إذا كان الاستهلاك في سياقه العام يعني استخدام المنتوج الاجتماعي في عملية تلبية الحاجات الإنسانية، فإنّ الاتجاه الاستهلاكي في "المجتمع الاستهلاكي" – موضوع بحثنا هذا – هو ليس مجرد سعي للاستهلاك من أجل أن يكون الإنسان إنساناً، بقدر ما هو استهلاك من أجل الاستهلاك.
أي استهلاك منتزع من صلته العضوية بالقيم الإنسانية، وبعملية الصرف الابداعي للامكانات والقوى التي يقوم بها الإنسان. فحق الاستهلاك هنا يدفعه الإنسان ثمناً لحق الابداع.
إنّ استملاك الأشياء أصبح ثمناً في هذا المجتمع لفقدان الشخصية، فالأشياء المنتجة لم تعد تشكل شروط عيش ونشاط الإنسان، بل تحولت إلى مثيل له، أي أنّ – الأشياء – أصبحت هي المقياس الذي يحدد قيمة الإنسان وسمعته الحسنة وثقله وتأثيره على غيره أو أمثاله.
ومن نافل القول التأكيد على أن علاقة الإنسان بالشيء (السلعة)، لا يجوز فهمها على أنها استخدام ذو اتجاه واحد من حيث امتلاكه أو استهلاكه، ان علاقة الإنسان بالشيء في سياق هذا التصور، قد أفقدت هذه العلاقة جوهرها الإنساني. أي أنّ الشيء لم يعد ذا قيمة إنسانية تنطبع فيها كل عملية التطور التاريخي الطويلة، أو بكلمة أخرى، لم تعد تظهر فيه تلك الجهود، والتجارب، والمعارف، والأذواق، والامكانات، وحاجات الأجيال العديدة من الناس. ففي الشيء المؤنسن، تظهر حظوة الإنسان وتاريخه الحقيقي وسيرته الاجتماعية وعناصر فرديته وحياته الإنسانية الواقعية.
كل هذه القيم الإنسانية للشيء، أفقدتها طبيعة المجتمع الاستهلاكي التي أفرزتها أشكال حركة الملكية الخاصة في النظام الرأسمالي المعاصر، والتي راحت بدورها تعمل على خلق انسانها الجديد ذي البعد الواحد والذي لم يعد الشيء بالنسبة له ذا قيمة، إلا إذا امتلكه أيّ استهلكه. والاستهلاك في المحصلة يتحول هنا من وظيفته الاقتصادية والاجتماعية، إلى عقيدة، وذوق، وسلوك، وأسلوب حياة.
- الجذور الاقتصادية والفلسفية للمجتمع الاستهلاكي:
في الفترة التي لم يعد فيها أسلوب الانتاج الصناعي القديم ذي الطابع الحرفي بقادر على تلبية حاجات الأسواق المتزايدة، بدأت آنذاك الارهاصات الأولية للثورة البرجوازية تظهر مع حلول (المانيفاكتورة)، وراحت الفئة الصناعية المتوسطة تحل مكان المعلمين وأصحاب الحرف.
ومع اتساع الأسواق وزيادة الطلب على المنتجات، أصبحت (المانيفاكتورة) نفسها عاجزة عن تأمين الحاجات الضرورية للإنسان. عندئذ أحدثت الآلة البخارية انقلاباً في الانتاج الصناعي، وحلت الصناعات الكبيرة الحديثة بقيادة الطبقة البرجوازية الجديدة في السوق بدل المانيفاكتورة، الأمر الذي شجّع الاقتصادي الفرنسي "ساي" ليطلق آنذاك صيحته التاريخية لهذه الطبقة الوليدة: "أنتجوا....". هذه الصيحة التي استطاعت فيما بعد أن تحلل كل ما تبقى. إذ أخذ الانتاج الكبير يخلق الأسواق العالمية التي قادت بدورها إلى توسع التجارة والملاحة والمواصلات. هذا التوسع الذي أخذ ينعكس أيضاً ضمن علاقة جدلية مع الانتاج ليعمل فيما بعد على تشكيل الطبقة الرأسمالية المعاصرة بثوبها الجديد (الكوسموبوليتي).
إنّ هذه التحوّلات المادية الضخمة في الاقتصاد، رافقتها بالضرورة تحولات فكرية مهدت لانتصار الثورة البرجوازية من جهة، ثمّ العمل على خلق الظروف الثقافية والنفسية المطابقة أو المناسبة لهذه الثورة من جهة ثانية.
فمع دخول الإنسان عصر النهضة، (عصر التنوير) أخذ يحضّر أيديولوجيا لقيام الثورة البرجوازية. فانسانيّو عصر النهضة باهتمامهم بتركة القدماء الفكرية عملوا على وضع حجر الأساس للحضارة الجديدة – أي للحضارة المدنية – ذات الطابع الإنساني، هذه الحضارة الموجهة أصلاً للإنسان والصادرة عنه معاً، الصادرة عن إمكاناته وابداعاته الروحية البعيدة عن أيديولوجيا العصور الوسطى عموماً. لقد توجهت الروح الإنسانية هنا إلى الفرد الذي اعتبر غاية الحياة ومنطلقها، أي المقياس الحقيقي للإبداع الحضاري. فالنزعة الإنسانية لهذا العصر، هي التي كشفت هذا النوع من النشاط وأكدت كأنموذج أساسي للتطور الحضاري اللاحق.
إنّ هذا التصور الجديد الذي يقول عن الإنسان بأنّه شخصية حرة مستقلة تمتلك القدرة على الخروج من حدودها الخاصة (الفيزيائية)، للوصول إلى التكامل والعمومية من خلال جهده الشخصي، هذا التصور، يعتبر الاكتشاف الرئيس للإنسانية، والذي سمِّي "باكتشاف الإنسان". الاكتشاف الذي لم يقتصر على الطابع النظري فحسب، بل كان طابعاً عملياً أيضاً، عبر عنه الإنسان بشكل انجازات ملموسة لعباقرة عصر النهضة.
إنّ فلاسفة عصر التنوير الذين استطاعوا باسم الدعوة إلى اعتبار الفرد المهتم بمنفعته الشخصية والمغموس بمصالحه الخاصة، يمكن أن يصبح في الوقت نفسه كائناً عالي التمدن وحاملاً لأعلى قيم الحضارة الإنسانية، ولكونهم قد اعتقدوا بأن قانون المنفعة الشخصية يمكن أن يجتمع بوفاق مع مبادئ الحرية والعدالة والمساواة بين الناس، ومع مبادئ النظام العادل للحياة الاجتماعية، كانوا في الحقيقة قد هيّؤوا تاريخياً طبقة جديدة باسم التنوير، راحت تعمل لوراثة تقاليد الحضارة الماضية. إنّ الفرد الذي تكلم عنه المتنورون والذين عملوا على رفعه إلى مستوى ذات النشاط التاريخي الحضاري، أصبح هو نفسه الممثل النموذجي فيما بعد للطبقة البرجوازية. فعندما أدرك هذا الفرد نفسه – أي وعى ذاته – وراح يتحدث بصوته الخاص، لم يعد هناك مجال لكل الوهم المتولد من قبل التنوير حول الرسالة التاريخية الإنسانية التي ستقوم على اكتشاف فرد التنوير هذا.
إنّ التركيز على الفردية وتنميتها، دفع إلى تشكل الفرد البرجوازي ومن ثمّ الطبقة البرجوازية والعلاقات الرأسمالية، هذه العلاقات التي استطاعت في وضعيتها المعاصرة أن تعمل جاهدة على تقويض أزمتها "الإنسانية" أي بطلان تلك القيم والمبادئ والمفاهيم التي طرحها فلاسفة عصر التنوير. فالرأسمالية المعاصرة لم تعد قادرة على أن تحافظ على الفرد المبدع في عملية الانتاج عن طريق وسائل التكنولوجيا وتنظيمها، ان كل الذي وصلت إليه من ثورتها التكنولوجية، هو احلال هذه الآلة بدلاً عن الإنسان، والعمل على تغريبه واستلابه وتشييئه. فمن خلال الآلة قامت بنسخ وتكرار ونقل المنتوجات الحضارية المعدّة للاستهلاك الجماهيري. أما تطور الفرد الروحي وتشبعه الابداعي وادراكه لحياته وعلاقاته الخاصة ذات المعنى الإنساني العام، فلم يعد لها أي وجود أو حيز في رؤيتها التطورية تلك. ان ما راحت تسعى إليه هو تجهيز مجموعة من القيم الروحية المحضّرة آليا، والتي تعمل على خدمة الفرد كوسيلة خارجية ومساعدة للتكيف مع الوضع المباشر. انّ العلاقات الرأسمالية المعاصرة عملت على شل الروح الإنسانية، أو كما يقول نيتشة: انّ الإنسان مات في هذه الحضارة.
بكلمات أخرى نقول: انّ النظام الرأسمالي المعاصر لم يعد قادراً أن يتابع أهدافه الإنسانية السامية التي طرحها في بدء قيام الثورة البرجوازية على ألسنة فلاسفة عصر التنوير، هذه الأهداف التي ركزت على اعتبار الإنسان كائناً عاقلاً ذا مسؤولية معنوية، بل على العكس من ذلك، لقد عملت على اضعافه وافقاده لوجهه العملي، واخضاعه للآلة ذات الانتاج الجماهيري ذي الطابع الاستهلاكي. انّ هذا النظام راح يعمل بعمق على تغريب نفسه أيضاً عن إنسان عصره، أي لم يعد قادراً على إعادة هيكلة نفسه بما يخدم الإنسان، وهنا تكمن المشكلة الأساسية للنظام الرأسمالي، وهو عجزه عن جعل الإنسان محتوى واقعياً وإنسانياً، وهدفاً للعملية التاريخية الحضارية التي حدد معالمها فلاسفة عصر النهضة كما أسلفنا سابقاً.
ان ماتم في هذا النظام من افراط في الانتاج دون حدود أو قيود أدّى إلى انتصار التطور المادي الكمي والفرداني للرفاه. لقد افترض هذا النظام أن جودة العيش الإنساني تتحقق مع تراكم الانتاج المنسكب في دائرة المستهلك الفارغة، كما أنّ الوجاهة الاجتماعية ارتبطت هنا أكثر من أي وقت مضى، بالحيازة الشخصية للأشياء أو بانتهاج أنماط عيش ظاهرية معيّنة. انّ النظام الرأسمالي المعاصر الذي قام على الفردانية في نزعته الإنسانية، وعلى الربح واقتصاد السوق في نزعته الاقتصادية، خلق دون أن يدري بنية المجتمع الاستهلاكي الفردي، هذا المجتمع الذي حابى روح الاستهلاك الفردي على حساب الاهتمام بالتضامن والعدالة الاجتماعية.
- البنية الاقتصادية والاجتماعية للمجتمع الاستهلاكي:
إذا كان منطلق النمو المعاصر للرأسمالية، هو التركيز على انتاج الحاجات الفردية القادرة على تحقيق أكبر قدر من الربح للمنتج، دون النظر إلى الحاجات الأساسية للإنسان الجمعي، مثل حماية الطبيعة، وصيانة المدن، وتأمين المواصلات والصحة والتعليم، والثقافة... إلخ. فمن هذا المنطلق بالذات تأتي علاقة التناقض بين حركة الرأسمال الخاص وحاجات الإنسان الأساسية، من أجل بقائه وتطوره.
إنّ هذا التناقض الذي يخلقه اقتصاد السوق بالضرورة يهدف إلى تأمين رغبات ثانوية معدّة للاستهلاك والربح السريعين. وهذه الرغبات التي تأخذ الطابع الفرداني عموماً، غالباً ما تكون مسبقة الصنع وتافهة، في الوقت الذي توظف لها استراتيجيات هائلة ومتنوعة من الدعاية والاقناع لاقتنائها، ومن أجل إيصال المستهلك الذي يظن نفسه حرّاً، بينما هو في الواقع غير ذلك – إلى مرحلة الاستلاب والتمتع بسيادة وهمية من الصناعات والرغبات التي حددها له المنتج مسبقاً – تؤكد جملة المنتوجات المعروضة في الأسواق، مع ما يرافقها من حملات دعائية (وغالباً ما تبثّ الدعاية لمنتوج ما حتى قبل أن ينزل إلى الأسواق) أن ما ينتج بمعظمه تقريباً، كثيراً ما يحدده المنتج للمستهلك، فالطلب تحدده رغبة المنتج، وليس رغبة ومصالح المستهلكين المتبصرين، فالمنتجون في هذه الحالة يمتلكون وسائل الاقناع الخفية والظاهرة، هذه الوسائل التي سخّرت لها أرقى أنواع التكنولوجيا والبحوث العلمية والتي يأتي في مقدمتها "علم النفس"، مستخدمة في ذلك الصوت والصورة والأداة الجذب المستهلك وإيقاعه في فخ المنتج، بل تحويل المستهلك نفسه إلى عبد مسلوب الارادة تجاه السلعة، أي تحويله إلى مستهلك حسب الطلب والقياس، مستعداً لشراء أي شيء وحتى أتفه السلع.
إذا، انّ القيم المتبعة في الانتاج هنا، تعمل جاهدة على مطابقة القيم المهيّجة للإنسان، أي القيم المحققة للّذّة والشهوة التي تزيد دائماً من شعور الإنسان بعدم الاكتفاء، هذا الشعور الذي راح اقتصاد السوق في المرحلة الرأسمالية المعاصرة، يركز على تنميته – أي الشعور بعدم الاكتفاء – من خلال السلع المنتجة والمعدّة بشكل مسبق لمن يمتلك القدرة الشرائية. لذلك نستطيع القول هنا: انّ المجتمع الاستهلاكي يعبّر في حقيقة الأمر عن الأفراد القادرين على الدفع.
فعلى سبيل المثال: ان الانتاج الغذائي في البلدان الغنية مرتبط بالطلب المليء – أي القادر على التسديد – وليس الطلب المعدّ لحاجات الإنسان الأساسية، إلا أنّ الأشد خطورة في هذه الوضعية، هو أنّ الدول النامية الآن في كل من أفريقيا، وآسيا، وأمريكا اللاتينية، يعانون من الجوع وذلك ليس بسبب رجل آخر قادر على الدفع، بل بسبب حيواناتهم أيضاً. فالاستهلاك الحيواني في البلدان الغنية، مؤمن قبل الاستهلاك البشري في هذه الدول النامية، فعلى سبيل المثال لا الحصر، ان ما تأكله حيوانات الدول المتقدمة من الحبوب، يساوي ربع انتاج العالم أي ما يعادل استهلاك سكان كل من الصين والهند "مليار و300" مليون نسمة. أما في فرنسا، فان استهلاك الحريرات اللازمة لـ"ثمانية ملايين كلب وسبعة ملايين قط" يوازي استهلاك سكان البرتغال. وما يلقيه الأمريكيون المترفون خلال عام في قماماتهم من فوائض، يكفي لاطعام مدة شهر مجمل بلدان افريقيا. ان طبيعة المجتمع الاستهلاكي في أوروبا، فرضت أن ينوجد للحيوانات ما ينوجد للإنسان، بل أفضل من ذلك فلهم حلاقوهم، وخياطوهم، ومطاعمهم... إلخ.
إنّ شعوب الدول النامية، والملايين من الفقراء في دول العالم المتقدم ولدوا في عالم مملوك لقلّة من ملوك المال، يتحكمون بكل شيء في هذا العالم، بل هم يعملون منذ قيام الثورة الصناعية على خلق العالم كما يرغبون، أي بما يتناسب وتحقيقهم للربح، لذلك أصبح الإنسان المملوك هنا والذي حلت بدلاً عنه أعلى وسائل التكنولوجيا، مرفوضاً ومحرماً عليه العيش كإنسان، بل يمكن القول: ان وجوده كذات غير قادرة على الاستهلاك المسبق الصنع يشكل عبئاً على مجتمع الرفاه والسعادة الذي حددته طبيعة المجتمع الاستهلاكي، مجتمع التنمية القادرة على الدفع والثمن.
فلابدّ إذا من استهلاك هذا الإنسان نفسه ككتلة بشرية، وعليه أن يترك المجال للآخرين المترفين أن يتابعوا حياتهم برفاه، ولكي يتابع هؤلاء حياتهم عليهم أن يجسدوا آراء "مالتوس" اللاإنسانية، هذه الآراء التي تقول على أن: "كل الأطفال الذين سيولودون بأكثر من حاجتنا، يجب أن يفنوا بالضرورة إلا إذا فسح لهم المجال بالموت وهم كبار". والتي تقول أيضاً "فبدلاً من أن نوصي بالنظافة للفقراء، فإن علينا أن نشجع العادات المعاكسة... علينا أن نحشر مزيداً من السكان داخل المنازل... ونجعل الطريق أضيق ونهيِّئ الجو لعودة الطاعون... علينا أن نمنع هؤلاء النفر الخيّر الذين يعتقدون بأنهم يقدمون خدمة للإنسانية بتبنّي برامج تهدف إلى القضاء الكامل على الأمراض والأوبئة".
وما نراه الآن تحت راية النظام العالمي الجديد، وتحت الشعارات البراقة للمؤسسات المحركة من قبل مهندسي هذا النظام مثل شعارات "التنمية السكانية" وغير ذلك، الا امتداداً بهذا الشكل أو ذاك لنظرية مالتوس، ولكن بلبوس إنساني يخفي وراءه النوايا السيِّئة الهادفة لتحقيق التوازن السكاني بين القلة المترفة القابلة للاستهلاك، وبين الكثرة الفقيرة التي تشكل خطرا على رفاه تلك القلة. فهذا "يول ايرش" في كتابه "القنبلة السكانية" يقول: "السرطان نمو خارج السيطرة للخلايا والانفجار السكاني هو تكاثر خارج عن سيطرة الناس، علينا أن ننقل جهدنا لاجتثاث السرطان... وهذه ستتطلب الكثير من القراءات الوحشية البعيدة عن الشفقة".
إنّ الصيغة العملية لنظرية مالتوس راحت تمارسها الدوائر الاحتكارية بطرق ووسائل عديدة يأتي في مقدمتها خلق بؤر للتوتر، وتشجيع سباق التسلّح، وتصنيع أسلحة التدمير الشامل وغير ذلك.
فعلى سبيل المثال، لقد بلغت النفقات العسكرية لدول العالم بليون دولار عام 1985، وأن مجموع ما أنفقه العالم على التسليح منذ بداية هذا القرن وحتى عام 1979 (7500) مليار دولار، أي ما يعادل (2500) دولار لكل نسمة اليوم، أو ما يكسبه وسطيا عامل هندي طوال حياته. يضاف إلى ذلك أن صناعة التدمير هذه تتطلب استهلاك جهد أكثر من نصف مجموع رجال العلم في العالم، بينما استهلكت ميزانية البحث في مجال التطور العسكري، ما يعادل أربعة أضعاف ميزانية البحث الطبي تقريباً في العالم، أو مبلغ ثلاثة مليارات دولار لتزويد مليار نسمة بمياه الشرب النقية. هذا إذا ما أردنا أن نضيف تلك الممارسات العدوانية التي تمارسها معظم المؤسسات المالية والاحتكارية تجاه الدول النامية والتي تأتي في مقدمتها "النوايا الحسنة" لصندوق النقد الدولي، أو صندوق البنك الدولي... إلخ. ففي عام 1982 قلصت أكبر المصارف الدولية الاحتكارية تقديم القروض للبلدان النامية، كما قلصت الشركات الفوق – قومية إلى حد كبير التوظيفات الأساسية المباشرة في بلدان آسيا وافريقيا وأمريكا اللاتينية من (14.2) مليار دولار إلى (10.7) مليار دولار عام 1986م كما هبطت أسعار النفط الخام إلى ثلاث مرات بسبب اشباع السوق بصورة مصطنعة من قبل دوائر الرأسمال المالي العالمي، وفي العام نفسه تجاوزت خسائر البلدان العربية المنتجة للنفط (100) مليار دولار.
تذكر آخر الاحصائيات المتعلقة بوضع البطالة في أوروبا بالذات نتيجة لطبيعة وآلية وحركة الرأسمال المالي عالمياً، والمتجهة عموما داخل اطار المجتمع الاستهلاكي، بأن هناك بطالة تقدر بـ(17) مليون عاطل عن العمل في القارة الأوربية، أي بنسبة 11% من مجموع السكان العاملين، وأن هناك (55) مليون نسمة من أصل (345) مليون أوروبي يعيشون تحت مستوى الفقر، وأنّ العمل الجزئي والبطالة المقنّعة يتزايدان باستمرار وهناك ما يقارب من 70% من الأعمال في السوق الأوروبية المشتركة، هي أعمال لبعض الوقت. هذا وتذكر المصادر أن قوة العمل مرغمة على العيش في حياة غير آمنة أو مستقرة. أما في وطننا العربي، فقد أكد تقرير للمجلس الاقتصادي والاجتماعي بجامعة الدول العربية، أن عدد العاطلين عن العمل في الوطن العربي بلغ (42) مليون عاطلاً حتى نهاية عام 1993.
- تأثير المجتمع الاستهلاكي على البنية النفسية للفرد والمجتمع:
ان ما توصلت إليه العلاقات الرأسمالية المعاصرة، من تدمير للبنية الاقتصادية والاجتماعية تحت شعار "المجتمع الاستهلاكي" استطاعت أن تمد جذور التدمير هذه إلى نسيج النفسية الإنسانية، وهذا أمر طبيعي، إذ أن من أبرز سمات هذا النظام في صيغته الاحتكارية، هو تذوب حرية الفرد وتشييئه. فالإنسان هنا لم يعد المقياس الذي تقاس إليه كل الأشياء، بل على العكس تماما، لقد أصبح يقاس هو نفسه من خلال تبعيته للآلة البيروقراطية في المجتمع البرجوازي المعاصر، فأمام هذه الآلة لم يصمد الحصن الأخير للشخصية ذات التفكير (الحر) في مجال الابداع الروحي الذي يشمل العلم والفلسفة والفن... إلخ فبعد سيطرة العلاقات الاحتكارية على كامل الوجود الاجتماعي للناس، راحت بدورها تسعى إلى اخضاع إرادة وإدراك الإنسان كليّة، وجعله أداة طيّعة بيدها. فقد عملت قبل كل شيء على تغيير اهتماماته، من حيّز الابداع، إلى حيّز الاستهلاك، وذلك من خلال التضييق الأقصى لامكاناته في مجال النشاط العلمي، إلى التضخيم الأقصى المصطنع لغرائزه الاستهلاكية، التي تأخذ طابع الحاجة إلى أشياء أصبحت رموزاً للثراء والسمعة الاجتماعية.
بكلمات أخرى نقول: انّ العلاقات الرأسمالية الاحتكارية راحت تؤكد وتروّج لروح الانجازات الفردية، لذلك، ومن المؤكد حتماً، أنّ التنمية القائمة في إطار هذا النموذج من العلاقات الاحتكارية، ستقوم على تقويض كل القيم الإنسانية العملية السابقة. أما أوّل تقويض تحقق في بنية المجتمع، فهو اضمحلال النظام العائلي الواسع، فالأسرة تقلّصت إلى جمع ضئيل من الكائنات الإنسانية تلتف حول شخص هو رب الأسرة، كما أن مجتمع العمل أصبح مركز التقاء استلاب ومنافسات لا حدود لها. فالقوي يأكل الضعيف، والفلاح انتزع من أرضه ليدخل المصنع تحت ضغط الكدح القاسي المباشر، والحانوت انتزع من قبل "السوبرماركت"، والصناعة الصغيرة صفعتها ريح التروست والكارتل والكونسيرسيوم، مجتمع الحرية والعدالة والمساواة الذي حددت ملامحه فلسفة عصر التنوير تحت شعار "العقد الاجتماعي"، تحول إلى مجتمع العبودية الرأسمالية، والظلم، والفقر، المتوحشين، والجلفين الخائفين والمقتلعين.
إنّ هذا الافساد رافقه أيضاً افساد للذهنية التقليدية في بنية المجتمع فالذهبية التقليدية تلك، المتمثلة بالتعاون، الحب، والألفة، والصداقة... إلخ، أفسدها المجتمع الاستهلاكي ليخلق بدلاً منها قيماً ذهنية جديدة، تعبّر أدق تعبير عن مجتمع مستلب، مخرب، مدمّر من الداخل، خارج عن القانون، أو ما يمكن تسميته "المجتمع المنعزل". الموجّه من غيره والمشكّل لمجموعة لا عضوية من الأفراد فاقدة القيمة، والذي تبرز فيه تلك الشخصية المستلبة المشيأة التي وصفها "بيير باسكالون" بأنها (نقيّة كيميائياً، ذرّة موحدة النوعية، منمذجة بلا لون، أو نتوء، فارغة، مغلقة على ذاتها، منفصلة عن الآخرين، فاقدة لروحها وماهيّتها، توجهها شعارات رخيصة، انها لا تفكر قط من نفسها تقريباً، فالجهاز الاذاعي والصحافة الرخيصة والدعاية هي التي تشكل ادراكها، والتلفاز هو الذي يشكل تاريخها).
ان انسان مجتمع (الاستهلاك) والحضارة الاستهلاكية، يبقى في المحصلة إنساناً مخدوعاً يعاني من الوحدة والسأم ويكابد كافة أنواع اللاشبع والحرمان، انّه حبيس وحدته، يعيش مجازفة مأساته الخاصة بجانب كائنات أخرى، لا يسعه معرفتها في زخم المدينة الكبيرة الضائعة من حوله، هذا وكثيرا ما تدفعه الوحدة والفراغ والسأم والغربة إلى الادمان والضياع أو إلى الانتحار.
- تأثير المجتمع الاستهلاكي على البيئة الطبيعية:
إنّ طبيعة المجتمع الاستهلاكي القائم على تأمين أكبر قدر ممكن من الحاجات الاستهلاكية المنتزعة من عضويتها الاجتماعية، رافقته بالضرورة مضادات استهلاك على مستويات متعددة الأشكال والصعد، وخاصة الطبيعية منها. فلكون النمو الانتاجي الكبير، المتعدد الأشكال والاتجاهات، والملتهم بشكل نهم قسماً كبيراً من موارد الطبيعة، معادن، أخشاب، مياه، أكسجين،... إلخ، لذلك فإن كل توسع في الانتاج سيؤدي بالضرورة إلى توسع في إستثمار الموارد الطبيعية، ومن ثمّ تعرضها للنفاد، وفي المحصلة تحقيق حالة من الخلل وعدم التوازن البيئي الذي ياتي التلوث في مقدمتها. والتلوث كمفهوم: هو افساد غير مرغوب للصفات الفيزيائية والكيميائية والبيولوجية للهواء والتربة والمياه، والذي من شأنه أن يهدد فعليا حياة الإنسان والأجناس الأخرى من الموجودات. أما التلوث الجوي، فانّه يأتي في مقدمة الخطر الأعظم على البيئة المحيطة بالإنسان، لما يرافقه من أمراض وإصابات.
إنّ تلوث الهواء يكلف الآن الولايات المتحدة أكثر من (4) مليار دولار سنوياً، وهو مبلغ يتضمن كلفة تنظيف الواجهات المسودّة بالدخان والأضرار اللاحقة بالضواحي والسطوح المعدنية بفعل الهواء المتلوث، وتذكر أيضاً بعض المصادر حول النفقات التي تصرف في هذا الاتجاه: انّ النفقات الضرورية لإعادة تصفية الهواء، مع أخذ النمو الصناعي بعين الاعتبار، قد بلغ في أمريكا نفسها خلال الفترة الممتدة حتى العام (2000) حوالي (100) مليار دولار. أما تنقية هواء لندن فتقدر كلفتها بـ(50) مليون جنيه سنوياً، تضاف إلى هذا المبلغ النفقات التي تصرف لشراء (جبري) لأجهزة تحدّ من بث مواد ملوثة، أو لمعالجة الاصابات، وتوسيع خدمات ودراسات التحليل الجوي... إلخ. أما تلوث المياه: فإن كلفة تطهير جميع الأنهار الفرنسية من التلوث على سبيل المثال، قد قدرت بـ(10) مليار فرنك فرنسي بينما كلفة محطات التطهير اللازمة حسب الخطة الخمسية الموضوعية في فرنسا فقد قدرت بـ"مليارين وستماية مليون" فرنك فرنسي، يضاف إلى ذلك نفقات الصرف الصحي. أما في أمريكا فقد قدرت الكلفة اللازمة للعملية نفسها بـ(10) مليار دولار حتى العام (2000).
أمّا ازدحام الطرقات الذي فرضته الزيادة المفرطة في وسائل النقل، فقد فرض نفقات باهظة لكل دول العالم تقريباً. وهذه النفقات تأتي دائماً في زيادة قوات الشرطة، وشارات المرور، وخدمة الاستشفاء بسبب الحوادث الناجمة عن السير... إلخ. هذا إذا ما أردنا أن نغفل التأثيرات الجانبية على حياة الإنسان وصحته، مثل اضطرابات السمع، والتهتك النفساني واختلال الجهاز العصبي، والاضطرابات النفسية... إلخ.
خلال العقود الأخيرة من القرن العشرين، راحت الاحتكارات الكبيرة تمارس على نطاق واسع ما يسمى بـ"الاستعمار الايقولوجي" عن طريق استثمار شركاتها المتعددة الجنسيات للعديد من دول العالم النامي. فتذكر بعض المصدر بأنّ المساحة المغطاة بالغابات نتيجة للاستغلال اللاإنساني لها، أخذت تتقلص سنوياً بمقدار (18-20) مليون هكتار، وأنّ القسم الأعظم من هذه الخسارة يعود إلى حصة الغابات الاستوائية الرطبة في هذه القارات الثلاث، كما تذكر المصادر بأن (40%) من الغابات الموجودة في بداية الثمانينات ستزول بحلول العام (2000).
ومن الآثار البيئية القاسية والخطرة على شعوب هذه القارات الثلاث التي ولدتها الشركات الاحتكارية أيضاً، نشوء عمليات خطرة نوعيا على "البيوسفيرا"، التي أخذت تهدد الحياة على الكرة الأرضية قاطبة من حيث تجلياتها السلبية. هذا إذا ما أغفلنا الكثير من الممارسات اللاإنسانية التي تمارسها الشركات الفوق – قومية، ضد شعوب البلدان النامية مثل تصدير الصناعات الرثّة إليها، وجعل أراضيها مقابر لبقايا النفايات النووية وغيرها.
تشير بعض المصادر إلى أن هناك مناطق ومقاطعات في البرازيل أصبح العيش فيها خطرا مثل مقاطعة (كوتابيس) التي تسمى (منطقة الموت) حيث لم يعد وجود للحياة في أنهارها الأربعة، كما أنّ الأعشاب والأشجار لم تعد تنمو، بينما السكان تفشت بينهم أمراض نفسية لم تكن معروفة من قبل، ويولد الكثير من الأطفال ومعهم أمراض وعاهات جسدية بسبب منتجات البتروكيمياء والزجاج... إلخ. إذ يجرى سنويا بث (275) طنا من الغازات السامّة.
إنّ من يطلع الآن على اللوحة الجغرافية لدول القارات الثلاث النامية ليجد تلك الصورة المحزنة لما حل بهذه اللوحة الجميلة سابقاً، حيث ساد تفتت التربة، وانتشار المستنقعات والتصحر، وخراب للأراضي الزراعية، وزيادة في ملوحة التربة، وما يرافق ذلك بالمقابل من تدمير للبيئة الاجتماعية من جوع، وفقر، وأمراض، وأمية، وجهل... إلخ، كل ذلك يعود كما قلنا إلى التطبيق العملي لتلك الصرخة التي اعلنها "ساي أنتجوا": دون حدود فكان من وراء انتاجهم اللامحدود بزوغ وتبلور المجتمع الاستهلاكي فيما بعد بكل أبعاده وتجلياته.
- مهام ووظائف أيديولوجيا الاستهلاك:
لكي يحقق ملوك المال الأهداف النهائية لمشروع مجتمعهم الاستهلاكي كان لابدّ لهم من تسخير كل وسائل الفكر المتاحة أيضاً، لابدّ لهم من أيديولوجيا تعمل على إعادة هيكلة كل العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والنفسية بما يتناسب وروحية هذا المجتمع. لذلك راح مفكرو ومنظرو المجتمع الاستهلاكي، يضعون كل امكاناتهم من أجل تطبيع الفرد على روح المجتمع الاستهلاكي واظهار الاستهلاك بأنّه المحرك الأساسي للاقتصاد. هذا وقد راحت آراؤهم تتسلل إلى مجتمعات دول العالم النامي عموماً، لتعمل على اقناع أصحاب الفرار فيها أن يحذوا الحذو الأوربي في تنمية المجتمع الاستهلاكي عندهم، إذا أرادوا أن يحققوا التطور ومجاراة الأُمم المتقدمة.
أمّا أبرز الوسائل المحققة لهذا المجتمع بالنسبة إلى دول العالم النامي، فتقوم على الاستيراد، أي، على هذه الشعوب أن توسع أسواقها الداخلية وتفتحها أمام منتجات وأموال الرأسمال الاحتكاري، موهيمن الإنسان هنا، بأن حاجاته الاستهلاكية ومطالبه الجسمانية هي التي تدفع المنتجين إلى التصنيع وليس الربح.
في نهاية بحثنا نقول: يجب على النمو أن يحقق الهدف الإنساني الأرقا، هذا الهدف الذي يضع في اعتباره صيرورة الإنسان وحاجاته الأساسية التي تؤكد انسانيته، متجاوزاً كل المفاهيم الرأسمالية المعاصرة في النمو، متجاوزاً كل قيم الاستهلاك الهادف إلى الربح فقط، هذا الاستهلاك المفصول عن عضويته الاجتماعية وصلاته بالابداع الإنساني.
يجب على النمو المعقلن، أن ينظر إلى الإنسان، كغاية لهذه الحياة ومنطلقا لها، وما الاستهلاك بالنسبة له إلا حاجة لصيرورته الإنسانية كما قلنا من قبل، لا اعتبار الإنسان نفسه حاجة لصيرورة الاستهلاك.
إنّ أهداف النمو المعقلن هذه تتطلب الآن جهوداً متعددة الاتجاهات والأطراف، وقضية المجتمع الاستهلاكي لم تعد قضية خاصة بالدول الرأسمالية فحسب، بل دخلت الآن مجال العولمة، بسبب الدور المدمر الذي تنتهجه الشركات الاحتكارية عبر العالم. ومشكلة التصدي لنهج هذه الشركات الساعية إلى نشر النمو الاستهلاكي، لم تعد مرتبطة بالحكومات وحدها بل هي مرتبطة الآن وبشكل أكثر من السابق وخاصة بعد انهيار منظومة الدول الاشتراكية وسيطرة العلاقات الاحتكارية العالمية، بكل القوى الوطنية والتقدمية ممثلة بأحزابها ومنظماتها، وعبر كل الوسائل المادية والفكرية المتاحة لها.
إنّ مشكلة التصدي لنمط المجتمع الاستهلاكي هي تصدٍّ عملي للقوى الامبريالية المعاصرة، وهي بالضرورة مهمة إنسانية تهدف إلى حماية الإنسان والعمل على مساعدته للخروج من شباك القهر والظلم والاستلاب، وادخاله ثانية عالم الإنسانية المبدعة، عالم الحرية والعدالة والمساواة.
*باحث من سورية
المصدر: مجلة المعرفة/ العدد 390 لسنة 1996
ارسال التعليق