هذا ما يقرّه علم النفس الحديث، ولذا تسعى الكثير من مناهج علم النفس إلى تغيير أفكار الإنسان عن الحياة، عن الماضي، عن المستقبل، عن نفسه وعن الآخرين، بغية حل الإشكالات النفسيّة وإزالة أسباب التشاؤم أو الخوف أو القلق (1).
يقول مايكل أرجايل: "يمكن تخفيف الإكتئاب – وهو من الشعور بالتعاسة – بطرق علاجية مختلفة لنجعل الناس ينظرون نظرة أكثر إيجابية للأُمور ويقيمون أنفسهم على نحو أفضل دون إنتقاص، ويحدِّدون لأنفسهم أهدافاً أكثر قابلية للتحقيق، ويتخلون عن المعتقدات الخاطئة التي تؤدي إلى التعاسة.." (2).
ترى أيهما أكثر إيجابية في نظره للحياة وحوادثها.. الشخص الذي لا يؤمن، فهو يرى الحياة قصيرة والعمر يفنى والمرضى يتفشى والفرص تمر... وكلّما تقدّم يوم في حياته كلّما اقترب من نهايته... نهاية مجهولة لا يعلم ما هي ولا يدري أين ينتهي به المطاف، فهو في قلق دائم وخوف مستمر؟
هذا أكثر إطمئناناً أم المؤمن الذي يرى أنّ الكون والوجود كلّه بيد الله، وهو اللطيف بعباده وهو أرحم الراحمين، وهو الذي كتب على نفسه الرحمة، وهو الذي أرأف بعبده من الطير بفراخها؟
أيهما يشعر بالوحدة والغربة وبالتالي الإكتئاب؟ غير المؤمن الذي يعيش لنفسه في عالم يعجّ بالوحوش، ويتسابقون على المنافع والمصالح، وكلّ يريد إفتراس غيره؟
أم المؤمن الذي يسمع نداءً خفياً في داخله: (لا تحزن إن الله معنا...) (التوبة/ 40).
(.. فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (الأنعام/ 48).
إنّ غير المؤمن يرى الحياة في نقيصة مستمرة، فالشباب يبلى، والقوة تضعف، وهو في انحدار يوماً بعد يوم، أمّا المؤمن فيرى الحياة مزرعة للآخرة وإنّما (.. لَهِيَ الْحَيَوَانُ...) (العنكبوت/ 64)، فهي البقاء الأبدي السرمدي الذي لا يفنى... وأنّ المؤمن ليس وحيداً ولا فريداً، لا في هذه الدنيا ولا في الآخرة حيث يقول الباري تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ) (فصلت/ 30-31).
من هنا جاء الإيمان بالآخرة إمتداداً للإيمان بالله تعالى، ومكملاً لعقيدة المؤمن (يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ...) (آل عمران/ 114)، فلا تستقيم الأمور بلا آخرة وحساب وكتاب، لأنّ الحياة الدنيا محدودة، وقد لا يحصل المؤمن فيها على اللذة والراحة، فهناك يجزى الجزاء الأوفى حيث النعيم المقيم بما تشتهي الأنفس وما لذّ وطاب، وحيث اللقاء مع المحبوب، الخالق الكريم.
وقد يرى المؤمن أناساً قد طغوا وفسدوا وفسقوا وظلموا، ولكنهم غادروا الدنيا بلا عقاب يتناسب مع أعمالهم ولم ينتقم للمظلومين منهم، فلو لم تكن هناك الآخرة لاختل الميزان ولم يكن في الوجود حق وعدل، ولكنها الآخرة، حيث حضور الخلق كلّهم بين يدي الله، الحاكم العادل، العزيز الجبار (.. وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (الجاثية/ 22).
فإذا عَلِمَ المؤمن بأنّ الله تعالى لا يضيع عنده أجر العاملين والمحسنين والمصلحين وكل مَن أحسن عملاً، فلا يحس المؤمن بالخسران ونقصان الحياة وضياع العمر، بل إنّه يزداد يوماً بعد آخر إيماناً وتسليماً لأمر الله وحسن الظن بوعده، وبالتالي إطمئناناً إلى حسن عاقبته حيث الأمان والإستقرار.
أمّا الكافر، فإنّه يعيش حياة البؤس واليأس، حيث لا يؤمن في حياته ولا يطمئن إلى آخرته، لذا حق قول الله عليه: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) (طه/ 124)، لأنّه يحسّ يوماً بعد آخر بالضياع والخسران، فلا أملاً في ربّه ولا أُفقاً رحباً لحياته.
............................
- الهوامش:
(1) سيكولوجية السعادة، ص278.
(2) مفردات القرآن للراغب.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق