◄حين نعيش مع كتاب الله بعقولنا وقلوبنا في جو من التذكُّر والتدبُّر: نزيل ما يمكن أن يكون من حواجز، نفتح تلك العقول والقلوب للآية من آيه، تشرق بها معانيها، تضيء جنباتها، تلملم شعثها، تعطيها، تمدها بالعلم والمعرفة والفهم عن الله عزّوجلّ، والإخلاص في التوجه إليه آناء الليل وأطراف النهار... حين نفعل ذلك، تتغير الملامح، وتتضح الرؤية، والصور التي تكون مهزوزة عند البعض: تأخذ طريقها إلى الوضع السليم.. حيث يجد المسلم أنّ بينه وبين القرآن نسباً أكرِم به من نسب، وصلة قربى أعظِم بها من صلة.
فهو معه في حياته الفردية بينه وبين نفسه: في مشاعره، في أحاسيسه، في أشواقه وتطلعاته. وهو معه فيما بينه وبين مولاه عزّوجلّ، وهو معه في علاقته بأسرته وأهله، وفي علاقته بالناس والمجتمع، وفي سلامة انتمائه إلى الأُمّة... ما كان من ذلك في شؤون دينه ودنياه، وما كان من أمر يومه وغده، وما به يكون وجوده الحقيقي بوصفه إنساناً صاحب رسالة.
وهناك يقطع رحلة الحياة بطمأنينة، يزرع طريق البناء أملاً، ويتجه إلى المستقبل وجهة الاستقرار النفسي والحزم والوثوق.. كلّ ذلك لأنّه حين كان مع القرآن، كان مع الحياة، وكان مع العلم والبناء، وكان مع الطمأنينة والأمل.
ذكرت ذلك وقد أسعدتني نظرات في واحد من المعالم القرآنية التي شاء الله أن تضيء دروب هذه الأُمّة وهو ما نقتبسه من قوله تعالى: (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (الأنفال/ 24).
فالمؤمنون – كما هو نص الآية – مأمورون بالاستجابة إلى ما يدعوهم إليه الله ورسوله، وهو ما به حياتهم ووجودهم الحقيقي، وهل ذلك إلّا الإسلام، أجل إنّه دعوة الحياة، والاستجابة لهذه الدعوة واجب حتمي لا مناص منه.
ولكن ما هي أبعاد هذه الحياة، وأي جانب من جوانبها هو المقصود؟ الواقع أنّ تعبير "ما يحييكم" يفيد العموم، ويتخطى أن يكون لجانب من هذه الجوانب، بل إنّه الحياة في كلّ الميادين بدءاً من القلب والعقل كما ترسمها رسالة الإسلام لا كما يرسمها الشيطان ومرضى القلوب؛ فهي الحياة في بناء الفرد بعقله وقلبه على الإيمان الخالص والصدق المكين، وتنمية قدراته وكفاءاته، وهي الحياة في بناء الجماعة، بحيث تكون كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، تآخياً على الخير. وتعاوناً على البر والتقوى، وتآزراً واعياً على تحقيق القوّة والمنعة دنيا وديناً، والحياة في بناء المجتمع عموماً ثقافة وعلماً وتقنية وحراسة بالأخلاق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإعداداً دائماً للجهاد في سبيل أداء الرسالة ونشر الدعوة، وبناء حضارة الإنسان.
وهذا الذي نقول: قد أيده الواقع يوم كنّا على جادة الاستجابة، فقد شهد التاريخ آثار ذلك في المجتمع الإسلامي القدوة في المدينة، بل شهده في كلّ الديار والأمصار التي وطئتها أقدام الدعاة الفاتحين، شرقاً وغرباً، والسمة الحضارية التي تركت بصماتها في كلّ أرض دخلها الإسلام واضحة لكلّ ذي عينين – ولكن أين المنصفون؟.
والمطلوب من الأُمّة اليوم أن توقن يقيناً لا شك معه، أنّ الإسلام الذي تنتسب إليه هو في حقيقته دعوة الحياة في كلّ الميادين في الفرد والجماعة، في المسجد، والمدرسة والجامعة، والمصنع والسوق، في العلاقات الداخلية والخارجية، في السلم والحرب، وما يكون بينهما، وأن تطرح وإلى الأبد خرافة التجافي بين الإسلام والحياة، وتلك المعادلة الضالمة الجائرة، التي تقول: إما الإسلام وإما العلم والتقنية والبناء والتنمية؛ وبذلك ترد كيد الأعداء إلى نحورهم، وتكون لها الكلمة في خاتمة المطاف لأنّها مع الحياة القرآنية التي رسمت أبعادها دعوة الحياة. وقد يزداد الأمر وضوحاً إذا ذكرنا أمرين:
أوّلهما: أنّ قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا) (الأنفال/ 24). هو من سورة الأنفال، سورة الجهاد وتقعيد القواعد الراسخة لبنية المجتمع الإسلامي في مواجهة الحياة، كي يكون سليماً معافىً في أداء رسالته على ميدان الصراع بين الحقّ والباطل.
والثاني: ما جاء بعد هذه الآية من النذارة الشديدة إن وقعت المخالفة وهو قوله جلّ وعزّ: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (الأنفال/ 25).►
المصدر: كتاب بناء الأُمّة ومواجهة التحديات
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق