إنّ في سورة الفاتحة فكرة واحدة تسري فيها، فتجعل السورة كلّها قائمة عليها، دائرةً حولها، في ترابط وانسجام رائعين. تلك الفكرة هي فكرة "التربية".
وقد أشارت السورة إلى ذلك في قوله تعالى: (ربّ العالَمين)، فمن معاني الرب: المربي. ولا غرابة أن تكون الفاتحة سورة التربية، إذ هي مقدمة القرآن الكريم، كتاب الرسالة الإسلامية، وما الرسالات الإلهية إلّا رسالات تربوية، يربي الله تعالى في كلّ منها أحد رسله تربية مثالية، ثمّ يكلفه بتربية أُمّته التربية السليمة.
وكلّنا نعلم أنّ "المعلم" يربّي طلابه، والتربية قسمان: أوّلهما تعليم الطلاب الحقائق الهامّة، وثانيهما غرس الأخلاق الكريمة الفاضلة في قلوبهم.
كما نعلم أنّ المعلم يقوم بامتحان طلابه بعد أن يبيَّن لهم المواد العملية والنظرية التي سيمتحنون فيها، وأنّ هذا الامتحان تعقبه محاسبة الطلاب على أجوبتهم عن أسئلة الامتحان، وأنّه بعد انتهاء الحساب، وظهور نتائج الامتحان، يصنِّف المعلم طلابه إلى صنفين اثنين: ناجحين، ومخفقين (راسبين).
والدين بأسره مواد علمية؛ نظرية وعملية، يكلف الإنسان بدراستها وتطبيقها والالتزام بها في حياته كلّها، ثمّ يمتحن بها، وما أفعاله وأقواله في حياته كلّها إلّا أجوبته على أسئلة هذا الامتحان العظيم، ثمّ يوم القيامة يُزاح الستار عن نتائج الامتحان، ويصنف الناس إلى قسمين: ناجحين مفلحين، وهم الذين (أنعمت عليهم)، ومخفقين راسبين، وهم "المغضوب عليهم والضالون".
وما "الصراط المستقيم" إلّا المنهج التربوي المبني على "إيديولوجية" الإيمان بأنّ هذا الكون بأسره مخلوق لله تعالى وحده، خاضع كلّ الخضوع لأمره، فهو ربّ العالمين وراحمهم.
والخلاصة أنّ سورة الفاتحة هي سورة التربية: فالله هو المربي، والناس هم المعرَّضون لهذه التربية، والصراط المستقيم هو منهج التربية ومبدؤها، والحياة الدنيا هي دار الامتحان، ويوم الدين هو يوم الحساب، وإعلان نتائج الامتحان، وتصنيف الناس إلى ناجحين ومخفقين.
ومن ناحية أخرى، فالسورة تترابط أجزاؤها ترابطاً متسلسلاً كما يلي:
أ. تبدأ السورة بنسبةِ الحمدِ كلِّه لله.
ب. تبيِّن السورة جدارته تعالى بهذا الحمد، فهو يستحقه لأنّه يتصف بالصفات التالية:
1- أنّه ربّ العالمين، فهو خالق المخلوقات جميعاً، ومربيها، وسيِّدها، ومالكها، ويتضمن ذلك أنّه تعالى قدير عليم حكيم سميع بصير.
2- أنّه الرحمن الرحيم الذي شمل المخلوقات بواسع رحمته.
3- أنّه مالك يوم الدين، يوم يقيم العدل بين الناس، وينصف بعضهم من بعض، ويعطي كلّ ذي حقّ حقّه، فهو لذلك جدير بالحمد.
جـ. ولما كان الله تعالى يتصف بهذه الصفات الحميدة؛ من رحمة، وقدرة، وعلم، وكان الإنسان معرضاً للتكليف والامتحان، ومخلوقاً ضعيفاً لا يقوم بذاته، فإنّه جدير بأن يتوجه إلى الله القدير بالعبادة (إياك نعبد)، وأن يسأله المعونة (وإياك نستعين)، على حمل عبء المسؤولية التي ستعلن نتائجها (يوم الدين).
د. أعظم معونة يهديها الله إلى عبده هي هدايته إلى نهجه القويم (الصراط المستقيم)، فليطلب هذه الهداية منه تعالى.
هـ. وهو الطريق الذي يسلكه من أنعم الله عليهم.
و. وهو الطريق الذي يتجنبه من يسيئون العمل فغضب الله عليهم، أو من ضلُّوا فهلكوا.
· فاتحة الكتاب:
سُمّيت السورة باسم (فاتحة الكتاب) لأنّ كتاب الله يُفْتَتَحُ بها. وانتقاء فاتحة لكتاب أمر يحتاج إلى حكمة وذوق، فالناس يتأثرون أشد التأثر بالمنظر الأمامي للأشياء، والمقدمة من الكتاب كالوجه من الإنسان، ينبىء عما في داخله، فهو إمّا أن يجتذب المشاهد إليه، وإمّا أن ينفِّره منه.
وفاتحة الفاتحة هي البسملة (بسم الله الرحمن الرحيم)، وما أعذبها من كلمات، تجتذب إليها القلوب بينبوع الرحمة المتفجر من ثناياها.
وقد بُدىء الكتاب كلّه بالبسملة للتعريف باسم صاحب الكتاب، جل جلاله، وهو أمر ضروري، يساعد على تقدير قيمة الكتاب. وما من كتاب قد أُلِّف قديماً أو حديثاً إلّا ذُكر اسم مؤلفه في أوّله.
والسورة أهل لأن تكون فاتحة للكتاب؛ لأنّها تعرض مبادئه الأساسية بكلّ وضوح، فتبيِّن أنّ الكتاب قد أنزل لتربية الناس وتعليمهم ما ينفعهم ويوصلهم إلى السعادة الدائمة ويبعدهم عن الشقاء الدائم. وتبيّن أنّ لهذه التربية منهجاً خاصاً يجب الالتزام به، وإيدولوجية خاصة، تقوم على الإيمان بالله خالق هذا الكون، وأنّ على الإنسان مسؤوليات معينة يجب أن يتحملها. والسورة إنذار صريح للناس بمصيرهم السيِّئ إذ هم فرطوا في القيام بمسؤولياتهم.
المصدر: كتاب نظرات جديدة في القرآن المعجز
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق