لقد كان الإسلام مذ بعث الله محمداً (ص) نبياً ومبشراً ونذيراً، ومبلغاً برسالة ربه، دين الوحدة والتوحيد، دين الأُلفة ونبذ التفرقة، ومن ثمّ دين الوحدة من بعد التناحر، والجمع بعد الشتات، والبنيان المرصوص بديلاً عن التنابذ.
بهذا المعنى يكون الحنين الدائم إلى الوحدة في الإسلام، حنيناً دائماً إلى الله، وتكون هذه الرغبة الأبدية في الوحدة داخل الإسلام تشوقاً دائماً إلى وحدانية الله، وبالتالي إلى وحدة الخلق والمجتمع والمصير، ومن ثمّ إتساقاً وإنسجاماً بين قيم الدين وقيم السلوك، بحيث تنعدم الهوة بين سلوك الفرد وقيم الدين وبين الطقوس والممارسة.
وبذلك تتوحّد الشخصية الإنسانية الواحدة التي أرادها الله – عزّوجلّ – مثالاً للإنسان المسلم الحق على الأرض.
نفهم الإسلام بهذا المعنى الأَزلي النبيل لحركته التشريعية، وجوهر بعثه: الوحدة، التوحيد، التضامن، التكاتف، التراصّ في الصفوف، وبالتالي: رب واحد، دين واحد، أُمّة واحدة.. "إنّ الذين فرقوا بين أحد منهم".
وعلى هذا لم يكن رمضان المبارك، وفيه أنزل الفرقان دستوراً وهداية ونذيراً لما يجب أن يكون عليه المؤمن من إيمان وحسب، وإنما هو، مذ كان الإسلام والفرقان دعوة إلى العزة البشرية وإلى الكرامة الإنسانية وأساساً مطلقاً لتوحيد النفوس، باستلهام مبادئ الحق والعدل، وقيم الضمير.
ولم يكن رمضان إلا إتياناً لسلطان نوراني عظيم غير آثم هو سلطان الله، إذ أشرق بنوره في شهر رمضان فالتقته الأرض والسماء وانزل فيه القرآن الكريم على خاتم الأنبياء والمرسلين (هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) (البقرة/ 185).
هذا التأكيد على النزعة التوحيدية التي تنطلق من إستلهام مبادئ الحق والعزّة والضمير، هي السمة البارزة والفاعلة من خلال فريضة الصيام التي أوجبها الله على عباده المؤمنين.
ومن شعور الصائم بأحاسيس الآخرين ومشاركتهم معاناتهم تظهر الوحدة الهادفة في العمل الواحد والهادف لرسالة النبي محمد (ص) عندما وضع بمبادئه التوحيدية والتشريعية حداً فاصلاً بين قسم الدين وتناقضات السلوك الإنساني حين حقق الوحدة المطلوبة في العقيدة وفي شخصية الإنسان المسلم.
وإذا كان الإسلام بتقاليده وشرائعه مصنعاً للرجال وبانياً للحياة، ودعوة إلى ممارسة الوجود بقيم صافية، لا يأتيها الباطل ولا يعدو عليها.. فإن شهر رمضان في بعض من اسمى مضامينه، على وفرتها، دعوة إلى جهاد أكبر ضد كل ما هو معصية أو فساد سواء جاء هذا الفساد من داخل النفس حين تطمع وتهون، أو من داخل المجتمع حين يتنكر ويجور، أو من عدو يأتي غاصباً جائراً باغياً.
من هنا، فليس الإسلام بمعنى العبادة.. شهادة وصياماً وصلاة وكفى، وإنما الإسلام جهاد في سبيل قيم الشهادة والصلاة والصيام، بما تنطوي عليه من مبادئ وقواعد للوجود والسلوك والحياة.
إنه فعل إيمان وليس طقس إيمان، إنّه العمل إلى أن يزول الوثن، وما ينطوي عليه من مبادئ وقواعد للوجود والسلوك حتى يتم النصر لله على الأرض وفي السماء.. انّه ممارسة فاعلة تتعاطى مع الواقع مؤلفة نهراً إيمانياً متدفقاً يروي الحياة وينشد إكتمالها، ويصنع الرجال ويبغي خيرها.. فلا يقاتلون على مغنم إلا أن يكون مرضاة لله، ولا يندفعون في سبيل شهوة إلا أن تكون إندفاعاً نحو الله، ولا يحرصون على سلطان إلا أن يكون سُلطاناً لله، ثمّ يجعلون من التلاحم والتراحم والتوادٍ فيما بينهم تلاحماً وتواداً وتراحماً بين الإنسان وأخيه الإنسان، ثمّ ما بين الإنسان والأسرة، فالمجتمع فالأُمّة فالكون.. حيث لله وحده الهيمنة والرعاية.
وإنّه لجدير بنا حين نتذكر رمضان، والليل فينا قد أوغل، كيف إنّ هذا الشهر المبارك سجل نقطة إنعطاف كبرى في تاريخ البشرية.. فإذا انزل فيه القرآن، ووجدت فيه ليلة القدر، فإنّه سجّل أوّل وأكبر وأروع إنتصار للإنسانية والإسلام، إذ حصلت فيه "موقعة بدر" حيث تمّ للرسول ولأصحابه ما أمّلوا أن يتحقق ويتم من إكبار لمجد الله، ومن عزّة للإسلام.. وذلك بعدما صبر الرسول وصابر وصبر معه المجاهدون وصابروا.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق