• ٢٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

سارق الوقت.. التلفزيون والطفل

جون كوندري/ ترجمة: رضا أحمد

سارق الوقت.. التلفزيون والطفل
يتحرك تيار الثورة البيولوجية ببطء، موفراً الفرصة لبعض التحولات الإحيائية عبر فترة تمتد لقرون عديدة من الزمن. أما الثورة الاجتماعية، فهي شيء آخر تماماً. إنها غالباً سريعة الإيقاع وغير قابلة للتنبؤ، بالنظر إلى كونها مدفوعة بالاكتشاف والاختراع. وتؤدي بعض الاختراعات إلى تغير محدود، غالباً ما يكون إلى الأفضل، وأحياناً إلى الأسوأ – كاختراع البارود على سبيل المثال – لكن بعض الاختراعات الأخرى تغير الثقافة والمجتمع بطرائق عميقة وغير متوقعة، لا يتم إدراكها إلا بعد أن تصبح قيد الممارسة. واليوم، هناك شيء ما خطأ فيما يتعلق بالأطفال، في الطريقة التي يتم تنشئتهم بها. وهو أمر واضح لا يحتاج إلى بيان. لكي نفهم طبيعة الدور الذي يلعبه التليفزيون في حياة الأطفال علينا أن نبدأ بإلقاء نظرة شاملة على احتياجات الأطفال. فكيف يتسنى للأطفال أن يصبحوا أفراداً نافعين في المجتمع؟ وكيف تعدُّهم سنوات سذاجتهم الطفولية لفترة البلوغ؟ وكيف يمضون أوقاتهم؟ ويمثل "الوقت" مقياساً مفيداً نظراً لأنّه – وخلافاً للثروة والفرص الاجتماعية المتاحة – هو السلعة نفسها بالنسبة للجميع. فإذا كان هناك أربع وعشرون ساعة في اليوم، وإذا كان أغلب الناس يظلون يقظين ست عشرة ساعة كل يوم، فإن إجمالي ساعات اليقظة المائة والاثنتي عشرة أسبوعياً سيمثل موضوعاً ملائماً للدراسة. فكيف يمضي الأطفال هذه المائة والاثنتي عشرة ساعة في الوقت الحاضر، وخاصة الأطفال بين سن الثالثة والحادية عشرة؟ حتى مئتي سنة مضت، كان أغلب الأطفال يمضون وقتهم، في المجتمعات المحلية والقرى التي يعيشون فيها، في ملاحظة الأفراد البالغين في أنشطتهم اليومية في العمل واللهو. وكان الأطفال يتعلمون المهارات والمواقف الضرورية التي تتناسب والمجتمع المألوف الذي لم يكن بعيداً عن متناولهم. وكانت المهارات والقدرات التي يطورونها، وهم أطفال، تفيدهم عندما يصبحون بالغين. وما كان يتم تعلمه في الأسرة في أحد الأجيال يُمارس من قبل أسر الجيل التالي.. كان الأطفال، بنينا وبنات، يكتسبون معرفة بالعالم كما هو ماثل في الأسرة وفي المجتمع المحلي. وقد بدأ شيء من ذلك يتغير بقدوم الثورة الصناعية. فالناس، وقد أخذوا ينتقلون بأعداد متزايدة من المجتمعات المحلية التي عاشوا فيها لأجيال عديدة إلى المدن، القديمة والجديدة، كانوا يبحثون على فرص اقتصادية واجتماعية جديدة. وفي العالم الصناعي الحضري الجديد، رأى الأطفال الحياة وراقبوها بطرائق جديدة تماماً. واخترعت المدارس لكي ترفد وتضيف إلى التعلم بالمشاهدة والملاحظة اليومية. ثمّ تغير الوضع على نحو أكثر درامية في السنوات الأخيرة. فأصبح الأطفال يمضون نحو 40 ساعة كل أسبوع في مشاهدة التليفزيون وممارسة ألعاب الفيديو. وعندما نضيف لذلك أربعين ساعة أخرى تأخذها المدرسة من وقت الأطفال أسبوعياً – بما في ذلك الوقت الذي يستغرقه الذهاب إلى المدرسة والعودة منها وأداء الواجب المدرسي في المنزل – فلن يتبقى لهم سوى 32 ساعة للتفاعل مع نظرائهم ومع الأسرة. فإذا كان لنا أن نفهم ما الذي يعرفه الأطفال عن العالم وعن أنفسهم، فسيتطلب الأمر أن نلقي نظرة مدققة على البيئات التي تخلقها الأسرة، والمدرسة، والنظراء، والتليفزيون بوجه خاص. وفي هذا الصدد فإن دور التليفزيون في خلق البيئة التي يتم في سياقها التكييف الاجتماعي للأطفال يعد موضوعاً جديراً بالدراسة.   - الدافعية لمشاهدة التليفزيون: يقترب الأطفال من التليفزيون ويشاهدونه بدوافع تختلف اختلافاً كبيراً عن الدوافع الشائعة لدى البالغين. فأغلب البالغين، وباعترافهم هم أنفسهم، يشاهدون التليفزيون بغرض الترفيه والتسلية. أما الأطفال فرغم أنهم يجدون التليفزيون مسلياً، فإنهم يشاهدونه لأنهم يسعون إلى فهم العالم. والعديد من البالغين ينظرون إلى ما يقدمه التليفزيون على أنّه تافه ومبتذل، وهم يشاهدونه بنوع من الشعور يمكن تسميته بـ"تعليق النكران". ومن أجل التسلية، فإنهم يقبلون بمجاوزة الصور الواقعية ويتفهمون – اعتماداً على المقدمات التي ينطلق منها البرنامج – لماذا يطير شخص ما في الهواء، أو يصبح غير مرئي، أو يقوم بأعمال تتجاوز قدرات البشر. فالدراما الخيالية، بحكم التعريف، تحتاج إلى ألا تكون محتملة أو واقعية أو حقيقية. والأطفال، في الوقت الذي يستمتعون فيه بأوجه التسلية التليفزيونية يجدون صعوبة أكبر، نتيجة لفهمهم المحدود للعالم، في الفصل بين ما هو واقعي وما هو خيالي. وهم عرضة للتأثر على نحو لا يحدث للبالغين. فالمؤثرات الأساسية في الأطفال – النظراء، المدرسة، التليفزيون – تعمل كلها معاً. والأطفال ليسوا خبراء في الفصل بين ما يتعلمونه في هذه السياقات المختلفة. والواقع أن جدوى وفائدة المعلومات التي يحصلون عليها من أحد هذه المؤثرات يعتمد جزئياً على ما تم تعلمه في السياقات الأخرى. فمن دون دعم الأسرة، يفقد أغلب ما يحدث في المدرسة أهميته. ولو انّ المدارس كانت أكثر فعالية، لما كان للتليفزيون كل هذا التأثير القوي. كما يمارس النظراء تأثيرهم ونفوذهم بالقدر الذي لا تمارس فيه الأسرة والمدرسة التأثير الخاص بكل منهما.   - العرض والمحتوى: العرض والمحتوى. كلما اتسعت مساحة العرض كان التأثير، بوجه عام، أكبر. كما تتحدد طبيعة ذلك التأثير إلى درجة معينة، بالمحتوى. ومع ذلك فإنّ العرض هو وحده الذي يؤثر في المشاهدين، بغض النظر عن المحتوى. إنّ التليفزيون سارق للوقت. فعندما يشاهد الأطفال التليفزيون لمدة أربع ساعات في اليوم، فإنّهم لن يفعلوا أياً من الأشياء العديدة الأخرى التي قد تكون في نهاية المطاف أكثر أهمية من زاوية نموهم. على أنّ التليفزيون هو أكثر من مجرد سارق للوقت، فمحتواه في البرامج وفي الإعلانات يؤثر بعمق في مواقف الأطفال، ومعتقداتهم، وتصرفاتهم. ويبدأ الأطفال بوجه عام بمشاهدة أفلام الكارتون عند سن الثانية. وفي نحو السادسة، يكون أغلب الأطفال – 90% على الأقل – قد تكونت لديهم عادة المشاهدة التليفزيونية. ومع اقترابهم من مرحلة وسط الطفولة – أي فيما بين السادسة والحادية عشرة – تصبح كميديات الموقف هي الأكثر شعبية لدى الأطفال. ويقبل الأطفال الصغار على مشاهدة أفلام الكارتون لأنّها محددة جيِّداً، فكل فعل يتم إبرازه في هيئات وصور تشد الانتباه، وبالتالي يساعد ذلك على تركيز الانتباه والفهم. ونظراً لأن انتباه الأطفال دائم التحرك، فإنّ المؤثرات الصوتية للتليفزيون تساعد على إعادة جذب انتباههم للشاشة. وفي أغلب الحالات، يكون الاستحواذ على انتباه الأطفال راجعاً لكون المادة المعروضة قابلة للفهم على نطاق واسع. والأطفال يفهمون جانباً من محتوى البرامج الفردية، لكن ليس بالطريقة التي يفهم بها البالغون. فهم لا يفهمون المشاهد المطولة، كما يفهمون بدرجة أقل دوافع الشخصيات الفردية ونواياها. وهم لا يملكون القدرة على استخلاص استنتاجات من الفعل غير المرئي، أي الفعل المضمر وإن كان لا يظهر مباشرة. فعندما يشاهد الأطفال العنف، على سبيل المثال، فربما استنتجوا، على طريقتهم الخاصة، أنّ "القوة تصنع الحق"، دون أن يفهموا الرسالة الأعمق المتضمنة في العمل المعروض والتي تفيد أن أفعالاً معينة هي مبررة أكثر من غيرها. أي أنهم يفهمون الفرضية القائلة "إنك إذا أردت شيئاً وملكت قوة أكبر من الآخر فإنك ستحصل على ما تريد". هذه الرسالة تبرز بشكل واضح في أفلام "مغامرة الأكشن" الكارتونية التي حلت محل العروض الحية التي كانت تعرض في التليفزيون للأطفال. ولقد ثبت أن كمية العنف في عروض الأطفال هي أكبر بكثير بالمقارنة مع برامج البالغين المعروضة في وقت الذروة. واكتشفت دراسة حديثة، على سبيل المثال، أن كل ساعة من برامج الأطفال تحتوي على 25 فعلاً عنيفاً بالمقارنة مع خمسة أفعال عنف في كل ساعة مشاهدة في برامج البالغين في ساعات الذروة، أي أنّ أفلام المغامرة/ الأكشن الكارتونية هي "قصص للقوة". فهل تؤثر مشاهدة مثل تلك القصص في سلوك الأطفال؟ تتفق مئات الدراسات التي أجريت منذ الستينات – دراسات تجريبية أجريت على أعداد محدودة من الأطفال، ودراسات ميدانية موسعة في ثقافات مختلفة، وباستخدام تقنيات متنوعة – تتفق اتفاقاً واسعاً على أنّ الأطفال المواظبين على مشاهدة التليفزيون، من كلا الجنسين، هم أكثر عدوانية من الأطفال الأقل مشاهدة، ولا تؤثر مشاهدتهم للعنف التليفزيوني في سلوكهم فحسب، بل تؤثر أيضاً في مواقفهم، ومعتقداتهم، وقيمهم. فالأطفال الكبار المواظبون على مشاهدة التليفزيون، على سبيل المثال، هم أكثر تخوفاً من العنف في العالم الواقعي، بوجه عام، والعديد منهم يفقدون الحساسية تجاه العنف، ويصبحون أقل تأثراً وانفعالاً به، وأقل استجابة له. ويقدم محتوى البرامج التليفزيونية الموجهة للأطفال الذكور والإناث في أدوار نمطية. ويظهر على الأطقال المواظبين على مشاهدة التليفزيون، في ألعابهم التي يقومون فيها بمحاكاة مواقف تجمع بين بالغين – وخاصة العاطفية والجنسية – أثر ما شاهدوه على شاشة التليفزيون. وفي الصور التي يرسمها للشبان الصغار، وللمسنين، وفي تصويره للأطباء ورجال الشرطة، وفي تعامله مع المعتلين نفسياً، فإنّ التليفزيون يشوه بصوره الفنية النمطية أوضاع الحياة الواقعية. مع تقدم الأطفال في العمر، يصبحون أكثر قدرة على فهم القصص المعقدة جزئياً لأنّهم أصبحوا يعرفون أكثر عن العالم، ومن ناحية أخرى لأنّهم يصحون أكثر تعوداً على أشكال وبنية العروض التليفزيونية. فهم يجدون كوميديات الموقف مقبولة وسائغة، ويحبون أفلام الكارتون، ويشد انتباههم تسلسل الأحداث الضاحكة أكثر مما تشدهم الأصوات غير العادية، لكن التأثيرات في الانتباه والفهم تبقى كما هي. لقد أصبحت كوميديات الموقف، بمرور السنوات، واحدة من أكثر الأشكال التليفيزيونية شعبية وبقاء. وهي تخلو من العنف، كما أنّها تعرفهم بعادات وقيم ثقافاتهم، وخاصة ما تعلق منها بالسلوك الجنسي. ومع تقدّم الأطفال نحو بداية فترة المراهقة، مابين التاسعة والعاشرة، تصبح أذواقهم أكثر تمايزاً من زاوية نوع الجنس (الذكورة والأنوثة). فيبدأون بالتشبه بأذواق البالغين، فتحب البنات المسلسلات التمثيلية المنزلية، اعتقاداً منهنّ أنّها تعلمهنّ أمور الحياة. على حين يحب الأولاد مغامرات الأكشن، للعديد من الأسباب نفسها. إن مغامرات الأكشن في العروض التليفزيونية تصور الذكور في أدواء البطولة، وعادة ما ينتصرون على الشخصية الشريرة. وهذا النوع من الرسائل يخاطب الأولاد بشكل خاص. كذلك تخاطب العروض التي تصور الأبطال الرجال، البنات. لكن العكس ليس صحيحاً: فالأولاد يميلون إلى تجنب البرامج التي تلعب فيها المرأة أو الفتاة الأدوار الرئيسية. وذلك أحد أسباب قلة البرامج التليفزيونية المخصصة للأطفال والتي تلعب فيها الإناث الأدوار الرئيسية.. فهي ببساطة ليست مربحة كالبرامج الأخرى.   - ما الخطأ في هذه الصورة؟ ألا يفعل الأطفال الآن ما كانوا يفعلونه دائماً، فيراقبون المجتمع من أجل إدراك ومعرفة موقعهم داخله؟ ألا يحيطهم التليفزيون علما بالعادات والأخلاقيات السائدة في مجتمعهم تماماً كما كانوا يكتسبون تلك المعلومات – في أزمنة سابقة – من ملاحظة الأشخاص المحيطين بهم؟ إنّ الإجابة البسيطة عن هذا السؤال: نعم ولا. نعم، من حيث إنّ الأطفال يفعلون ما كانوا يفعلونه دائماً، بقدر أقل من المساعدة من أي وقت سابق من جانب البالغين المحيطين بهم. ولا، لأنّ التليفزيون لا يزودهم بمعرفة عن العالم، بل يزودهم باستمرار بمعرفة خاطئة عن هذا العالم. فالتليفزيون ليس مخصصاً لتزويدهم بمعلومات عن العالم الواقعي. وعندما يستخدم على هذا النحو، فإنّه يقوم بعمل هزيل تماماً. إنّ مهمة صناع برامج التليفزيون هي الاستحواذ على انتباه الناس، والإمساك بهم لفترة تكفي للإعلان عن منتج. وفي ضوء السيكولوجيا الإنسانية فإنّ هذا العمل ليس سهلاً. فالكائنات الإنسانية تضجر بسرعة ويتضاءل تأثرها بسهولة. ولكي يحصل التليفزيون على انتباهنا، فلابدّ له أن يتغير باستمرار. إن اهتماماته محصورة في الحاضر المباشر فحسب، وهو غير معني بالبحث في مشكلات تتحدى الحلول قصيرة الأمد. فالقلاقل الحديثة العهد في لوس أنجلوس، والتي تحتل أخبارها وقت المشاهدة الممتاز طوال أسبوع، سيتم نسيانها خلال شهر، إذا ما كان للتليفزيون أن يُعتبر مرآة للذاكرة الجماعية. وليس هناك من سبب من وجهة نظر الدراما التليفزيونية لأن تعنى بالواقع. فإذا كان تحريف الواقع يشد انتباه الجمهور، إذن فالتحريف هو المطلوب. فالظفر بانتباه المشاهدين هو الاهتمام الأساسي للتليفزيون. وحتى ذلك الجزء الذي يقال إنّه "تعليمي" – وعلى الرغم من أنّ التليفزيون التعليمي ليس معنياً، في أغلبه، ببيع المنتجات – فإنّه ينافس التليفزيون التجاري في جذب الجمهور. إنّ التليفزيون يعيش في الحاضر. وهو لا يكترث بالماضي، ولا يبدي سوى القليل من الاهتمام بالمستقبل. وتشجع مشاهدة التليفزيون على مثل هذه المواقف، وهي مواقف تنطوي على نتائج وخيمة بالنسبة للأطفال. فإحدى الوظائف الأساسية للتعليم، سواء في المنزل أو في المدرسة، هي ربط الماضي بالمستقبل، من أجل توضيح كيف ينبثق الحاضر من الماضي، وكيف يرتبط المستقبل بكليهما. والتليفزيون تحكمه الساعة. فأيّاً كانت الدراما أو المادة التي يتم عرضها فلابدّ أن تحل حبكتها أو تكتمل عناصرها مع موعد نهاية البرنامج. فالمنتجات هناك تنتظر البيع، والوقت يملي الانتقال إلى برنامج آخر، وإلى منتجات أخرى. ويشبه التليفزيون المدارس في هذه الناحية على الأقل. فلو أن طالباً أثار اهتمامه موضوع بعينه، ولو أنّ مناقشة كاشفة ومثيرة بدأت قبل لحظات من دق الجرس، فلا فكاك هناك من طغيان الساعة.. لقد دق الجرس، أي أنّه قد حان الوقت لتغيير مادة الدراسة. إنّ هثل هذه المواقف تبتذل الاهتمام وتعوق التعلم، إنّها تخبر الأطفال ألا يصبحوا مستغرقين تماماً في أي شيء. لا عجب إذن أن يذكر المدرسون أن انتباه الأطفال يتشتت، وأنهم لا ينغمسون في شيء لفترة طويلة، حتى الأشياء التي يختارونها لأنفسهم؟ فلا التليفزيون ولا المدرسة يعززان الاهتمام بموضوعات تتعدى ما تسمح به الساعة، وهو ما يبتذل عملية السعي إلى المعرفة. ولا يبدي التليفزيون أي حب استطلاع حقيقي، وحب الاستطلاع ليس بالصفة الشائعة بين الأطفال المدمنين على مشاهدة برامجه. فالتليفزيون، العارف بكل شيء، لا مجال لديه لعدم الوضوح، فالغموض أو الإلغاز الواقعي يستغرق وقتاً لكي يُفهم، وهو يفترض توافر قاعدة أساسية للمعرفة، تحفزها أوضاع العالم الواقعية. وإذا كان الأطفال اليوم قساة مع بعضهم البعض، كما يردد الكثيرون، ويفتقرون إلى الشفقة، ويهزأون بالضعف، ويحتقرون الناس الذين تتبدى حاجتهم إلى العون سافرة.. فهل يمكن إرجاع هذه المواقف لما يعرض في التليفزيون؟ إنّ الفقراء وسيئي الحظ، عندما يُقدمون في التليفزيون، يظهرون في صورة تثير السخرية. ويتطّلع الأطفال، الباحثون عن "العلاج السريع"، إلى الحياة الطيبة كما يعرِّفها التليفزيون – أي امتلاك الأشياء – لكنهم لا يعرفون كيف يحصلون عليها. فكيف يتأتى لهم ذلك؟ إن إظهار البشر العاملين هو نوع من الجرم في نظر التليفزيون، أو هو مضيعة للوقت! فهو يسفر عن تليفزيون ممل، وذلك أمر غير مسموح به. فكل دقيقة في التليفزيون ينبغي أن تحمل إثارة، وكل حدث يتعين أن يشد الانتباه. وفي ظل ظروف كهذه يصبح من المستحيل طرح العلاقة السببية بين العمل والثروة، أو أيّة علاقات أخرى لا يسهل تصويرها أو تجسيدها بصرياً.   - ما العمل إذن؟ ينبغي علينا أن نكف عن خداع أنفسنا فيما يتعلق بالتليفزيون. وعلينا أن نبدأ في التصرف في ضوء ما نعرفه الآن. إن بعض الآباء ربما لجأوا إلى تقليل الوقت المسموح به للأطفال لمشاهدة التليفزيون، متذرعين في ذلك بالعذر الذي يستخدمونه: إذا ما كان الطفل لا يرغب في أكل شيء سوى الرقائق المجمدة، فمثل هذه الوجبة مضرة بالصحة. إنّ الضرر الشخصي، المجتمعي، والبدني، والعقلي حال وواقع. لكن لن نجد كل الآباء يقولون ذلك، ولن نجد كل الآباء يصدقون ذلك. إنّ على الآباء الذين يدركون ذلك الخطر أن يتحدثوا عما يشاهدونه في التليفزيون مع أطفالهم، معلقين على الأجزاء التي تبدو زائفة ومضللة بشكل خاص.. إنّ ذلك قد يساعد، لكن علينا أن نلاحظ أن أغلب الأبحاث التي أجريت على أنماط مشاهدة الوالدين والأطفال للتليفزيون توضح أنّ الوقت الذي يقضونه في مشاهدة البرنامج المعروض معا ضئيل نسبياً، فيما عدا فترة المساء في بعض المنازل التي يتحكم فيها الوالدان في محتوى البرنامج. وسوف يتحدث الوالدان الحكيمان مع أطفالهم حول البرامج التي يشاهدونها في فترى المساء المبكر، ويوم السبت وصباح الأحد، حيث يكون البالغون غير حاضرين. إن ذلك قد يجعل الأطفال أكثر حذرا من استخدام التليفزيون كمصدر رئيسي للمعلومات عن العالم. وإذا كنا نقبل بواقع أنّ الأطفال سيشاهدون بعض برامج التليفزيون، فإن علينا أن نفعل ما بوسعنا لتحسين ما هو متاح لهم من برامج تليفزيونية. إن من الضروري أن تموِّل بشكل كاف البرامج التعليمية الجيِّدة، بصورة تفوق بكثير التمويل المتوافر الآن، كذلك يتعين أن تنتج البرامج المفيدة للأطفال بأعداد أكبر. وليس هناك من سبب في أن توصف هذه البرامج بأنها غير مسلية. وسوف تتنافس هذه البرامج بالضرورة مع البرامج المنتجة تجارياً، ولن يكن الفوز في المعركة سهل المنال. على أنّ القتال بضراوة من أجل صحة وسعادة الأطفال أمر يستحق العناء. كما أنّ الأطفال في حاجة إلى أن يتعلموا الكثير، في المدرسة، عن التليفزيون، سواء عن برامجه أو إعلاناته. إننا في حاجة إلى أن نعلم الأطفال مجالات استخدام التليفزيون، وفي أيها لا يكون مفيداً. ولو أنّ الأطفال تعلموا أنّ الحصول على السلع ليس هو الهدف الأسمى في الحياة، وأنّ العديد من القيم التي يتلمونها من برامج التليفزيون وإعلاناته تتناقض مع ما يتعلمونه في المدرسة، فسيكون ذلك أمرا عظيم الفائدة. وبدلاً من تجاهل التليفزيون، يتعين على المدارس تشجيع الأطفال على مناقشة البرامج والأفكار، الطيبة والسيئة، التي يقدمها التليفزيون لمشاهديه. كما يتعين على المدارس أن تنظم برامج تعليمية لتعليم الأطفال أن يكونوا مشاهدين ناقدين للتليفزيون، وأن يفعلوا ذلك منذ سن مبكرة جدّاً. وعليها أن تتيح لهم استخدام معدات فيديو لصنع عروض وإعلانات صغيرة، حتى يفهموا بأنفسهم كم هو سهل بالنسبة للكاميرا أن تحرّف الواقع.

ارسال التعليق

Top