• ٢٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

رحلة الحب من البريد الطائر إلى الإلكتروني

زهرة مرعي

رحلة الحب من البريد الطائر إلى الإلكتروني

شعراء وفنانون يتحدثون عن العشق بين الأمس واليوم

    من البريد الطائر إلى البريد الإلكتروني وأخواته وما بينهما من صورة البوسطجي حامل "القلوب الخفاقة" في حقيبة يد، مسار طويل لوسائط شكلت على اختلافها جسر محبة بين العشاق في الأمس واليوم.

    من زمن الحمام الزاجل، الذي كانت رسائل الحبّ تطير فيه ناثرة عبَق الهوى في الهواء، مروراً بـ"مرسال المراسيل" أو ساعي البريد، الذي كانت ضربات القلب تتسارع كلما لمحته العيون من بعيد وكأنّ الحبيب يطلّ من حقيبته، إلى عصر الجوال والـ(BBM) أو الـ(SMS) والـ(blackberry) والـ(E-mail) وغيرها، شهد التعبير عن الحب اختلافاً جذرياً، إذ ارتدى زيّ الحداثة والعولمة حتى بات الحبيب أو الحبيبة في متناول اليد وبـ"كبسة زرّ".

    من أغنية وديع الصافي التي يقول فيها: "باعث لك سلامي على جوانح حمامة"، المعبّرة عن تواصل المحبين بواسطة الحمام الزاجل، إلى أغنية بَعتْلي إيميل واحكيني وأنا بردّلك حبي كله، بعتلي إيميل وراضيني والمكتوب هوّي الموعود" للفنانة سابين، ثمّ مسافة شاسعة في الزمن، لم يعد معها للحب رائحة الورق والحبر الممزوج بدموع الشوق، بل صارت له نكهة الشاشة، حيث نشاهد المشاعر ولا نلمسها، نتفحص أحرفها المتشابهة في كل زمان ومكان من خلال الوسيلة واللون نفسيهما. في "العصر الرقمي"، صار الحب يلحق الحبيب بالصوت والصورة، ليس له أن يفلت من قيد الرقيب: استيقظَ، نامَ، وصل إلى البيت، أكل وغير ذلك من تفاصيل تتكفّل التكنولوجيا على أنواعها بتحويلها إلى ما يشبه "يوميات إلكترونية" تكاد تحصي أنفاس الحبيب والحبيبة. لكن بين عشق اليوم والأمس جدال حول: أيهما أجود، أسلم، أجمل، أسرع، أمتع، أكثر لهفة، أقل معاناة، والأهم: أيهما يدوم أكثر. إذن هي أجيال تناقض أجيالاً. أجيال ماضٍ مرّت في عصر الهيام ترى في عشقها لذة الشوق ولوعة الانتظار، وأجيال حاضر يبدو عشقها، وكأنّه "ابن العصر"، مولوداً من رحم الوجبات السريعة، تعترف بأن عصر العذاب في الحب انتفت أسبابه، وبعضها اختصر حال العشق في العصر الحالي بالحكمة التالية: "في الماضي كان الحب يوصل إلى الجنون من شدته.. بينما اليوم من الجنون أن تحب".

    مع أجيال مختلفة من الفنانين والشعراء، كانت لنا حوارات عن الحب بواسطة الحمام الزاجل والبريد الإلكتروني ومتفرعاته الخليوية.

    

    - رومانسية مكسورة:

    كانت البداية مع الشاعر اللبناني إلياس ناصر، الذي ما إن نسأله عن قراءته في تطور الغرام وسائل البوح به، وماذا فقده الحب في هذه الرحلة الطويلة؟ حتى يقول: "فقد الحب اللهفة والحميمية. كان الحبيب يبذل مجهوداً ليرسل رسالته الغرامية مع اليمامة. وكذلك كان يجلس ويفكر ملياً ليخط رسالة يرسلها من خلال صندوق البريد. أما حالياً، فهو قادر على المزج والجد من خلال الرسالة النصية القصيرة وهو جالس في مكانه من دون أن يحرك سوى طرف إصبعه الذي يدوس المفاتيح. الحب صار يصل بالضغط على الأزرار". ويضيف: "هذه السهولة جعلت الحب الذي نعرفه يفقد الكثير ممن نعانيه"، لافتاً إلى أنّه "بات في إمكان أحدهم أن يرسل الرسالة النصية نفسها إلى مئة إنسانة، وعلى سبيل المداعبة، سواء من الشاب أم الفتاة. أما في الزمن القديم، فقد كان الحبيب يجمع من حوله كتب الرسائل الغرامية كي يستنير بها في كتابته، لينال رضا المحبوبة وإعجابها".

    كم يقترب الحب الحالي من طريقة الوجبات السريعة؟ يقول ناصر: "لقد تطور الزمن وتحولت دورته إلى سريعة ومنها الحب. الحب لا يزال موجوداً لكن الرومانسية مكسورة".

    ويؤكد أنّه تبادل رسائل الحب مع زوجته (أم زياد)، التي لا تزال تحتفظ بها. طلبنا تصوير إحداها لكنه أقسم بأن "أم زياد تخفيها ولا تترك للهواء أن يلامسها لأنّها من صميم خصوصيتها". ويوضح أنّه "في أيام الخليوي لا يرسل لشريكة حياته رسائل نصية حين يكون بعيداً عن البيت في سفر أو سواه، بل يتصل بها هاتفياً في اليوم الواحد 700 مرة، مضيفاً: "لم أرسل رسائل نصية، فأنا لا أحب أن يطلع أحد على ما نتداول به، حتى الأبناء".

    وعن تطوّر التعبير عن الحب في قصائده، يجيب إلياس ناصر: "إذا لم تكن لمسة الحب الرومانسية موجودة عندي، في كتبي وفي هواجسي اليومية وعلاقتي مع كل ما يحيط بي، أعتقد أنّ الشعور الإنساني النبيل يضمحل". نسأله عما إذا كان يخوض في جدل مع أبنائه في حيثيات الغرام الماضي والحالي؟ فيقول: "في الحقيقة هم يشبهونني في غرامهم على الرغم من كونهم من الجيل الجديد". ويشير إلى أنّه "عندما بلغت ابنتي الكبرى الـ15 من عمرها قالت: "لم تترك لنا كلمة يقولها أحدهم ونصدّقه". ويقول: "نحن نحكي في منزلنا بكل القضايا ونمرر رسائل لأبنائنا من دون وعظ". وحين نطلب منه أن يذكّرنا بقصيدة دالة على الحب القديم من أشعاره المغناة؟ يقول: "لا تقل لي بتغار عليّ مش حلو الحكي.. ما بدي عوّد عيني بعدك عالبكي.. المحبة مش بسمة صفرا.. وضحكي ملوّني.. المحبة مش كاس وسهرة وغنّي يا دني.. المحبة حنية.. المحبة عيدية.. المحبة غنيي وما بدا حكي"، موضحاً "أن عمر هذا الشعر نحو 25 سنة وقد شدا به الراحل عازار حبيب". ويخلص ناصر إلى القول: لديّ قدرة على مماشاة الأجيال بالموضوعات الجديدة، لكن ليس بالطريقة الجديدة".

    

    - فقدان الشاعرية:

    "ربح الحب السرعة في عصرنا الحالي من خلال وسائل الاتصال الإلكترونية"، هذا ما يقوله الفنان القدير روميو لحود. ويضيف: "ربح الحب أيضاً المسافة. لكنه افتقد الشاعرية والكلام الجميل". ويلفت إلى أنّه "في الماضي، كان الحبيب يجلس لساعات وساعات حتى يجد الكلام الجميل ليرسله إلى حبيبته. أما حالياً، فنحن أمام لغة جديدة، كلام جديد، وأحرف جديدة". ويتابع: "لذلك، في مقياسي، خسر الحب كثيراً في رحلته من الحمام الزاجل وصولاً إلى الـ"بي بي ام". وللأسف، إنّه العصر، وكل من يعيشه يسايره"، لافتاً إلى "أننا نشأنا على المكتوب، على الشعر والكلمة الجميلة. كنا نستمتع بوقنا. في عصرنا الحديث فقدت الأمور من حرارتها كثيراً، فهي تريد اللحاق بالزمن السريع". وعما إذا كان يعتبر أنّ الجيل الحالي خسر الشاعرية والحميمية؟ يجيب لحود: "ليس لي القول بخسارته، فكل منا ينشأ على طريقة مختلفة. مَن هو في كوكب آخر يختلف عنا لأنّه نشأ وفق طريقة مغايرة. ومن المؤكد أن طريقة عيشنا السابق للحب بنظر الجيل الحالي هي بمثابة "أولد فاشن". فليس لي أن أشعر بما يشعر به شاب من هذا الجيل. إنما أعرف بعضاً من العصر من خلال ابنتي وحفيدتي". ويقول: "ابنتي لها أفكارها المختلفة عنا. وحفيدتي تختلف معي ومع أمها في أفكارها. ثمّة مسافات ضوئية بيني وبين حفيدتي في التفكير وكذلك في الحب". ويشير إلى أنّه "في أيامنا، ربما كان الحب أكثر براءة في بداياته. حالياً ليس لنا تفريق الحب عن البُعد الجسدي للعلاقة، هما معاً في خلطة واحدة. وفي أحيان لا يكون الحب موجوداً نهائياً". ويعترف روميو لحود بأنّه في بداية شبابه اعتمد رسائل الغرام. ولكنه يكشف أنّه "لاحقاً انتشر الهاتف فصار يغني عن الرسالة". ويقول: "نعم أحتفظ ببعض الرسائل. لكن في اعتقادي أننا في المقبل من الأيام سنفتقد كتابة الحرف بواسطة اليد. حتى بيع الكتاب سيختفي في يوم ما، وبعض الكتب المدرسية بات يوضع على الكمبيوتر".

    نسأله: هل صارت نكهة الحب موحدة؟ يقول: "أعتقد أنّ هذا التشبيه محق. لكن تبقى لجيلنا بعض الأقلام وبعض الأوراق. الإنسان يتغير، والحب يركض. حتى تسجيلنا للموسيقى اختلف. حلّ الزر مكان العازف، وهذا لا أقبله. بسرعة الدوس على الأزرار يتم تغيير الأصحاب والأحباب تماماً كما يتم تغيير القمصان". نقول له: "هل من أغنية من كتابتك ولحنك تُظهر الحبّ القديم بكل شاعريته؟" فيجيب: "خدني معك ع درب بعيدة" التي يغنيها كثيرون حالياً.

    

    - اختلاف وسيلة النقل:

    من ناحيته، يرى السيناريست شكري أنيس فاخوري أنّ "الحب لم يختلف في رحلته من جوانح اليمامة إلى الرسائل النصية على صعيد المبدأ". ويقول: "هي وسيلة النقل التي اختلفت. وفي المطلق، فإنّ القيم كافة على صعيد العالم اختلفت وتنوعت، منها ما تقدم ومنها ما تراجع". ويضيف: "قد يكون الحمام الزاجل على طريقة أرسل لك، أو أرسل لك، حبي على الأثير أو على جناحي الحمامة، حيث الخوف من أن يقع قسم من هذا الحب مع كل حركة جانح، أمر فيه رومانسية أكثر من الواقعية". ويؤكد فاخوري أنّ "الحب في الماضي كان كله مختلفاً، عتيقاً ومخفياً. وما كشف عن حب الزمن الماضي لا يسمن ولا يغني". ويضيف: "الآن نحن في وضع مختلف، وربما لو قال أحدهم لفتاة كلمة "أحبك"، ستسمعه بوسيلة لا ندري ما هي، ولا سيما مع تطور التكنولوجيا من رسائل نصية وإيميل وغيرهما مما لا نعرفه". ونسأل فاخوري عما إذا كانت مرحلة الرسائل قد أخذت حيزاً من حياته؟ فيقول بحماسة: "طبعاً طبعاً وهي الأجمل والأبقى من بين الوسائل كافة المتاحة للتعبير، فهي تحمل خط اليد، ورائحة الحبر والورق". ويتابع: "ليست الأمور العاطفية محصورة بالتبليغ. فالمشاهدة جميلة أحياناً من خلال الرسالة التي تبقى، والحرف الذي يحمل مرة صورة قلب ولا يحملها مرة أخرى. هو تنويع وتشويق، وليس من خلال منهجية علمية وحروف منضدة متشابهة تصل في كبسة زر". ويرى فاخوري أن "وسائل التواصل الجديدة، تفتقر لحيوية الفرد العاشق، ولرعشة يده". ويقول: "في أيامنا، كان البريد وسيلة التواصل. نرسل عبر البريد، ننتظر الوصول ومن ثمّ ننتظر الرد. حالياً وصول بطاقة معايدة يشكل مفاجأة. مع أن بطاقة المعايدة هي من أجمل وسائل التواصل. صار دور ساعي البريد محصوراً بتبليغات رسمية فقط". ماذا عن الخط الدرامي لقصة حب يكتبها فاخوري في أعماله؟ هل غيّرها العصر؟ يجيب: "دائماً أراعي مقتضى الحال. فليس من تبديل يطرأ على موضوع حب رومانسي له أصوله. إنما الكتابة عن "حب مصلحة" هي أمر مختلف. كذلك الكتابة عن حب غرائزي شيء آخر. فلكل مقام مقال". وعما إذا كان يرسل رسالة نصية إلى زوجته؟ يقول ممازحاً: "لماذا؟ فهي بوجهي دائماً"، مضيفاً: "أغازلها مباشر".

    

    - الهدف واحد:

    في رحلة التعبير عن الحب بين تكنولوجيا الحمام الزاجل وتكنولوجيا القرن الواحد والعشرين، يرى الفنان إلياس الرحباني أنّ "الأساس لا يزال على حاله". ويقول: "كان السلام يصل مع آخرين، ومن ثمّ عبر الرسالة. وجاء دور الهاتف الثابت ليغيّر في المعادلة، إنّما بقي الهدف واحداً". ويشير الرحباني إلى أنّه "مع التكنولوجيا الجديدة الأمر نفسه"، لافتاً إلى "أننا بصدد الإحساس، والإحساس لا يتبدل بين قديم ومعاصر، فالهدف هو الحب. نحن نأمل أن تكبر المحبة على الحب لأنّها الأبقى بين العشاق". ويضيف: "الرسائل أيام زمان كانت تتألف من صفحات عدة، في حين أنّ الرسالة النصية تقتصر على عدد من الكلمات". ويفسر الرحباني سر هذا التبديل بالقول: "كانت الرسائل معدوة، وكان البعيد يضمّن رسالته كل ما يخطر في باله، وعذاباته كافة. كذلك تجود القريحة في الكتابة ويصفو الذهن أكثر بكثير من الكتابة المباشرة. وهكذا تكبر الرسالة مع الإنسان الرومانسي". لا يذكر إلياس الرحباني أنّه مرّ في مرحلة الرسائل في المراهقة، لكنه يتذكر أنه حين كان يدرس في رأس بيروت كان ورفاقه يتفرغون لملاحقة سبع مدارس للفتيات على مدى ساعتين من الزمن ظهراً. ويقول: "في حينها، اعتقدنا الحياة ستبقى وردية كما في عمر المراهقة. وقد عبّرتُ عن أفكاري في أغنية فرنسية تحمل عنوان (Bonjour Colette). أما زوجتي، فلم يسعفني الوقت لأتبادل معها الرسائل. فقد شاهدتها قبل رحلة "الخطيفة" نحو سبع مرات وكنت في عمر الـ22 وهي في عمر الـ17. وهذه المشاهدات كانت متباعدة جدّاً في بيت جدها، أو لدى عمها الفنان جوزف ناصيف. والحمد لله ضُبط هذا الحب وهذا الزواج أكثر من المطلوب". الرحباني، الذي أهدى زوجته مقطوعة موسيقية اسمها "نينا ماريا"، يقول إنّه عندما يعود إلى ورق من عمر الأربعينات وما بعد وعليه كلمات أغنيات وصور الفنانين "يحملني الشوق والحزن. ومع مشاهدة هذه الأوراق ولمسها، تراودني مشاعر جميلة وموجعة معاً". ويضيف: "لذلك، أظن أن لورق الرسائل طعمه المختلف لدى العشاق، وحتى إن لم أمر بهذه التجربة". نطلب من الفنان إلياس الرحباني تذكيرنا بأغنية تدل على الحب الصافي القديم، فيقول: "كنا نتلاقى من عشية" وهي من كلماتي وألحاني. وحين نطلب أغنية للأخوين رحباني: يجب: "بعدك بتذكر يا وطى الدوار".

    

    - تعبير شفوي:

    لم يمرّ الممثل الشاب يورغو شلهوب بـ"عصر" كتابة رسائل الغرام، ويقول: "لا أؤمن بها دائماً، وأفضّل التعبير المباشر. كما أنّه لم يحدث أن جربتُ الكتابة، ربما لأنّها لا تشكل تعبيراً سائداً في هذا العصر". ويضيف: "نحن فتحنا عيوننا على عصر الهاتف ثمّ الجوال. ربما يكون أصدقاء من عمري قد اختبروا الرسائل الغرامية في أيام المدرسة". ويتابع: "من جهتي، تلقيتُ رسائل مهضومة ولم أكتبها. في عمر صغير في المدرسة رددتُ على بطاقة وصلتني بأخرى، وكانت المرة الوحيدة". لا ينفي يورغو حقيقة أنّ "التعبير المكتوب يحمل نوعاً من الرومانسية، وخصوصاً عندما يكون مصدره أشخاصاً يتميزون بملكة الكتابة". ويضيف: "هذا جميل لكنني شخصياً إنسان يفضل التعبير الشفوي. وحتى إذا كان لديّ الأفكار، أفضّل التعبير الشخصي عن أفكاري. أعبّر عن الحب بالفعل أكثر من الكلام. وحتى في التعبير الشفوي لم يكن الشعر كثيراً في كلامي". ونسأله عما إذا كان الانتظار يشكل لهفة بالنسبة إليه، سواء للرسالة على الورق أم للرسالة النصية؟ فيقول: "أكيد مَن يمرّ بحالة حب سينتظر الاتصال الهاتفي. الشوق يبقى موجوداً لسماع الصوت، لكن هذا الشوق لا يصل إلى درجة الرسائل، فنحن في عصر السرعة. حتى نسق البشر صار أكثر سرعة، فهم لا يتحلون بالصبر الذي يتطلبه الانتظار". ويضيف: "شخصياً، لم أمر بحالات الحب المستعصية لأنني لست ذاك الرومانسي المشهود له. لديّ رومانسية لحدود معينة، لكنني أميل نحو الواقعية".

    ورداً على سؤال، يقول شلهوب: "ليس بالضرورة أن يكون حب هذا العصر شبيهاً بـ"الوجبات السريعة"، لكن العصر تبدل. في السابق كنا مع ممنوعات أكثر على صعيد العالم أجمع. كنا مع خجل أكثر. وحالياً، تحطمت الحواجز، لكن هذا يختلف بين مجتمع وآخر. المجتمع الذي عشتُ فيه لم يكن منغلقاً أو متحفظاً بشدة. فلم نمرّ بحالات يمنع فيها الأهل بناتهم من مكالمة الشباب". يعترف يورغو بأنّه يستعمل الرسائل النصية مع زوجته في حالات السفر فقط، لافتاً إلى أنّه "في هذه الحالة أرسل كلمتين من الحب والشوق المعبّر. وإذا قدمتُ لها ورداً، أحرص على كتابة بعض الكلمات على بطاقة". ولا يخفي أنّه كان يرغب في الاحتفاظ ببعض الرسائل النصية "لكنها راحت مع جهاز الهاتف، فيما "الجوال" الجديد لا يحمل ما هو مميز".

    

    - خسر الدفء:

    من جهتها، تقول الشاعرة مها بيرقدار الخال إنّ الحب "خسر الدفء في رحلته بين الحمام الزاجل ووسائل التواصل الإلكترونية"، مؤكدة أنّ "الدفء في الحب هو الأهم. أما الربح فمحصور بسرعة الاتصال، يليه سرعة النسيان". الرسائل الغرامية المتبادلة بين الشاعرة مها بيرقدار وزوجها الشاعر الراحل يوسف الخال لم تدع أكثر من أربعة أشهر تمّ بعدها الزواج. وعن تلك المرحلة تقول: "كانت بيننا رسائل جميلة جدّاً. هي رسائل مختصرة طبعاً، إنما تفيض بالجنون والحرارة والصدق. أما رسائل بعد الزواج، فكانت قليلة. كان زوجي عندما يسافر يراسلني بواسطة أشخاص، لأننا كنا في حالة حرب. في حينه، ولأسباب الحرب، كان الاهتمام منصباً على الأبناء بعيداً عن الحب والغرام، وعلى تفقد الأحوال في ظل ظروف صعبة. جذوة الحب في رسائل ما بعد الزواج قضت عليها الحرب". ونسأل الخال كيف تتعامل كأديبة وشاعرة مع التبدلات التي طرأت على الحب بفعل التطور التكنولوجي، فتقول: "ليس لي الحلول مكان أحد بقدر ما سعيت لتقمص إحساس الجيل الحالي، لكن هذا مستحيل. صار الحب في هذه الأيام سهلاً مع أنّه من أصعب أمور الحياة. كذلك صار رخيصاً إلى حد ما. لقد تراجعت قيمة الحب". ونسألها لماذا؟ فتجيب: "إنها الحرية الزائدة التي بلغت في أحيان حدّ الفلتان. لذلك، ليس لي أن أقارن حب هذه الأيام بالحب الذي عاشه جيلنا".

