• ١٨ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ٩ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

دور العبادة في العودة إلى الذات

مرتضى مطهري

دور العبادة في العودة إلى الذات

◄بنفس النسبة التي يؤدي فيها إنهماك الإنسان في الماديات إلى إبعاده عن ذاته وإلى جعله يشعر بالغربة عنها، تدنيه العبادة من ذاته وتعيده إليها. والعبادة توقظ الإنسان وتبث فيه الوعي، وتنتشل المنهمك في الأشياء كانتشال الغريق من أعماق البحر.

في ظل العبادة وفي ظل ذكر الله، يرى الإنسان ذاته كما هي في الواقع، فيتنبّه إلى نواقصه وعيوبه، ويصير ينظر إلى الوجود وإلى الحياة والزمان والمكان من الأعلى، وبالعبادة يدرك تفاهة آماله المادية المحدودة، ويتحفّز للسير وبلوغ مركز الوجود.

"يشعر الإنسان في ظل هذا الدين بضآلة الآمال والأهداف البشرية، ويدرك العظمة والجلال الكامن وراء الظواهر المتجسّدة في الطبيعة والأفكار. فتنشأ لديه هواجس توحي إليه وكأنّه يعيش في ما يشبه السجن ويريد الانعتاق من قفص البدن ليدرك الكون بأجمعه على اعتباره حقيقة واحدة".

 

ذكر الله:

تتلخص جميع الآثار المعنوية والأخلاقية والاجتماعية التي تفرزها العبادة في أمر واحد هو: ذكر الله ونسيان ما سواه. يشير القرآن إلى الأثر التربوي والروحي للعبادة بقوله: (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) (العنكبوت/ 45).

وجاء في موضع آخر: (وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) (طه/ 14).

وفي هذا إشارة إلى أنّ الإنسان حينما يقيم الصلاة يتذكّر على الدوام أنّ الذات الإلهية العالمة البصيرة تراقبه على الدوام، ولا ينسى أنّه عبد لله.

إنّ ذكر الله الذي يُعتبر هو الهدف المطلوب من العبادة، يصقل القلب ويجعله مستعداً للتجليات الإلهية. قال عليّ (ع) عن ذكر الذي هو جوهر العبادة: "إنّ الله تعالى جعل الذكر جلاءً للقلوب، تسمع به بعد الوقرة، وتبصر به بعد العشوة، وتنقاد به المعاندة. وما برح لله عزّت آلاؤه في البرهة بعد البرهة وفي زمان الفترات عباد ناجاهم في فكرهم وكلّمهم في ذات عقولهم".

بيّنت هذه الكلمات الخاصية العجيبة والتأثير العميق لذكر الله في القلوب، إلى درجة أنّها تصبح قادرة على الاستلهام ومناجاة الله.

الهدف من العبادة تجديد الحياة الإيمانية وتقويتها. وكلما أكثر الإنسان من ذكر الله، قلّت معاصيه. ليست المعصية واجتنابها منوطة بالعلم، بل منوطة بالذكر أو الغفلة، كلما ازدادت غفلة الإنسان ونسيانه، ازدادت معاصيه. وكلما ازداد ذكره لله قلّت معاصيه.

أكّد الإسلام كثيراً على العبادة التي يراد منها الذكر، باعتبارها فريضة ونافلة. كما أنّه حارب كلّ ما يقضي على روح العبادة "أي الذكر" ويتسبب في حصول النسيان. واعتبر كلّ ما يصرف الإنسان عن ذكر الله ويوقعه في الغفلة حراماً أو مكروهاً كالإفراط في الطعام، أو كثرة الكلام، أو كثرة النوم. طبعاً قد يُعزى سبب بعض هذه الأحكام كاجتناب كثرة الأكل إلى عوامل جسمية أيضاً، أي أنّ الغرض هو الصحة والمحافظة على سلامة الجسم، ولكن من المؤكد أنّه ليس السبب الوحيد. أي أنّ "قلّة الطعام" في التعاليم الإسلامية تأتي في سياق يُفهم منه بأنّ الهدف منها ليس المحافظة على سلامة الجسم فقط، وإنّما لأجل أن تكون روح الإنسان أكثر شفافية ولا تؤدي به إلى الغفلة.

 

تقوية الأبعاد المعنوية:

كما أنّ التفكر والتعقل مفيد للفكر في القوة، والتقوى والتزكية تنعكس منفعتهما على ترسيخ قوة الإرادة عند الإنسان، فإنّ العبادة مفيدة أيضاً لتقوية العلاقة المعنوية وإيجاد الحرارة الإيمانية في الإنسان. أي كما أنّ الإيمان يؤدي بدوره إلى ممارسة العبادة، فإنّ العبادة أيضاً تقود إلى ترسيخ الإيمان، وهذه القضية صرّح بها الإسلام كثيراً، وهو يعني التأثير المتبادل بين الإيمان والعمل. والإيمان يقود إلى العمل، والعمل الذي منشؤه الإيمان يؤدي تقوية ذلك الإيمان.

يرى القرآن أنّ المعنوية أساس للتكامل. وكلّ هذه العبادات التي يعوّل عليها الإسلام هدفها تقوية الجانب المعنوي في روح الإنسان. لاحظوا حياة النبيّ (ص) فعلى الرغم من كثرة مشاغله والمشاكل العسيرة التي كانت تواجهه، يصفها القرآن بالقول: (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ) (المزمل/ 20).

وقد أوصى الله سبحانه وتعالى رسوله: (فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا) (الإسراء/ 79). ►

 

المصدر: كتاب الروح والنور في القرآن الكريم

ارسال التعليق

Top