمّد 6 إلى حملة يهودية إسرائيلية شنعاء وشعواء في تشويه صورته ونسبة ما لا يصحّ نسبته إليه، لا في حياته فحسب، بل إلى يوم الناس هذا.

من هذه الخاتمة المؤسفة التي نختم بها لحياة نبيٌّ (عالم) و(مُعلِّم) و(قاضٍ عادل)، حكم الإمام عليّ 7 وقضى ببعض أقضيته، وسيحكم آخر المصلحين منقذ البشرية من ضلالها بطريقته في الحكم والفصل والقضاء، حيث لا يحتاج إلى بيِّنة لأنّ الله يُلهمه الصواب وفصل الخطاب، فإنّنا نربأ بوعي القارئ الكريم والمسلم الذي يَتحصَّن بثقافة قرآنية رائدة تُعلِّمه كيف يتبيّن الأخبار والأنباء ويتحرّى صحّتها ودقّتها من قبل أن يصيب قوماً بجهالة، أن يكون أكثر وعياً وحسّاسية إزاء ما يُقال عن رُسُل الله وأنبيائه والقادة المخلصين المصلحين من السائرين على خطاهم. وأن نتذكّر ما قاله الإمام عليّ 7 في حقّ مَنْ يقول إنّ داود 7 ارتكب فاحشة أنّه يُضرَبُ حدّين: أحدهما (للقذف) وهو الاتّهام زوراً وكذباً وبهتاناً، والآخر لأجل النبوّة.

وإذا لم تكن لدينا هذه الصلاحية، ففي الحدّ الأدنى أن لا نكون ممّن يُروِّج لهذه الأباطيل لمجرّد أن بعض كُتب الروايات أو التفسير أو التاريخ ذكرتها في مطاويها.

-وَآخِرُ دَعْوَانا أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ-

 


[1] - بحار الأنوار، المجلسي، ج3، ص439.

[2] - نفس المصدر.

[3] - أنبياء الله، أحمد بهجت، ص280.

[4] - كنز العمال، المتقي الهندي،32322.

[5] - يعني أعبد البشر في زمانه، وإلّا ففي الآثار الدينية النبيّ 6 هو أعبد الناس.

[6] - أمالي الصدوق، الشيخ الصدوق، 164.

[7] - الخصال، الصدوق، 284.

[8] - بِيَع: هو بيت عبادة اليهود والنصارى.

[9] - روضة الواعظين، 505.

[10] - بحار الأنوار، 14/ 40.

[11] - نفس المصدر، 14/ 23.

[12] - أمالي الصدوق، 251.

[13] - قصص الأنبياء، 198.

[14] - أنبياء الله، أحمد بهجت، ص282.

[15] - من طريف ما يُروى هنا، أنّ امرأة دخلت على قاضٍ وكان في مجلسه أحد الأصدقاء، وكانت المرأة تبكي مولولةً ومعولة، فقال ضيف القاضي وصديقه: يا لها من امرأة مظلومة. فقال القاضي: لا تعجل بالقضاء لها، فإخوة يوسف جاءوا أباهم عشاءً يبكون!!

[16] - عيون أخبار الرضا، ص278.

[17] - مَنْ لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق، ج3، ص24.

[18] - نفس المصدر.

[19] - نفس المصدر، ج2، ص386.

[20] - مَن لا يحضره الفقيه، 3/ 162.

[21] - نهج البلاغة، الحكمة 23.

[22] - غرر الحكم، 1924.

[23] - الحديد – كما في الموسوعة الحرّة – في مادّته الخام، إمّا (مطاوع) أو (صلب) والصلب هو الذي تضاف إليه عناصر كيميائية أخرى كالكربون والمنغنيز ليزداد صلابة، ويمكن أن يتحوّل إلى مُنتج أقوى بكثير عن طريق تسخينه في وعاء ومن ثمّ غمره في الماء حتى يخمد، أي أنّ هناك (الحديد الخام) وهناك (تعدين الحديد) وتشكيله بالكيفية المرادة أو المطلوبة. والقرآن شديد الوضوح في أنّ الحديد كان موجوداً كمادّة خام قبل داود 7. يقول تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾ (الحديد/ 25). وقيل في معنى (الإنزال) أنّه أنزل من السماء إلى الأرض عبر النيازك، وذلك خلال فترات تكوين الأرض. وكلمة (حديد) في اللغات القديمة تعني فلزاً من السماء.

 

[24] - الخصال، الصدوق، 448.

[25] - بحار الأنوار، الباب: 14/ 17.

[26] - كنز العمال، المتقي الهندي: 32322، 32323.

[27] - المصدر السابق نفسه.

[28] - عشّار: يأخذ أعشار المال وهو المكّاس.

[29] - عريفاً: يتجسّس على أحوال الناس.

[30] - شرطياً: من أعوان الحاكم الظالم.

[31] - عرطبة: طبل.

[32] - كوبة: طنبور.

[33] - نهج البلاغة، قصار الحكم، 99.

[34] - ملخص الإصحاح الحادي عشر والثاني عشر من صموئيل الثاني.

[35] - تفسير الميزان، ج1، ص240.

[36] - التبيان في تفسير القرآن، الطوسي، ج8، ص554.

ارسال التعليق

Top