لو تأمّل كلّ إنسان في ذاته، واستقرأ حياته وأوضاعه، لوجد أنّ أفكاراً يتبناها، وصفات نفسية وشخصية يحملها، وسلوكاً معيناً يمارسه، وأنّه يعيش ضمن وضع وقالب يؤطر حياته الشخصية والاجتماعية. والسؤال الذي يجب أن يطرحه الإنسان على نفسه هو: هل أنّه راضٍ عن الحالة التي يعيشها؟ وهل يعتبر نفسه ضمن الوضع الأفضل والأحسن؟ أم أنّه يعاني من نقاط ضعف وثغرات؟ وهل إنّ ما يحمله من أفكار وصفات وما يمارسه من سلوك شيء مفروض عليه لا يمكن تغييره أو تجاوزه؟ أم أنّه إنسان خلقه الله حرّاً ذا إرادة واختيار؟ إنّ هذه التساؤلات كامنة في نفس الإنسان، وتبحث عن فرصة للمكاشفة والتأمّل يتيحها الإنسان لنفسه، لينفتح على ذاته، وليسبر غورها، ويلامس خباياها وأعماقها. ورغم حاجة الإنسان إلى هذه المكاشفة والمراجعة، إلا أنّ أكثر الناس لا يقفون مع ذاتهم وقفة تأمل وانفتاح لأسباب، أهمها ما يلي: أوّلاً: الغرق في الانشداد الحياتية العملية، وهي كثيرة ما بين ما له قيمة وأهمية، وما بين ما هو تافه وثانوي.
ثانياً: وهو الأهم، أنّ وقفة الإنسان مع ذاته تتطلب منه اتخاذ قرارات تغييرية بشأن نفسه، وهذا ما يتهرب منه الكثيرون، كما يتهرب البعض من إجراء فحوصات طبية لجسده خوفاً من اكتشاف أمراض تلزمه الامتناع عن بعض الأكلات أو أخذ علاج معيّن.
في تعاليم الإسلام دعوة مكثفة للانفتاح على الذات ومحاسبتها، بعيداً عن الاستغراق في الاهتمامات المادية، والانشغالات الحياتية التي لا تنتهي. ورد في الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا. وعن الإمام عليّ (عليه السلام): ما أحق الإنسان أن تكون له ساعة لا يشغله عنها شاغل، يحاسب فيها نفسه، فينظر فيما اكتسب لها وعليها في ليلها ونهارها. إنّ لحظات التأمّل ومكاشفة الذات تتيح للإنسان فرصة لمراجعة أخطائه ونقاط ضعفه، وتدفعه لتطوير ذاته نحو الأفضل. يقول الإمام عليّ (عليه السلام): ثمرة المحاسبة إصلاح النفس. ويقول (عليه السلام): مَن حاسب نفسه ربح ومن غفل عنها خسر. ولعل من أهداف قيام الليل حيث ينتصب الإنسان خاشعاً أمام خالقه، وسط الظلام والسكون، إتاحة هذه الفرصة للإنسان. كذلك فإنّ عبادة الاعتكاف قد يكون من حكمتها هذا الغرض، والاعتكاف هو اللبث في المسجد بقصد العبادة لثلاثة أيام أو أكثر مع الصوم، بحيث لا يخرج من المسجد إلى لحاجة مشروعة.
لا يوجد شهر آخر يماثل شهر رمضان فهو خير شهر يقف فيه الإنسان مع نفسه متدبراً متأملاً، ففيه تتضاعف الحسنات، وتمحى السيئات كما روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وفي هذا الشهر فرصة كبرى للحصول على مغفرة الله إنّ الشقي من حرم غفران الله في هذا الشهر العظيم كما في الحديث النبوي، وفي رواية أخرى: من أدرك شهر رمضان فلم يغفر له فأبعده الله وورد أيضاً عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): فمن لم يغفر له في شهر رمضان ففي أي شهر يغفر له. وقد يغفل بعض عن أنّ حصول تلك النتائج هو بحاجة إلى توجه وسعي، فهذا الشهر ينبغي أن يشكل شهر مراجعة وتفكير وتأمل ومحاسبة للذات، إذ حينما يمتنع الإنسان في هذا الشهر الكريم عن الطعام والشراب وبقية الشهوات التي يلتصق بها يومياً، فإنّه يكون قد تخلص من تلك الانشدادات مما يعطيه فرصة للانتباه نحو ذاته ونفسه، وتأتي تلك الأجواء الروحية التي تحث عليها التعاليم الإسلامية لتحسّن من فرص الاستفادة من هذا الشهر الكريم، فصلاة الليل مثلاً فرصة حقيقية للخلوة مع الله، ولا ينبغي للمؤمن أن يفوت ساعات الليل في النوم أو الارتباطات الاجتماعية ويحرم نفسه من نصف ساعة ينفرد فيها مع ربه، بعد انتصاف الليل، وهو بداية وقت هذه الصلاة المستحبة العظيمة، وينبغي أن يخطط المؤمن لهذه الصلاة حتى تؤتي بأفضل ثمارها ونتائجها، فيؤديها وهو في نشاط وقوة، وليس مجرد إسقاط واجب أو مستحب، بل يكون غرضه منها تحقيق أهدافها قال عزّ وجلّ: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا) (الإسراء/ 79). وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): إنّ العبد إذا تخلى بسيده في جوف الليل المظلم وناجاه أثبت الله النور في قلبه... ثمّ يقول جلّ جلاله لملائكته: ملائكتي انظروا إلى عبدي فقد تخلى بي في جوف الليل المظلم والبطالون لاهون والغافلون نيام اشهدوا أني غفرت له. وقراءة القرآن الكريم التي ورد الحث عليها أكثر في هذا الشهر المبارك، فهو شهر القرآن يقول تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) (البقرة/ 185)، وفي الحديث الشريف: لكلّ شيء ربيع وربيع القرآن شهر رمضان كما ورد أنّ من تلا فيه آية كان له مثل من ختم القرآن في غيره من الشهور. هذه القراءة إنما تخدم توجه الإنسان للانفتاح على ذاته ومكاشفتها وتلمّس ثغراتها وأخطائها، لكن ذلك مشروط بالتدبر في تلاوة القرآن والاهتمام بفهم معانيه، والنظر في مدى الالتزام بأوامر القرآن ونواهيه. روي عن الإمام عليّ (عليه السلام): ألا لا خير في قراءة ليس فيها تدبر، تدبروا آيات القرآن واعتبروا به فإنّه أبلغ العبر. وإذا ما قرأ الإنسان آية من الذكر الحكيم فينبغي أن يقف متسائلاً عن موقعه مما تقوله تلك الآية، ليفسح لها المجال للتأثير في قلبه، وللتغيير في سلوكه، ورد عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: إنّ هذه القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد، قيل: يا رسول الله فما جلاؤها؟ قال: تلاوة القرآن. وبذلك يعالج الإنسان أمراض نفسه وثغرات شخصيته، فالقرآن (وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ) (يونس/ 57).
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق