• ٢٤ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢٢ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

رمضان.. ربيع الأشهر

عمار كاظم

رمضان.. ربيع الأشهر

شهر رمضان المبارك ربيع الأشهر، لأنّه شهر اقتراب الإنسان المسلم من مصدر عزّته وكرامته وحياته، يقول تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ) (فاطر/ 10). خصّه الله سبحانه وتعالى من بين الأشهر بمكانةٍ جليلة فهو الشهر الذي أنزل الله تعالى فيه القرآن هدى للناس وبيّنات من الهدى والفرقان، وهو الشهر الذي يمتحن الله تعالى فيه قلوب العباد للتقوى والإيمان. هو الشهر الأكثر عظمة بالنسبة للمسلمين في جميع أنحاء العالم، هو الشهر الذي يأتي لنا بكامل البركات والخير والثواب والأجر العظيم، شهر كريم يجب علينا اغتنامه جيِّداً والوصول فيه إلى التعبّد والتذلّل للخالق بشكل صحيح. تُفتح فيه أبواب الجنّة وتنادي على الصالحين وتُغلق أبواب النار ويفتح الله بابه للمغفرة لعباده الصالحين، فاقبلوا في شهر رمضان على الاستغفار والدُّعاء دوماً.

إنّ هذا الشهر المبارك هو أيضاً شهر توحيد، التوحيد بمعناه الحضاري، وما يحمله هذا المفهوم من حركة نحو صفات الله من علم وحكمة ورحمة وقوّة وقدرة وعزّة وكرامة. الصوم يقوي إرادة الفرد والقدرة على التحكّم بها، ويقوي السيطرة على النفس، فالصوم مدرسة إجبارية ينتسب إليها المسلمون شهراً كاملاً لتربية جوانب مُختلفة في حياتهم. هو دورة ممارسة التغلّب على النفس، دورة التجول في الأسحار عبر الأدعية والأذكار: «اللّهمّ أسألك من جمالك بأجمله وكلّ جمالك جميل، اللّهمّ إنّي أسألك بجمالك كلّه». في هذا الجوّ التعبوي التوحيدي التكالي يتحقّق التقريب بمعانيه كلّها، إذ هو جوّ إحياء، وجوّ الأهداف الكبيرة. وهو جوّ الارتباط بالله الواحد الأحد الذي دعا الناس إلى التعارف أو التبادل المعرفي: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ) (الحجرات/ 13). ودعا العباد إلى أن يكونوا أُمّة واحدة: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) (الأنبياء/ 92).

في هذا الشهر المبارك، المسلمون جميعاً يعيشون أجواء متشابهة وعواطف مشتركة وآمال موحّدة، وكلّ ذلك يوفّر فرصة تجاوز التجزئة وتمتين أواصر الوحدة والتماسك.

إنّ رمضان شهر الدُّعاء وشهر الإجابة وشهر التوبة والقبول، وممّا يبيّن مكانة الدُّعاء وعلو شأنه في شهر الصيام قوله تعالى في سورة البقرة: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (آية 186) قد جاء متخللاً لآيات الصيام وفي أثنائها، فقبل هذه الآية قوله تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) وبعدها قوله تعالى: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ)، فجاءت هذه الآية الكريمة وهي مختصة بالدُّعاء متوسطة لآيات الصيام ومحفوفة بها، ولعلّ في ذلك ما يدل على عظم قدر الدُّعاء وأهميته في هذا الشهر الفضيل، لأنّ العبد في هذا الشهر المبارك يملؤه الرجاء أن يوفقه الله للقيام بحقّ الله في هذا الشهر على أتم الوجوه وأكملها، ولا سبيل له إلى ذلك إلّا بسؤال الله ودعائه، وهو كذلك يكثِر في هذا الشهر من الطاعات والعبادات والقُربات وهو يرغب ويطمع أن يتقبلها الله.

ولشهر رمضان المبارك خصوصية في الدُّعاء، تجعل الإنسان أقرب إلى الله من أي وقت آخر، لأنّ الجوع والمستحبات التي يقوم بها الصائم في هذا الشهر المبارك كلّ ذلك يجعل الإنسان يتقرّب إلى الله أكثر ولذلك يكون دعاؤه أقرب للإجابة. في خُطبة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في فضل شهر رمضان: «أنفاسكم فيه تسبيح، ونومكم فيه عبادة، وعملكم فيه مقبول ودعاؤكم فيه مُستجاب»، وعن الإمام الصادق (علیه السلام): «نوم الصائم عبادة، وصمته تسبيح، وعمله متقبل ودعاؤه مُستجاب».

إنّ الصيام خير مدرسة للمسلم على تربيته للتكيّف الاجتماعي، لما يقتضيه من أداء الواجبات الحسنة، والتخلّي عن العادات السيِّئة، للحفاظ على صحّة صيامه ويسعى الصائم للتمسك بالقيم والمبادئ العليا، مثل حفظ الوقت واستغلاله في الطاعات، كما يُرّبي الصيام المسلم على التغيّر والانسجام مع الظروف المختلفة المحيطة به، ويجعل الفرد قادراً على التمرّد على بعض سلوكه وعاداته.

شهر رمضان المبارك يعلّم الناس اغتنام الفرص، فهو شهر اغتنام الحسنات بأداء الفرائض والطاعات التي يضاعف أجر القيام بها، فالأجر فيه يضاعف إلى سبعين ضعفاً عمّا سواه، كما أنّ هذا الشهر الفضيل فيه ليلةٌ هي من خير الليالي، حيث أنزل الله فيها القرآن، فهو شهر تتنزّل فيه الرحمات وتُغفر فيه الذنوب والسيِّئات وتُفتح فيه أبواب الجنان وتُغلق فيه أبواب النيران، شهر تتضاعف فيه الحسنات ويستجيب الله فيه الدعوات.

ما أجمل رمضان عندما يكون بداية للتوبة والإنابة، وميداناً للتنافس في الطاعات، ذلك الشهر الذي تحط فيه الخطايا وترفع فيه الدرجات وتُعتق فيه الرقاب من النيران، وتُضاعف فيه الحسنات. فكم من التائبين المنيبين إلى الله في رمضان؟ وكم من المستغفرين من ذنوبهم في رمضان وكم من المستيقظين من سُبات نومهم لنور الهداية في رمضان.

هذا هو سرّ الصوم، وقد بدأناه، فعلينا أن نعمل على أن نصوم لله بعقولنا وقلوبنا ومشاعرنا وكلّ حياتنا، أن نصوم عن كلّ ما يحدث الفتنة بين الناس، أن نصوم عن الظلم، لا سيّما ظلم الضّعيف. تعالوا لنتطهّر في هذا الشهر الذي سمّاه الإمام زين العابدين (عليه السلام) «شهر الطهور»، تعالوا لنغتسل من كلِّ ذنوبنا وعيوبنا وأحقادنا وعداواتنا، تعالوا ونحن في ضيافة الله لنعيش مع الله، وعندما نعيش مع الله، فإنّنا نعيش مع الإنسان كلِّه والمسؤوليّة كلّها.

نسأل الله تعالى أن يتقبّل منّا صيامنا وقيامنا، وأن يوفِّقنا للتّوبة، وأن يعفو عنّا ويغفر لنا ذنوبنا، إنّه أرحم الرّاحمين.

ارسال التعليق

Top