• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

صيام رمضان فريضة أوّلاً

د. عمر فروخ

صيام رمضان فريضة أوّلاً

     إنّ صيام رمضان هو الركن الرابع من أركان الإسلام الخمسة. فصيام شهر رمضان في ذاته فريضة في المكان الأوّل. ثمّ إن لهذه الفريضة – بعد الإعتبار الديني الفقهي – جوانب يحسن بالمسلم أنّ يوليها إعتباراً ثانوياً.

1-     الجانب الطبيعي:

    العادة الغالبة في أيامنا، وفي جميع أنحاء العالم، أنّ الناس يتناولون ثلاث وجبات من الطعام في كل يوم وليلة. فتعوّد الجهاز الهضمي في البشر أن يعمل على أنّه يستقبل في ثلاثة أوقات معيّنة من كل يوم ثلاثة وجبات من الطعام.

    وهنالك نفر قليلون قد عوّدوا أنفسهم وجبتين من الطعام في كل يوم، كما أن ثمة نفراً من الناس قد قصروا طعامهم – لضرورة صحيّة أو لنزعة صوفية – على وجبة واحدة ي كل يوم. في جميع هذه الأحوال يتعوّد الجهاز الهضمي العمل المناسب لكل حالة. من أجل ذلك يحسن بالإنسان أن يتجنّب "إدخال الطعام على الطعام" (أكل شيء جديد قبل هضم القديم) أو الأكل بين الوجبات.

    فما صلة هذا الجانب الطبيعي بالصيام في الإسلام؟

    هنالك نفر من المسلمين يحبّون أن "يبالغوا في التقوى"، فمنهم من "يصوم الهلة" (يصوم شهر رجب وشهر شعبان ثمّ يتبعهما بشهر رمضان)، مع أنّ الله تعالى قد فرض على المسلمين صيام شهر رمضان ديناً، ومن المسلمين من يصوم "كلّ" يوم اثنين و"كل" يوم خميس من كل أسبوع. وهنالك نفر أحبوا زيادة في المبالغة في التقوى أن يصوموا الدهر كله. ان من هؤلاء من كان في أيام الرسول واستشار الرسول في ذلك، فقال له الرسول (ص)، أن يصوم يوماً ويفطر يوماً، إذا كان يريد أن يصوم أكبر قدر من أيام السنة. وسبب ذلك، من الناحية الطبيعية، انّ الجهاز الهضمي إذا تعوّد الصيام الدائم، أصبح هذا الصيام – من الناحية الطبيعية – كالإفطار، ولم يبق للصيام في شهر رمضان "فضل" على الصيام في الأشهر الأحد عشر. من أجل ذلك لم يرض رسول الله، (ص)، لذلك الرجل الذي أراد التطرّف في التقوى أن يصوم الدهر كلّه، فأمره أن يصوم يوماً ويفطر، إذا لم يكن بدّ من اصراره على صيام أكبر قدر من أيام السنة الفلكية.

2-     الجانب الإجتماعي:

    لشهر رمضان في الإسلام جانب إجتماعي واضح الأثر في التربية الإنسانية. أنّ المسلم يأكل في شهر رمضان مرّتين: يستعد للصيام بالأكل قبل الفجر ثمّ يعوّض ما فاته من الطعام بوجبة رئيسة بعد غياب الشمس. ويحسن أن تكون هذه الوجبة على دفعتين متقاربتين: إفطاراً (بتمرة أو بقدر يسير الحساء الساخن) بعد غياب الشمس مباشرة. ثمّ تأتي الوجبة الأساسية بعد عشر دقائق أو بعد ربع ساعة.

    أمّا القيمة الإجتماعية المقصودة هنا فهي إجتماع أهل البيت على المائدة مرّتين في كل يوم في هذه الأيام التي فرّقت فيها طبيعة العمل بين أفراد "الأسرة" كثيراً أو قليلاً.

    هذا اللقاء على مائدة واحدة ستين مرّة في شهر واحد يدعو أهل البيت الواحد إلى مثل هذا اللقاء في أيام الأشهر الباقية إذ هو يكشف لهم عن السرور الذي يتمّ لهم في الأكل معاً. فإنّ الأكل معاً يزيد في الألفة بين أفراد الاكلين، ولو لم يكونوا أقارب.

    وهنالك أمور أخرى في هذا الجانب الإجتماعي من الزكاة والتزاور والرحمة وأخراج الفطرة وختم الصيام بالعيد.

   3- الجانب النفسي:

    إنّ في شهر رمضان تربية نفسية واضحة ثمينة. انّ الذين يدخّنون ثمّ يدعون أنّهم لا يستطيعون ترك التدخين، نراهم يتركون التدخين في أثناء صيامهم اليومي، فإذا غابت الشمس دخّنوا قبل أن يأكلوا أو بعد أن يأكلوا. وأدل من ذلك على التربية النفسية انّ الذين يشربون الخمر يتركون شرب الخمر في جميع أيام رمضان تركاً تاماً.

    وهنالك أمثلة على التربية النفسية الخاصة بشهر رمضان أقرب إلى الحياة من التدخين وشرب الخمر. هنالك الشهوة إلى الطعام.

    من الناس نفر تعوّدوا تناول الطعام في أوقات معينة يحافظون عليها. فترى أحد هؤلاء إذا حل وقت غذائه (في الساعة الأولى بعد الظهر) شعر بجوع شديد يمنعه في العادة من القيام بكل عمل قبل أن يتناول طعام غذائه (وهذا دليل على صحة الجهاز الهضمي). أمّا في رمضان فإنّ هذا الفرد لا يشعر بمثل ذلك: انّه في أثناء نهاره، لا يشعر بجوع ولا يشعر بعطش، وذلك لإقناعه بأنّه لا فائدة من الشعور بذلك، ما دام هو "لن يأكل ولو شعر بالجوع".

    4- الجانب الروحي:

    إنّ الصيام في الإسلام ليس إمتناعاً عن الطعام والشراب فقط، إنّ فيه عنصراً روحياً واضحياً حينما يصوم المسلم عن المفطرات المادية ويتسع الوقت أمامه بشيء من الراحة التي يقتضيها الصيام مع قليل من الإحساس بالجوع يلتفت الصائم إلى نفسه فيحاورها في أمور كثيرة. هذا الحوار الهادئ – البعيد عن ضجيج العالم المادي والمنافسات الشخصية وتكاليف الحياة، في برهة قصيرة من الزمن – يتيح للمسلم المفكر أبواباً من المعرفة بنفسه وبما حوله. في هذه البرهة الوجيزة تتبدّى له حقائق من الحياة لا يمكن أن تتبدّى وهو منهمك في قضاياه المألوفة في حياته اليومية.

    إن قضايا الحياة ليست كلها على مستوى واحد من القيمة ولا هي على درجة واحدة من النفع للإنسان. إنّ عدداً كبيراً من القضايا التي تكون للإنسان في مقتبل العمر تفقد، مع التقدّم في السن، كثيراً من قيمتها، أو تفقد قيمتها السابقة كلها. لا شك في أنّ المال، مثلاً – والناس يحبون التحدث عن المال، أن لم يستطيعوا الحصول على المال – يكسب الإنسان قوة في معظم مواقفه. ولكن المال لا يجعل الإنسان سعيداً إلا إذا أحسن "القيام عليه" (أي إذا أحسن إنفاقه، بانفاقه في وجوهه المطلوبة). ومثل ذلك القوة البدنية والجاه في البلدة والعلم في الذاكرة.

    في الأيام العادية لا يستطيع الإنسان أن يفكر في أبعد من الإستخدام الآني لرؤوس أمواله (من الدراهم والصحة والشهوة والمعرفة). أمّا في رمضان فإنّ المسلم يجد للتفكير مجالاً أوسع وامعان نظر أوفى وتمييزاً للنفع الحقيقي من النفع الظاهر أكثر دقة.

    هذا الجو الروحي الذي يضفيه شهر رمضان على المسلم المؤمن هو الذي يفتح الباب أمام الحضارة الإنسانية السامية. إنّ الدول الكبرى التي تتنافس في تطوير أسلحتها التقليدية وأسلحتها المعقّدة تفعل ذلك لأنّها لا تستطيع أن تفكر في غمرة خوفها المسيطر عليها إلا في إطار السلام الذي يؤدي إلى تهديم الحضارة. ولو انّ السياسيين في البلاد الكبيرة – وفي البلاد الصغيرة أيضاً – منحوا أنفسهم فرصة للتفكير الهادئ لاستطاعوا أن يحافظوا على السلام العالمي بغير تلك الوسائل التي لا تؤدي إلا إلى الزيادة في أمثال تلك الوسائل.

    إنّ هذا الجو الروحي الذي يأتي من شهر رمضان في كل عام، لا يقتصر أثره على الفرد بعد الفرد، ولكنه يعمّ الجماعات أيضاً. فعسى أن يدرك جميع المسلمين ما في شهر رمضان من وجوه الخير، وأن يصوم جميع المسلمين، إلى جانب الصوم الشرعي، صوماً إجتماعياً وصوماً نفسيّاً وصوماً روحياً. كم نرجو ألاّ يكون صوم رمضان عند نفر من المسلمين جوعاً وظمأ فقط.

ارسال التعليق

Top