• ٢٤ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٥ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

دليل الأخلاق في القرآن

أسرة البلاغ

دليل الأخلاق في القرآن

على طريقة (الضدّ يُظهر حسنه الضدّ)، ولأجل تجلية قيمة كلّ خلق حميد، نرى أنّ من الأفضل هنا أن نعقد مقارنة بين محاسن الأخلاق (الأخلاق الحميدة) وبين مساوئ الأخلاق (الأخلاق الذميمة)، حتى يتبيَّن مدى الحُسن في الأولى ومدى القُبح في الثانية، ويتحقَّق الانجذاب إلى الأولى والنفور من الثانية.

دليل الأخلاق:

أ- التحية المعبِّرة عن الحبّ والسلام:

قال تعالى: (وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا) (النِّساء/ 86).

التطبيق الحياتي: هذه طريقة ربّانية للتجاوب والتفاعل مع المبادرات الإنسانية، فإذا حُيِّيتَ بتحيّة، فعليكَ أن تردّها بتحيّة مماثلة أو أحسن منها؛ لأنّها بادرة حبّ وعطف لابدّ أن تُقابل بحبٍّ وعطفٍ مساويين أو أكبر ممّا يُظهره الآخر.. إنّها رسالة حبّ وجوابها. إنّها نفحة من نفحات المحبّة يمكن أن نعيشها على الأرض. هناك يستقبلنا الملائكة بإذن الله بالقول: (سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ) (الزُّمر/ 73).

- التحية المُسيئة:

قال تعالى: (وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ) (المجادلة/ 8).

التطبيق الحياتي: هذه تحيّة الخُبث والعداوة، كما سلَّم اليهود على النبيّ (ص) بقولهم: السّام عليكَ يا أبا القاسم، والسّام هو الموت، فأجابهم: وعليكم، وربّما نستوحي من ذلك أنّ تحيّة الإسلام هي السلام عليكم، وليس ما تعارف عليه الناس اليوم من تحايا أجنبية غريبة قد تحمل بعض اللّطف لكنّها لا تحمل معنى السلام.

ب- الإعراض عن اللّغو:

قال تعالى في صفة المؤمنين: (وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ) (المؤمنون/ 3).

التطبيق الحياتي: اللّغو: ما لا فائدة فيه من الكلام.

المؤمن، وهو الإنسان الصالح، يرى أنّ للحياة معنى وهدفاً، فهو يتحرّك باتّجاه هدفها، ويحاول أن يحقِّق لها معناها، فلا مجال لديه للّغو الخالي من أيِّ نفع.  

- الخوض مع الخائضين:

قال تعالى في صفة الكافرين: (وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ) (المُدِّثر/ 45).

التطبيق الحياتي: الخائض: الماشي في الوحل أو الماء.

هذا سبب من أسباب الدخول إلى النار، وهو أن تُجمِّد عقلك فتخوض مع الشرذمة (أو الثُّلّة) أو الجماعة في أحاديث اللّغو واللّهو والطعن والاستخفاف والثرثرة والاستغراق في المحرَّمات، ممّا يؤكِّد مجدّداً ضرورة اختيار الجماعة الصالحة.

ت- الصِّدق:

قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) (التوبة/ 119).

التطبيق الحياتي: الصادق: القائل بالحقّ، العامل به.

هي دعوة للانتماء إلى المجتمع الصالح الذي تكون فيه جزءاً من كلٍّ، وتتحوّل فيه إلى عضو عامل في جسم متكامل، ليتحقّق الانسجام بين (إيمانك) وبين (حياتك).

عش مع الصادقين تكن صادقاً، فإذا لم تكن منهم فتشبّه بهم، فالتشبّه بالصادقين فلاح.

- الكذب:

قال تعالى: (إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ) (النحل/ 105).

التطبيق الحياتي: الذي لا يستند إلى قاعدة إيمانية ليس لديه ما يمنعه من الكذب بما يُمثِّله الكذبُ من العلاقة مع الباطل والتزوير وتشويه الحقائق.

سُئِل النبيّ (ص): هل يزني المؤمن؟ قال: قد يكون ذلك، قيل: هل يسرق المؤمن؟ قال: قد يكون ذلك، قال: هل يكذب المؤمن: قال: لا. ثمّ أتبعها: (إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ).

ث- العدل:

قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (المائدة/ 8).

التطبيق الحياتي: لا يجرمنّكُم: لا يدخلنّكم في الجُرم.

العدل شعارُ الإسلام في الحياة، وهو أن تلغي نوازع الانحراف من شخصيّتك، فبغض الآخر وعداوته (إلّا مَن عَودِيَ في الله) لا ينبغي أن يحملك على اللّجوء إلى الظلم أو الباطل لتماثله في الظلم، فالعدل يلتقي مع التقوى في مراقبتك لربِّك، فلا يجعلك تنفعل انفعالاً سلبياً، قال الشاعر:

ما زالَ يظلمُني وأرحمهُ  **** حتى بكيتُ له من الظُّلمِ

- الظلم:

قال تعالى: (قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) (الأنعام/ 135).

التطبيق الحياتي: كلُّ إناء بالذي فيه ينضح، فإذا كان خُلْق الآخر الظلم، فحسبي أنّ خصمني أو عدوِّي ابتُليَ بالقبيح الذي أربأ بنفسي أن أكونه أو أشاكله، فإذا كان هو يُفكِّر باللحظة الآنيّة، فأنا أرمي بنظري نحو المستقبل: (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ).

ح- الإصلاح:

قال تعالى: (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الإصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ) (هود/ 88).

التطبيق الحياتي: نحنُ هنا (في الحياة) لنبني لا لنُهدِّم، وإذا تصدَّع البناء بادرنا إلى إصلاحه وترميمه فلا نتركه يتداعى أو ينهار. وعليه فالإصلاح من حقوق المؤمنين بعضهم على بعض، وهو مسؤولية اجتماعية كلٌّ منّا معني بها. والإصلاح - بعد ذلك - خطّ عام في الحياة لا يتحدَّد بإصلاح العلاقات الإخوانيّة فحسب.

- الإفساد:

قال تعالى: (وَلا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا) (الأعراف/ 56).

التطبيق الحياتي: الإفساد عدوان على الحياة، تخريب لها، إرجاعها إلى عهود الظلام والجهل والتخلّف، فالحياة مُعدّة إعداداً صالحاً ليتربّى ويتفاعل فيها أبناء المجتمع الصالح، ولذلك كانت واحدة من كبريات مهمّات الأنبياء (عليهم السلام) هو محاربة الفساد وإشاعة الإصلاح. 

ج- الاعتدال والوسطية:

قال تعالى: (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا) (الإسراء/ 29).

التطبيق الحياتي: خير الأُمور أوسطها، فلا بُخل ولا تبذير، ولا جُبن ولا تهموّر، ولا إفراط ولا تفريط، فالدِّين يقوم على (العدل) و(الاعتدال)، فلا غلوّ ولا تطرّف، وإذا كان شيء من ذلك فهو من غير النهج الإسلامي، فديننا دين التوازن، يقول تعالى في صفة (عباد الرحمن): (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) (الفرقان/ 67).  

- الإسراف والتبذير:

قال تعالى: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الأعراف/ 31).

التطبيق الحياتي: الإسرافُ حالةٌ شاملة، وليس المالُ مجالها الوحيد، والله تعالى يوجِّه الإنسان في حياته لما فيه الخير والمصلحة، فأيّ إسراف مالي أو عملي هو ضررٌ وإضرار، ولا ضَرَرَ ولا ضِرارَ في الإسلام، فكلّ شيء يمكن الانتفاع به - ولو مستقبلاً - يجب أن لا يُطرح مع المهملات.

إنّ فقدان محبّة الله ليس أمراً هيِّناً، ففقدان الحياة أسهل وأهون منه، أيعلمُ المُسرفُ أنّه لا يُفرِّط بالمال وحده، بل بحبِّ الله أيضاً؟!

خ- التعاون على البرّ والتقوى:

قال تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى) (المائدة/ 2).

التطبيق الحياتي: حملُ الحياة ثقيل ولا يخفّ أو يسهل حمله إلّا بالتعاون، والبرّ هو خير الحياة، والتقوى هي خير الآخرة، وإن كان كلاهما يتفاعلان في حياة الناس لتكون الأفضل. ونظرة إلى تاريخ الإنسانية في رقيِّ فكرها الحضاري وعطائها العلمي، تكشف عن ثمار التعاون الجنيّة ونتائجه المباركة الطيِّبة، وإنّ الأعمال الجبّارة الضخمة كانت ثمرة جهود متضافرة. 

- التعاون على الإثم والعدوان:

قال تعالى: (وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ وَالْعُدْوَانِ) (المائدة/ 2).

التطبيق الحياتي: شتّان بين تعاونين، تعاون للبناء وآخر للهدم، تعاون بين القوى الخيِّرة، وتعاون القوى الشرِّيرة، تعاون لإثراء الحياة، وتعاون لإفسادها، وإنّما سُمِّي الثاني تعاوناً لأنّه تضافر لجهود الباطل في مواجهة الحقّ.

د- الرحمة:

قال تعالى: (ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ) (البلد/ 17).

التطبيق الحياتي: هذه هي إحدى خصال (أصحاب الميمنة) الذين جعل اللهُ لهم المرتبة الرفيعة من خلال عُمق إيمانهم، وصدق التزامهم، وثبات مواقفهم في خطِّ رضاه.

هم (رحماء) بينهم ومتواصلون بالرحمة للسيطرة على نوازع الأنانية ومشاعر القسوة، وتلك روحية الإحساس بحاجة المجتمع إلى اللّطف، وتقدير نقاط ضعفه، والتعاون معه على تجاوزها، بالتكافل تارة، وبالتكامل تارة، وبحُسن التعامل في جميع الأحوال. ورد في الحديث النبويّ: "ارْحَم مَن في الأرضِ يَرحمك مَن في السماء". وعن الإمام عليّ (ع) "مَن لانَ عودُهُ كثفت أغصانه".  

- القسوة:

قال تعالى مخاطباً نبيّه الكريم (ص): (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) (آل عمران/ 159).

التطبيق الحياتي: فظّاً: خشن المعاملة، سيِّئ الخُلق. غليظ القلب: قاسٍ.

كما أنّ النفس مجبولة على حُبِّ مَن أحسنَ إليها، كذلك هي مجبولة على النفور لمن يُسيء إليها،

فالرحمةُ جامعة: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ) (آل عمران/ 159).

والقسوة مفرِّقة: (لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ).

ولكن لابدّ من التنويه هنا إلى أنّ الشدّة أو القسوة مع الكفّار مطلوبة، قال تعالى: (مُحمَّدٌ رَّسُول اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) (الفتح/ 29).

ذ- الوفاء بالأمانة والعهد:

قال تعالى في صفة المؤمنين: (وَالَّذِينَ هُمْ لأمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ) (المعارج/ 32).

التطبيق الحياتي: حفظ الأمانة، دماءً، أموالاً، أعراضاً، مسؤوليتك بين يدي الله، فهو واجب شرعي أوصت به الشريعة، والتزام ذاتي بما ألزمتَ به نفسك من الوفاء للآخرين. وعهدك كأمانتك مسؤوليتك أمام الله والناس، فإذا حفظتَ الأمانة أشَعْتَ (الثقة)، وإذا حفظتَ العهد أشَعْتَ الاستقرار، والإيحاء في كلمة (رعاية) دالّ على أنّ المطلوب هو أكثر من عملية حفظ الشيء، بل هناك عناية خاصّة للاهتمام به. 

- خيانة الأمانة والعهد:

قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (الأنفال/ 27).

التطبيق الحياتي: الخيانة هي نقض الأمانة، فالذي يخون الأمانة وينقض العهد، ما الذي يمكن أن تتوقّعه منه؟ هل هناك ما يمكن أن يوثق به غير ذلك؟

إنّ (الأمانة) مُشتقّة من (الإيمان)، فإذا خنتَ ضيَّعتَ إيمانك، وإذا لم تكن أهلاً للثقة والمسؤولية فأنتَ منفصلٌ عن أهل الإيمان حتى ولو عِشْتَ بينهم.

ر- التواضع:

قال تعالى: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا) (الفرقان/ 63).

التطبيق الحياتي: جميلٌ بالإنسان التواضع، فهو أليَقُ به، فليس هناك شيء يمكن أن يجعلك تتكبّر على الناس؛ لأنّ كلّ ما عندك هو من الله، فإذا خفّضت الجناح، ولم تُصعِّر خدّك للناس، ولم تمشِ في الأرض مرحاً، رفعك الله: "مَن تواضع للهِ رفعه".

الأنبياء (ع) عندهم من المعجزات والكرامات ما ليس عند الناس، ولكن تراهم أكثر الناس تواضعاً، فهلّا تكون لنا فيهم أُسوة حسنة؟!

إنّ التواضع ليس في القصد (الاعتدال) في المشي، بل بالسلوك العملي أيضاً. 

- التكبّر:

قال تعالى: (وَلا تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولا) (الإسراء/ 37).

التطبيق الحياتي: مشية الخيلاء تعبير عن حالة الخواء، وإلّا فالسنابلُ الملأى هي التي تنحني.

هنا سخرية إلهية لاذعة من المتكبِّر: أستزيدك هذه المشية المستكبرة طولاً يعلو على طولك الطبيعي، أم ستخرق ضربات قدميك المزهوّة الأرض؟! كُن عاقلاً وارجع إلى نفسك، إنّ ذلك لن يكون.

تريد أن ترتفع؟ ارتفع إيمانك وعلمك وعملك وأخلاقك، فهذا هو الذي يمكن لك. 

ز- الإيثار:

قال تعالى: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الحشر/ 9).

التطبيق الحياتي: ليس شيء في القرآن اسمه حالة تاريخية، فكلّ حالة تاريخية هي حالة حياتية، كما وقعت في الماضي، يمكن أن تقع في المستقبل. فما عمله (الأنصار) مع (المهاجرين) يمكن أن يعمله أيُّ مؤمنٍ يؤمنُ بأنّ ما في يدِ الله أوثق ممّا في يده.

إنّ التنازل عن بعض الحاجات قد يُشعرك بالحرمان، لكنّك إذا عشتَ روحية إيجاد الاكتفاء لأخيك، وجدتَ أنّ روحية البَذل والعطاء أكبر أثراً في النفس من الحرمان المادّي.

كان يمكن لعليّ وفاطمة (ع) أن يأكلا بعض أقراص الخبز ويتبرّعا ببعضه، لكنّ إحساساً بالشبع الروحي، وإحساساً بالامتلاء النفسي، هو ما كانا يريدانه! 

- الأنانية:

قال تعالى: (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (آل عمران/ 180).

التطبيق الحياتي: الأنانية هي التقوقع داخل الذات، فلا يرى صاحبها غيرها، فهو غير مستعد أن يُقدِّم لقمة لإنسان يتضوّر من الجوع، وقد يكون عنده ما يفوق حاجته ويسدّ حاجة الجائع.

إنّ الأناني البخيل يشعر بقيود تُقيِّده من الداخل فتحجبه عن العطاء، وقيوده هذه سيُطوّق بها في الآخرة، أي إنّه هو الذي يكون قد صنع أغلاله بيده.  

ش- الأمل:

قال تعالى: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (الزُّمر/ 53).

التطبيق الحياتي: (ما أضيَق العيش لولا فسحةُ الأمل).. إنّ الآية المتقدِّمة طافحة بالأمل، معبَّئة بالرحمة، مليئة باللّطف، فالمُسرفُ على نفسه بكثرة معاصيه قد يصل إلى حافّة اليأس، وقد يقع في مستنقعه، فإذا ما امتدّت إليه يد الرحمة لتنتشله بنداء (إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا) (الزُّمر/ 53)، فأي أمل تشيعه في نفسه، وأيّ رجاء تبعثه في وجدانه، وأيّ سلام يلفّ كيانه.

إنّها يد الرحمة تمتدّ لتنتشل الغريق الذي أوشكَ أن يستسلم للهلاك.  

- اليأس:

قال تعالى: (لا يَسْأَمُ الإنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ) (فصلت/ 49).

التطبيق الحياتي: الأيّام مداولة، وثبات الحال من المحال، فالذي أعطاك قبل أن تعيش العَوَزَ والحاجة، هو نفسه الذي لم يزل يمتلك أسباب الرزق والصحّة والأمن، فإذا انقطع ما في اليد، بقيَ حبل الرجاء متّصلاً بالسماء.

فيعقوب لم ييأس من عودة يوسف (ع)، وهذا هتافه يملأ سمع الزمن: (يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) (يوسف/ 87).

وهذا (يونس) في بطن الحوت يظنّ أن لن يُقدر (يُضيِّق) الله عليه، وهذه (هاجر) تسعى بين الصفا والمروة سبعة أشواط، وفي كلِّ شوط تتوقّع الماء.

إنّ ما هو أشدّ من (الفقدان) اليأسُ من رحمةِ الرحمن الرحيم.

ص- العفّة والاستعفاف:

 (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ) (النُّور/ 30).

التطبيق الحياتي: علاقة المرأة بالرجل وعلاقته بها محكومة بضوابط شرعية تمنع إثارة الشهود الجنسية في غير إطارها الصحيح، فالمراد للعلاقة – خارج إطار الزوجية – أن تكون عفيفة نظيفة يضبطها الجانب الخُلُقي لكلٍّ منهما.

والعفة مطلوبة من الاثنين: المرأة في عدم إظهار زينتها؛ لئلّا تثير غريزة الرجل، والرجل في غضِّ بصره حتى لا يحقِّق للإثارة هدفها.

إنّها احتراز أو اجراء وقائي لحماية الطرفين من نتائج الإغراء والإثارة. ومَن لم يجد ما يعفّ به فرجه فليستعفف: (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) (النُّور/ 33).    

- الفجور:

قال تعالى: (وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ) (الأنعام/ 151).

التطبيق الحياتي: كلّ الشذوذ الجنسي: زنا، لواط، سحاق، اتّخاذ (الصديق الذكر والصديقة الأنثى) هو من الفاحشة التي تعدّ عملاً شنيعاً مستقبحاً؛ لأنّه خروج عن النظام الطبيعي للعلاقة التي قنّنها الله في إطار الزوجية هي أبعد من حدود إطفاء الشهوة.

يقول الإمام عليّ (ع): "ثمرةُ العفّةِ الصيانة".    

ض- الصبر:

قال تعالى: (وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمورِ) (لقمان/ 17).

التطبيق الحياتي: لا تدرك ما تحبّ إلّا بصبرك على ما تكره، ففي الصبر على ما تكره خيرٌ كثير، والصبرُ خيرُ مركَبٍ، وهو أعون شيء على دهرك. وهو مطيّةٌ لا تكبو، وصبرك يرغمُ أعداءك، ويهوِّن في نفسك.

وباختصار، مَن لا بصرَ له لا دينَ له. وقديماً قيل: "مَن صبرَ ظفر، ومَن لجّ كفر".

إنّ الصبر لا يعني الاستسلام والوقوف مكتوف الأيدي، بل يعني الجَلَد والتحمّل لحين انفراج الأزمة.

- الجزع:

قال تعالى: (إِنَّ الإنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا) (المعارج/ 19-20).

التطبيق الحياتي: المصيبة للصابر واحدة وللجازع اثنتان، فالجزع يقطع الأمل، ويُضعف العمل، ويورث الهمّ، والمخرج في أمرين: ما كانت فيه الحيلة فالاحتيال (أي التدبير)، وما لم تكن فيه حيلة، فالاصطبار، وقال المجرِّبون: إنّ الجزع أتعب من الصبر، فالجزع لا يدفع القدر، ويحبط الأجر.

ط- كظم الغيظ:

قال تعالى: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (آل عمران/ 134).

التطبيق الحياتي: كَظَمَ القِرْبَةَ: أمسكَ فوهتها لئلّا يندلق الماء أو اللّبن الذين في داخلها.

أقوى الأقوياء الذي يغلب حلمُه غضبَه: فليس الشديد بالصُّرَعة (المصارع القويّ)، إنّما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب، فمَنْ كظم غيظاً وهو يقدر على إمضائه (تحقيقه في الخارج)، حشا الله قلبه أمناً وإيماناً يوم القيامة.

والإمام زين العابدين صاحب تجربة في هذا الباب، اسمعه يقول: "ما تجرّعتُ جرعةً أحبَّ إليَّ من جرعة غيظ لا أكافي بها صاحبها".

وكان ممّا أوحى الله تعالى به إلى داود (ع): "إذا ذكرني عبدي حين يغضب، ذكرته يوم القيامة في جميع خلقي، ولا أمحقه فيمَن أمحق".   

- الغضب والغيظ:

قال تعالى: (وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) (الشورى/ 37).

التطبيق الحياتي: الغضب مفتاح كلّ شرّ، فحينما نصح رسول الله (ص) رجلاً بأن لا يغضب، علم أنّ الغضب يجمع الشرّ كلّه، وما منّا إلّا وجرّب الغضب فلقي منه أسفاً؛ لأنّه يثير كوامن الحقد، ويُبدي معايب صاحبه، فهو جمرة من الشيطان وضربٌ من الجنون، ومَن لم يملك غضبه لم يملك عقله، ولذلك فالغضب يُفسِد الإيمان كما يُفسِد الخلُّ العسل.

ظ - الزُّهد:

قال تعالى: (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ) (الحديد/ 23).

التطبيق الحياتي: يقول الإمام عليّ (ع) في استيحائه لمعنى الزُّهد من هذه الآية: "الزّهدُ كلمةٌ بين كلمتين، بمعنى القرآن، قال الله سبحانه: (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ)، ومَن لم يأس على الماضي، ولم يفرح بالآتي، فقد أخذ الزهد بطرفيه".

- الأسى على ما فات:

قال تعالى: (لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ) (آل عمران/ 153).

التطبيق الحياتي: البكاء على الحليب المُراق لا يجدي نفعاً في عودته للكأس ثانية، وضرب الرأس بالجدار لا يُسبِّب إلّا الصِّداع والألم، ولذلك يريدك الإسلام أن لا تسقط أمام التجربة المرّة بالحزن العاطفي، فالهزيمة أو الفشل ليستا نهاية المطاف، وليس العظيم الذي لا يسقط أبداً، بل العظيم الذي إذا سقط نهض مرّة ثانية.

ارسال التعليق

Top