    وعندما تطلب صورة مختصرة للحب من مها بيرقدار الخال من خلال معايشتها له في حكايات ولديها الفنانين ورد ويوسف الخال، فتقول بكل حيوية: "ولداي ورثا الرومانسية مني، كذلك الاندفاع الكبير عندما يشعر أحدهما بالحب نحو شخص ما. ابني يوسف تزوج قبل شهرين بحبيبته الفنانة نيكول سابا بعد علاقة حب استمرت عشر سنوات. هذا حب جميل وأكيد وواثق، بعد أن اكتشف كلاهما أن حباً لآخر بديل، مستحيل. في أعراف الحب الحالي أنّه قد يكون لليلة وفي اليوم التالي لا تعني هذه الحبيبة لهذا الحبيب شيئاً، والعكس صحيح. في حين أن حب يوسف ونيكول تكرس بشكل جميل بعد عشر سنوات. يوسف وورد أخذا مني عاطفة الحب. كان زوجي شاعراً صحيح، لكنه لم يكن يتحلى بالرومانسية. لقد كان رجلاً واقعياً أكثر مني بكثير. يمكنني القول إنّه كان نقيضي، إذ كنتُ أعيش في الحلم والخيال. لكن في النهاية الحياة والمسؤولية تضع كلاً منا على الأرض". لا ترى مها الخال في حالة يوسف ونيكول حالة نادرة، حيث تقول: "هي حالة جميلة، وهناك ما يشبهها بكل تأكيد. يمكنني تصديق تجارب أبنائي لأنني عايشتُها وأرها جدية وفيها معاناة واحترام. ولم أعاين هذا مع الغير. فقط أسمع أن أحدهم مات على حبيبته، وتزوجها بعد أسبوع، وبعد أسبوعين تمّ الطلاق. هذا ليس حباً. هو نزوة فقط لا غير. هي الحرية الزائدة التي تلغي الحب. ففي حياتي ثلاث قيم، هي الحب والفن والحرية".

    

    - إيجابيات وسلبيات:

    تؤكد الشاعرة والروائية نادين الأسعد أنها قرأت عن رسائل الغرام عبر الحمام الزاجل والبوسطجي ولم يسعفها الزمن، كونها من الجيل الجديد، أن تختبر هذه الحالة. وهي تقول عن تطور رحلة التعبير عن الغرام من الحمام الزاجل وصولاً إلى الـ(SMS) وغيره: "أظن أنّ للأمر إيجابيات وسلبيات. لقد سبق أن شاهدت بعض الرسائل بين يدي والديّ. وأرى أن إيجابية الرسالة تكمن في أنّ المعنى بها قادر على شم رائحة الحبيب من خلال الورق والحبر، ولا سيما أن بعضهم يعطر الورق بعطره المفضل". وتضيف: "من خلال الرسالة وخط اليد يمكن أن نعاين حال الآخر. وحتى الاشتياق كان يُلمس من طريقة الخط، وغيرها من المشاعر الإنسانية". وبالعودة إلى التكنولوجيا الحديثة، ترى الأسعد فارقاً كبيراً في وسيلة التعبير عن الحب بين الماضي والحاضر، لافتة إلى أنّ هذا ما عبّرت عنه في روايتها الجديدة "رياح الرغبة". لكنها تؤكد أنها تنحاز إلى وسائل التعبير الحديثة وتقول: "الـ"بي بي ام" والرسائل النصية القصيرة، تقرّب العشاق من بعضهم أكثر. هو عبارة عن تواصل مباشر: ردّ، وردّ على الردّ وبسرعة قياسية. في حين ان انتظار الرسالة لأسابيع، من شأنه أن يبردّ العواطف، وقد يدفع إلى تبديل الرأي والعاطفة، وتبديل الحبيب". وتضيف: "من خلال التواصل الحديث يكون الآخر في متناول اليد. نعرف إذا كان قد قرأ الرسالة، ونعرف حتى حركته. إذن من إيجابيات التواصل عبر التكنولوجيا الحديثة أنّ الآخر يبقى قريباً منا، علماً بأنّ المبالغة يمكن أن تجعل أحد العاشقين "يخنق" الآخر بمعنى أنه يصادر هامش الحرية الضروري لتبقى العلاقة صحية".

    ترفض الأسعد تشبيه الحب المعاصر بالـ"وجبات السريعة"، وتقول: "لماذا هذا التشبيه وهو في مضمونه حب عبر وسائل تقرب المسافات وتزيد من سرعة التواصل؟". وتتابع: "أعرف أشخاصاً صاغوا علاقات جيِّدة وتزوجوا من خلال الـ"إيميل" وحالياً عبر الـ"فيسبوك".

    ونسأل نادين الأسعد إذا كانت مارست فعل كتابة رسائل الحب في المراهقة؟ فتقول: "هي رسائل صداقة أكثر منها رسائل حب. لكنني تلقيت رسالة حب كانت موضوعة على مكتبي في صف المدرسة. كنت أنا وصديقتي، فتحتُها وقرأتُها، وأعدتُ إقفالها كما كانت من قبل، وأعدتُها لصاحبها. كل هذا الموضوع أثار فيّ وفي صديقتي خجلاً، ولذلك تجاهلنا الموضوع أو ادّعينا ذلك. بحسب تربية الأهل كان الحب بالنسبة إلينا تابو". تعدد نادين إيجابيات الحب وفق العصر التكنولوجي الحالي، فتقول: "يتم التعبير عن المشاعر مباشرة. وإذا لم يتم الرد فهذا يعني أنّ الطرف الآخر وقع له مكروه، أو زعلان، أو لا يريد الرد لسبب مجهول". وتضيف: "في الحب المعاصر ليست هناك أمور مخبأة وكل شيء مكشوف. لكن السؤال كم يستمر هذا الحب؟ فالطهو على نار سريعة يحرق الطعام. لذلك، يجب أن تأخذ المشاعر وقتها. ذلك أنّ التعرف إلى الآخر والوقوع في الغرام يلزمه وقت. كما أنّ الحديث المتواصل عبر الرسائل النصية يؤدي سريعاً إلى الملل. العلاقات سريعة وفي مدى أسبوع أو أسبوعين يتغيّر الأشخاص في حياة جيل الشباب الحالي". وهل هذه هي الخطورة في "الغرام التكنولوجي"؟ تقول الأسعد: "نعم لأنّ العلاقات مفتوحة جدّاً. الاختيارات في الحب كثيرة وعبر الوسائل الإلكترونية كافة، للشبان والبنات معاً. ومع هذا الواقع تراجع الوفاء إلى حد ما. لذلك، كان حب الحمام الزاجل أكثر متانة، لأن طبيعة الناس كانت مختلفة. والأجواء جميعها مختلفة. كان حينها للمشاعر رونقها الخاص". ونسألها عن آخر رسالة نصية أرسلتَها لزوجها فتقول: "بالأمس قلت له وأنا أقود سيارتي "أحبك"، وردّ: أحبك أكثر".

    

    - تبدل المفهوم:

    بين حب الرسائل المكتوبة بواسطة اليد وحبر القلب، والحب الإلكتروني، نسأل الشاعرة لوركا سبيتي عن الخصارة والربح التي لحقت بالحب في حد ذاته؟ فتقول: "لقد تبدل مفهوم الحب من الزمن الماضي حتى الآن وذلك بغض النظر عن مفهوم الرسائل. كذلك تبدلت حاجات الإنسان وطموحاته في الحب. لقد زادت أنانية الإنسان وتضاءلت تضحياته". وتضيف: "لذلك، أشعر بأنّ الحب يتأثر بالشخص الذي يعيشه. لم أكن في أيام الحمام الزاجل، إنما في تصوري أن لكل زمن شغفه الخاص. كان للرسالة مع الحمام الزاجل جمالها وروعتها، كذلك كانت هناك متعة الانتظار". وهل من متعة ما يتركها التراسل عبر الرسائل النصية المتلاحقة؟ تجيب سبيتي: "طبعاً. لقد عشت التراسل عبر "فيسبوك" وكان انتظار الرد جميلاً جدّاً. أظنه الشعور نفسه الذي كانت تعيشه جدة جدتي مع انتظارها للحمام الزاجل أو البوسطجي". ونقول لها: أنت شاعرة والكلمة رمز بالنسبة إليك والورقة رمز أكبر، ألا ترين متعة مختلفة مع الكلمة المكتوبة والتي لها رائحة الإنسان ولهفة قلبه؟ فتجيب: "حالياً أخط قائدي على الـLAPTOP، فنحن ومَن سبقنا ارتكبنا فعل خيانة بحق الورق والقلم. كذلك افتقدنا متعة تمزيق الصفحات وشقلبتها. في النهاية، نحن بشر تحكمنا المصلحة ونتلقف ما هو أسرع وما يخدم وقتنا ويختصر لنا المسافات. لكني شخصياً، وحتى مع وجود الكتب الإلكترونية، أقرأ الكتاب العادي. إلا أنني عاجزة عن كتابة رسالة على الورق في هذه الأيام". وتتابع: "بالتأكيد، لقد مررت في عمر المراهقة بكتابة الرسائل. عمري المراهق لم يعاصر الرسائل النصية والإلكترونية. صحيح كان للرسائل متعتها، لكنها الرسائل التي نعيشها معالعالم التكنولوجي الجديد أو الافتراضي كما يسمونه لا تقلّ متعة، فلكل زمن طريقته وأسلوبه. بغض النظر عن الوسيلة أحدنا يعر بمتعة ما يكتبه أو ما يصل إليه من رسائل. شخصياً أفضل التواصل الجديد لأنّه أسرع، ولأننا أدمنّاه".

    نقول لها: السؤال بات مشروعاً عن المكاسب العاطفية جراء التكنولوجيا؟ ويأتي ردّ لوركا سبيتي سريعاً: "لا شيء بل خسرنا. خسرنا لأنّ الرسالة الإلكترونية باتت تغني عن لقاء بين الحبيبين. لهذا، صار الحب من خلف شاشة. ربما أنا وزوجي حين نتزاعل ويجلس كل منا في غرفة، نتواصل عبر الرسائل النصية. أنا قادرة على مواجهة زوجي عبر الرسالة النصية أكثر من الكلام". ونسألها: "ما آخر الرسائل التي أرسلتها لزوجك؟ فتقول سبيتي: "حين كنت في عملي، وانتصف النهار قلت له في رسالة "أحبك". ولأن هذه الكلمة تستفز زوجي بطريقة مغايرة لأيّ من الرجال، كانت إجابته "ليش"؟ وهو على الدوام يريد جواباً على خاطره ولا يشبه الجواب الذي سبقه. فكان الجواب الذي أصبح مشروع قصيدة، ومع عودتي إلى المنزل أكملت القصيدة فصارت نحو سبعة مقاطع".

    

    - إيجابية:

    بين جيل الأُمّهات وجيل البنات كان لنا نموذج مع الشاعرة مها بيرقدار الخال وابنتها الفنانة ورد، من دون علم كل منهما. وتقرأ ورد في الحاضر مقارنة بالماضي وتقول: "ليس لي القول إنّ الحب خسر في انتقاله بين وسيلة تعبير ماضية وأخرى معاصرة. وعلى العكس أرى في التطور إيجابية وليس أذية. تتمثل الإيجابية في التواصل الدائم، وهذا ما يؤكده المثل الشعبي "البعيد عن العين بعيد عن القلب". التواصل الحديث يلغي المسافات ويجعل طرفي العلاقة على إحساس أحدهما بالآخر حتى إن كان غائباً عن مرمى النظر. الخطأ ليس في التكنولوجيا، كما أنّ الحياة في جزئها الأكبر عمل، ولم يعد الإنسان يحيا على الحب وحده". وتضيف: "في السابق، كل الحبيب يرسل وردة يابسة لحبيبته ربما عن طريق تبادل الكتب. حالياً يرسل إليها صورة وردة، وهذا جميل كذلك. إنها الطريقة التي سجلت اختلافاً، والحب هو نفسه". ونسألها كيف تنظر إلى خصوصية الورق، رائحته، لون الحبر وخط اليد؟ فتجيب: "لم أمرّ بمثل تلك المرحلة، لكن بحسب معرفتي كان العشاق في الماضي أكثر عذاباً. التكنولوجيا سهّلت العلاقات من خلال التواصل الذي بات أكثر سهولة، وبالتالي لم يتغيّر مضمون التعبير ولكن شكله. لقد تراجع العذاب، وهذا لا يعني تراجع الحب".

    وحين نسألها عما إذا كان مرّت بمرحلة الرسائل، تقول ورد: "نعم بالتأكيد. مررت بمرحلة الرسائل، سواء عبر الإنترنت أم الرسائل العادية، وخاصة خلال سفري بسبب الحرب في لبنان وتحديداً عامي 1989 و1991. حينها كنت أتلقى رسائل مكتوبة وأرد عليها".

    وبما أنّها تؤكد أنها ما زالت تحتفظ بتلك الرسائل، نسألها عما إذا كانت لها نكهة مميزة في قلبها؟ فتقول: "هي موجودة لأنها في نظري توثيق لمرحلة معيّنة. لكنها على الصعيد العاطفي لا تعني لي أمراً على الإطلاق. لست من النوع الذي يقف عند الحب القديم، على الرغم من أني رومانسية جدّاً. فأنا لا أنظر إلى الماضي بل أنتظر همسة من الحبيب الجديد". وتبرر الخال مقولة أنّ الحب الذي يعيشه الجيل الجديد يشبه طريقة "الوجبات السريعة" بالقول: "هي سرعة الحياة والتكنولوجيا التي تدفع بهذا الاتجاه. من الجميل أن يكون أحدهم مشغولاً وإذا به يرسل رسائل للحبيب بمعنى أنه يفكر فيه". وتشير إلى أنّه "نظراً إلى وجود السهولة في التواصل، صار بإمكان الإنسان أن يتأكد من حب الطرف الثاني له أم لا. حتى إنّه صار قادراً على التأكد كم يفكر فيه هذا الشخص ومتى. لم تعد هناك حجة إلى التلكؤ بالتعبير عن العواطف. بـ"كبسة زر" ينكشف العشاق". ورداً على سؤال حول آخر رسالة حب تلقتْها أو أرسلتْها؟ تقول ورد: "آخر رسالة كانت مهضومة وهي وردة تلقيتُها على الهاتف".

ارسال التعليق

Top