من المعروف أنّ هنالك امتيازات يمتاز بها شهر رمضان على سواه من الشهور ومن هذه الامتيازات التي ذكرها الرسول الأعظم (ص) في خطبته التاريخية الجامعة: "انفتاح أبواب الجنان" و"انغلاق أبواب النيران" و"غل الشياطين". تقول الخطبة: "يا أيها الناس إنّ أبواب الجنان في هذا الشهر مفتحة فاسألوا ربّكم أن لا يغلقها عنكم، وأبواب النيران مغلقة فاسألوا ربّكم أن لا يفتحها عليكم، والشياطين مغلولة فاسألوا ربّكم أن لا يسلطها عليكم". إنّ هذه (الظروف الاستثنائية الخاصّة) المتوفرة في شهر رمضان تشكل تربة خصبة صالحة لنمو الفضائل وازدهارها في نفس الإنسان. ولهذا يطرح الرسول الرؤوف الرحيم على أبناء أُمّته برنامجاً كاملاً لبناء الذات بناءاً ربانياً قائماً على أساس التقوى ومسلحاً بسلاح الصبر. إنّ شهر رمضان شهر الثورة على الذات بكلّ ما تعنيه الثورة من هدم وبناء، هدم للصفات المذمومة وبناء للصفات المحمودة والتخلق بأخلاق الله وأخلاق رسول الله. إنّ الثورة الربانية المباركة التي يدعو إليها الرسول الأعظم (ص) في برنامجه المطروح لهذا الشهر المبارك ليست ثورة شعارات ونظريات وإنّما هي ثورة عملية تقوم في ذات المؤمن وتترسخ بالممارسة اليومية طيلة أيام الشهر الفضيل. إنّ مراجعة فاحصة لمواد البرنامج المحمّدي في شهر الله ترينا معالم الثورة النبوية الرشيدة التي يراد لنا تفجيرها في أنفسنا وفي واقعنا ونحن نعيش ضيافة الرحمن والظروف الاستثنائية الخاصّة لشهره الكريم العظيم: نطالع من مواد البرنامج.. الدعاء وهو مخ العبادة وسلاح المؤمن. تلاوة القرآن وهو الهادي للتي هي أقوم. الصيام وهو لجام للشهوات وفطام للنفس. تحسين الخلق وهو أساس الفلاح في الدارين. التصدق على الفقراء والمساكين وهو عيش لهموم الآخرين من أبناء الأُمّة. وتوقير الكبار وهو ارتباط ودّي بجيل التجارب للأخذ عنهم، ورحمة الصغار وهم أمانة في أعناقنا ورجال المستقبل، ومن لا يَرْحَم لا يُرحَم، وصلة الأرحام وهي خطوة ضرورية لوحدة المجتمع المسلم. وحفظ الألسن وغض الأبصار والاسماع عن الحرام وهو حفظ للطاقات من أن تهدر في غير محلها. التحنن على الأيتام وهو زرع للمحبة بين أبناء الجسد الواحد وقيام بواجب التكافل الاجتماعي. التوبة إلى الله وهي محو للماضي البئيس وبدء لحياة جديدة بغير قد. الصلاة وهي نور في القلب ونور في الحياة وسلاح في الملمات. إنّ هذه المفردات في البرنامج المحمّدي في شهر رمضان تؤكد بما لا مجال للريب أنّ شهر الله هو شهر العطاء والعمل وليس شهر التهاون والكسل. وأفضل الناس هو المؤمن العامل يقول القرآن العظيم: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) (البينة/ 7)، ويقول أمير المؤمنين (ع) في منهجه العظيم: "لا نسبن الإسلام نسبة لم ينسبها أحد قبلي، الإسلام هو التسليم، والتسليم هو اليقين، واليقين هو التصديق، والتصديق هو الإقرار، والإقرار هو الأداء، والأداء هو العمل". ومعنى هذا أنّ الإسلام هو العمل والصوم جزء وأساس من كيان الإسلام وهو دعوة صريحة واضحة لعمل الصالحات. يقول حديث شريف "مَن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه"، ويقول آخر: "افعلوا الخير ولا تحقروا منه شيئاً فإنّ صغيره كبير وقليله كثير" ولهذا يدعونا الرسول الأعظم في برنامجه الرمضاني إلى ممارسة فعل الخير مهما كان صغيراً ليكون هذا داعياً وباعثاً إلى القيام بكبار الأعمال، يقول النبي الأكرم (ص): "أيها الناس مَن فطّر منكم صائماً مؤمناً في هذا الشهر كان له بذلك عند الله عتق رقبه ومغفرة لما مضى من ذنوبه، قيل يا رسول الله: فليس كلّنا نقدر على ذلك. فقال (ص): اتقوا النار ولو بشق تمره، اتقوا النار ولو بشربة من ماء". ومن هذا يظهر إنّ منهج الله يدعو إلى ممارسة العطاء مهما كان قليلاً صغيراً حتى لو كان بحجم شق تمرة وشربه ماء لأنّ هذا العطاء الصغيرة القليل سيكون عادة متأصلة في النفس وتجره إلى العطاء الكبير الكثير وهو الهدف الذي يبتغيه الإسلام العظيم هدف بناء إنسان العطاء والبذل حتى إذا تعرّض المنهج الحقّ إلى الخطر قدم نفسه بسخاء فداء لأنّ العطاء أصبح جزء من وجوده.
يجود بالنفس إن ضنّ الجواد بها *** والجود بالنفس أقصى غاية الجود
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق