• ٣ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

ظاهرة التعوّق بين الحقوق والعدالة الاجتماعية

د. حسن عباس حسن*

ظاهرة التعوّق بين الحقوق والعدالة الاجتماعية
◄التعوّق إفراز طبيعي من إفرازات المجتمع. ومن الطبيعي أن يتحمَّل المجتمع أية سلبيات تخص المعوَّق. فإن كان التعوّق بالولادة، فإن لذلك أسباباً، منها ما هو مرتبط بالوالدين بصورة مباشرة وبالمجتمع بصورة غير مباشرة أو العكس، أما الإصابات التي تحدث في حياة الفرد الطبيعي والتي تؤدي به إلى التعوق فلا يمكننا أن نعزلها كلياً عن المجتمع، إن لم يكن للمجتمع دخل مباشر في ذلك. لذلك فإنّ المجتمع لابدّ وأن يتحمل قسطاً كبيراً من مؤثرات هذا التعوّق وأن يساهم في التخفيف عن الأعباء التي وقعت على المعوّق، والتي يعيشها يومياً وهو يعاني صنوف الحرمان. إنّ ظروف الحرمان التي يعيشها المعوّق في مواضع من حياته بسبب تعوّقه لابدّ وأن تجعل منه عنصراً مظلوماً في المجتمع، وإنّ هذه الحالة لابدّ وأن تنعكس على سلوكه العام وبالتالي حصول نوع من الخلل في موازنة السعادة التي ينبغي أن ينعم بها كل مواطن في البلد وأن يعيشها حاضراً ومستقبلاً. لذلك فإن على الدولة وعلى كل أبناء الشعب المساهمة في سد هذا الخلل بأداء مناسب، خاصة وإن ظاهرة التعوّق يتعرض لها أيّ فرد في حياته، مهما كانت ظروفه الصحية وسلامته. فالموازنة في الحياة العامة للأفراد في إطار المجتمع ضرورية، هذه الموازنة لابدّ وان تتم في حالة حصول خلل في حياة الأفراد وخاصة المعوَّقين. ومن البديهي إنّ الدولة تتكفل بجانب كبير من ذلك، لأنها مصدر الموازنة العامة في حياة الأفراد. هذه الموازنة يمكن أن تتم باضافة أيّة قيمة مادية أو معنوية في حياة المعوَّق. وان كانت للفرد الطبيعي على الدولة والناس حقوق فإنّ للمعوَّق عليهم حقوقاً وعطفاً، مع الإشارة إلى انّ هذا العطف ينبغي أن يتجرد من أي منٍّ أو أذى، والا فإنّه سينقلب إلى ضده. من البديهي إنّ للتعوق آثاراً كبيرة في حياة الفرد تساعد كلها على وضعه في زاوية ضيقة من المجتمع، وتفرض عليه نوعاً من خيبة واحباط ويأس أحياناً، والتي تساعد كلها على عزله عن المجتمع، ويعني ذلك ظلماً كبيراً بحق عنصر من عناصر هذا المجتمع، وقد لا يكون للمعوّق أيّ دخل في تعوّقه ناهيك عن امكانية مشاركة اصحاء من هذا المجتمع في إيجاد حالة التعوّق هذه. وهنا نكرر أيضاً أنّ ظاهرة التعوّق ليست خاصة بفئة معينة من المجتمع يجب أن ترضخ لها وإنما هي ظاهرة يتعرَّض لها أي إنسان في حياته، والحياة حبلى بالكثير من الحوادث التي لابدّ وان تفرز معوَّقين باستمرار.

ولو أردنا تلافي هذه الظاهرة والتي تطال هذه الفئة من أفراد المجتمع والتي فرض القدر عليها ذلك، علينا أن نعمل على وضع الأنظمة والقوانين التي تساعد على ترميم مايمكن ترميمه في حياة المعاقين جسمياً ونفسياً واجتماعياً ومعيشياً، وضمان ممارستهم الحياة بصورة طبيعية، على أنّ يتضمن ذلك حملات ومناهج إعلامية منظمة متواصلة لشرح الحقائق المتعلقة بحياتهم وعلاقاتهم بالاصحاء، وبالواقع الكلي للإنسان لإزالة الكثير من الحواجز التي يسببها الجهل والتهور والغرور من قبل الأصحاء والتي تؤدي إلى تكريس ظاهرة العزل الاجتماعي والظروف النفسية المريرة التي يعيشها المعوق نتيجة تعوقه ونظرة الآخريين السلبية له.

