• ٢٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

دور الحج في حياتنا/ نظرة عامة

السيد محمّد باقر الصدر

دور الحج في حياتنا/ نظرة عامة

◄عندما نريد استعراض بعض معطيات الحج إلى بيت الله الحرام ينبغي لنا أن ننظر إليه كمجموعة كاملة أوّلاً، ثمّ نلاحظ المعطيات التفصيلية لكل منسك منسك.

 

النظرة العامة...

1- تعميق الارتباط بالله: بالتركيز على ذكر الله المتواصل في أيّام الحج... فهي الأيّام التي يردد الحاج فيها كثيراً ذكر الله، ويحس بالرابطة بينه وبين الله إحساساً عميقاً. وهذا الترديد المركز سوف يترك أثره على حياة الحاج العامة ليرتبط في كلّ آن بالله تعالى يلهج بذكره، ويستشعر عظمته عند كلّ عمل يقوم به.

2- الشعور بالعمل في سبيل الله: فالإنسان الحاج في أيّام الحج متفرغ لهذه الناحية... قد أسلم نفسه وحياته بكلّ لحظاتها لله تعالى يأمره فيأتمر، وينهاه فينتهي، كلّ لحظة من هذه الأيام تصرف في سبيل الله وقربة إليه. فهو إذن يتدرب على أن يصوغ حياته كلها وفق هدى الله وأوامره، ويبتعد عن كلّ ما يصرفه عن العمل في سبيل الله. قال الصادق (ع): "إذا أردت الحج فجرد قلبك لله عزّ وجلّ – من قبل عزمك – من كلّ شاغل وحجاب حاجب، وفوض أُمورك كلها إلى خالقك، وتوكل عليه في جميع ما يظهر من حركاتك وسكناتك، وسلّم لقضائه وحكمه وقدره، ودع الدنيا والراحة"، بمثل هذا التجريد القلبي والتسليم يدخل الحاج أيّام الحج، وبمثله يخرج ليستقبل الحياة.

ولهذا فإنّ للحج إشعاعاً على عمل الإنسان بعد الحج. وقد وصف الحج بأنّه فرار إلى الله. فعن أبي جعفر (ع) في قوله تعالى: "ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين" قال: "حجوا إلى الله".

3- التضحية في سبيل الله: إذ أنّ الحج غالباً ما يرافقه بذل الجهد الكبير خصوصاً إذ كان الحاج يقصده من أماكن بعيدة، ولكن الحاج يبذل هذه الجهود مربياً نفسه على أساس أنّ في هذا البذل ربحاً لأنّه بذل (في طريق الجنة) على حد تعبير الرواية، وهذا البذل سيترك أثره بلا ريب على نفس الحاج ليسترخص الجهد في كلّ مجال يريد الله أن يكون فيه الإنسان العامل حتى ولو تطلب ذلك الجهد الكبير.

فعن الإمام الصادق (ع): "من اتخذ محملاً للحج كان كمن ارتبط فرساً في سبيل الله".

4- الغفران والتوبة: فإنّ الحج فرصة كبرى للعفو، وجو مفعم بطلب التوبة والاستغفار والرجوع إلى الصراط المستقيم.

وقد روي في ثواب الأعمال عن ابن حازم قال: "قلت لأبي عبدالله (ع) ما يصنع الله بالحاج؟ قال: مغفور والله لهم أن أستثني فيه". وعن الصادق (ع): "في سؤال موسى (ع) جبرئيل (ع) ما لمن حج البيت بنيّة صادقة ونفقة طيبة؟ قال: فرجع إلى الله عزّ وجلّ فأوحى إليه: قل له أجعله في الرفيق الأعلى مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً".

وفي الرواية عن النبيّ (ص) قال رسول الله (ص): للحج والمعتمر إحدى ثلاث خصال: إما يقال له: قد غفر لك ما مضى، وإما أن يقال له: قد غفر لك ما مضى فاستأنف العمل، وإما أن يقال له: قد حُفِظتَ في أهلك وولدك وهي أخسّهن.

وواضح ما لجو التوبة من تأثير على رسوخها في النفس والتزام النفس بمقتضياتها.

5- تمثل التاريخ الإسلامي المشرق: حيث يعيش الحاج منطلق الدعوة الإسلامية للدول، ويمر بخطواتها وأحداثها الكبرى لتبقى مرتسمة في أعماقه تشده إليها وتدفعه لاستعادة أمجادها وبطولاتها وحمل أمانتها في كلّ عصر.

6- الشعور بعظمة الإسلام: ان من يعيش عملية الحج يدرك حساً الدور العالمي العظيم الذي يستطيع الإسلام القيام به فيتأصل في نفسه الشعور بعظمة الإسلام. ويمكننا أن نقول إنّ هذا هو ما يشير إليه وصف الحج بأنّه (علم الإسلام) حيث يقول أمير المؤمنين (ع): "وجعله سبحانه وتعالى للإسلام علماً".

7- الشعور بالوحدة والأُخوّة مع الحجاج الذين لا تجمعهم لغة واحدة ولا تقاليد ولا حدود ولا مستوى ولا لون، وإنّما تجمعهم العقيدة. منطلق واحد لكل الحجاج، ومسير واحد، وهدف واحد هو التضحية في سبيل الله تعالى.

8- الفرصة المغتنمة: فالحج أكبر فرصة تتاح كي تلتقي فيها كلّ أجنحة العالم الإسلامي؛ فتتقارب مستوياتها الثقافية، ويتعرف كلّ جناح على مشاكل الأجنحة الأخرى، وتعقد المحادثات والمداولات بينهم، فالحج أكبر مؤتمر إسلامي عام.

كما أنّ الحج فرصة مغتنمة جدّاً لتوعية المسلمين على إسلامهم ونظمه وقوانينه وفضح شبهات أعدائه ومخططاتهم العامة.

 

وهكذا نجد بعد هذا انّ الحج:

دورة تدريبية كبرى للبشرية لتدريبها على العمل بأوامر الله، والتخلق بأخلاقه، والتصديق بكلمته، والسير على منهج أنبيائه، وإحراز الأرباح في متجر عبادته.

يقول الإمام أمير المؤمنين (ع) في نهج البلاغة، ص45: "وفرض عليكم حج بيته الحرام. الذي جعله قبلة للأنام، يردونه ورود الأنعام، ويألهون إليه ولوه الحمام، وجعله سبحانه علامة لتواضعهم لعظمته، وإذعانهم لعزته، واختار من خلقه سُماعاً أجابوا إليه دعوته، وصدقوا كلمته، ووقفوا مواقف أنبيائه، وتشبهوا بملائكته المطيفين بعرشه، يحرزون الأرباح في متجر عبادته، ويتبادرون عند موعد مغفرته، جعله سبحانه وتعالى للإسلام علماً، وللعائذين حرماً. فرض حقه، وأوجب حجه، وكتب عليكم وفادته فقال سبحانه: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) (آل عمران/ 97).

وتتميّز هذه الدورة التدريبية الكبرى بميزات فريدة، فهي:

أوّلاً: دورة عالمية تشترك فيها كلّ الشعوب.

ثانياً: تتناول أهم القضايا في حياة الإنسان وسيرته الحضارية فتركزها.

ثالثاً: دورة يقوم بها الناس بإرادتهم واختيارهم بأداء شعائر خُطِّطَ لها تخطيطاً دقيقاً.

رابعاً: تشترك في إنجاحها الدوافع النفسية والذكريات التاريخية المتمثلة بالأمكنة المقدسة، والزمان المقدس لأنها تقع في الشهر الحرام.

وما أن يتم الناس القيام بشؤون هذه الدورة حتى يعلن العيد... عيد الانتصار على كلّ نوازع الظلم، والفوز بكل محققات الكمال.►

 

المصدر: كتاب نظرة عامة في العبادت

ارسال التعليق

Top