إنّ التركيز الأساسي لأية اصابة تواجه الفرد يقتصر غالباً على الجسم. إذ يتم النظر إلى المعوق على اعتباره الشخص الذي لا يقدر على الحركة أو الأداء السليم كلياً وجزئياً وفي أي عضو من أعضاء جسمه، في حين أنّ الإنسان يتألف من عدة جوانب: 1-    الجسم. 2-    العقل. 3-    النفس. 4-    الروح. فقد يكون الجسم سليماً ولكنّ في العقل تعوقاً، أو في النفس أو الروح. التركيز ينبغي أن ينصبّ على الجسد ككل، ويتم حصر المشاكل التي تقع على أي جانب من جوانبه، وبالتالي التعريف بالواقع الفعلي للفرد في جوانبه المختلفة، وكل مظاهر القوة والضعف التي تتصف بها كل تلك الجوانب، والتي تحدد المحصلة النهائية لوجهي الصحة والتعويق فيه. وبمعنى آخر، علاج جوانب العلة وإبراز جوانب الصحة والقوة فيه، في محاولة لسد الخلل في الموازنة في إطار شخصيته العامة. فقد يكون الفرد على درجة من القوة الفكرية أو النفسية أو الروحية، بحيث تغطّي أيَّ تعويق يصيب جسده. إنّ الاهتمام الأكبر بالمعوَّق يتم في إطار وضعه الجسدي بصورة عامة، ومن منطلق عطف وعبرة، ولمساعدته في ممارسته لحياته اليومية بدون معاناة أو ألم، أو التخفيف منها جهد الإمكان ودون الاهتمام بالكشف عن امكانياته وطاقاته ومواهبه، والتي يمكن أن تبرز بصورة لافتة للنظرة بالدافع الذاتي لإثبات الوجود، بسبب التعوّق ومما يشعر به من قصور وضعف ونزول، وكذلك لتخلصه من أوهام دنيوية كثيرة، قد تلازم الفرد السليم طوال حياته، وتمنعه من تحديد مسيرته عبر الحياة بجدية، والالتزام بالقناعة والتي هي كنز لا يفنى. فالتعوّق الجسدي عامل مهم من عوامل تنمية العقل والممارسات التي تترتب على أعمال العقل، وفي هذه الحالة ينبغي الاهتمام بالمعوّق وتوفير ما يحتاجه من امكانات تساعده على هذه النتيجة، وبغير ذلك قد ينعكس عليه هذا التعوّق الجسدي، ويولّد أمراضاً نفسية له، ومن الأفضل أن يتم هذا في حياة المعوّق وليس بعد وفاته. إنّ أمثال طه حسين (وغيره من المعوقين) ليس ببعيد عنا. فعندما يغيبون عن الأنظار لم تبرز ألا جوانب القوة الفكرية أو النفسية أو الروحية فيهم. دون أن ننسى أن المعوَّق، كعنصر من العناصر الخارجية من تحت أضواء المجتمع، يرى الآخرين على الطبيعة بدون ميكاج. لذلك فإنّ التعامل مع المعوّقين له خصوصيات معينة تختلف بعض الشيء عن التعامل مع الأصحاء. فالمعوق شخص مريض إن لم يكن جسمياً فنفسياً. لذلك فإنّ الدول المتقدمة – بفضل علمائها واخصائييها ومقررات الحقوق العامة التي يتمتع بها كل فرد، وحرية الرأي المكفولة للجميع – توصّلت إلى مفردات تغطي الكثير من مؤثرات الخلل الذي اختص به المعوَّق، فكانت القوانين والأنظمة والمساعدات والمنح. ويظهر من خريطة الميزانية العامة أن للمعوق نصيباً مقبولاً في مجمل الصرف العام. ولكن هنالك علامة استفهام كبيرة – أحياناً – على العناصر التي تتولى تسيير بعض الاجراءات من غير ذوي الاختصاص، والذين قد يفسدون الكثير من تلك الخطط والمناهج الرائدة أو يخرجونها إلى حيز الواقع بدون حياة وبدون روح. وأرى إن تجنب مثل هذه الظاهرة قد يتم بأخذ النقاط التالية بنظر الاعتبار: 1-    وضع الشخص المناسب في المكان المناسب، فالإداري يختص بالأمور الإدارية، والمتخصص الصحي في الأمور الصحية، والمتخصص الاجتماعي في الأمور الاجتماعية والمتخصص العقلي في الأمور العقلية وهكذا... 2-    عدم السماح اطلاقاً لغير ذوي الاختلاص بالتدخل في شؤون المعوَّق، وان كانت لهم أيّة آراء أو اقتراحات، فإن عليهم طرحها على ذوي الخبرة والاختصاص، وأن يتم إنجازها عن طريق ذوي الخبرة والاختصاص، والا فليسكتوا كلياً. وذلك لأن أي تدخل منهم مهما صغير قد يجر المعوَّق إلى ويلات وعقد نفسية وكلها بعيدة عن المنهج العلمي الصحيح، الخاص بهذه المسألة، والذي ستكون من أولى نتائجه تبديد جانب كبير من ثروات الأُمّة، والاضرار عن قصد أو غير قصد بأطراف كثيرة، وعلى رأسها المعوق نفسه. 3-    إعطاء قدر كبير من حرية الأداء لذوي الاختصاص، الصحيين والنفسيين الاجتماعيين وغيرهم، في دراساتهم لحالات المعوقين وتوصياتهم. 4-    الاهتمام بالأداء وبالنوعية أكثر من الكمية، فالجود من الموجود، وانّ المعوق ليس بمقدوره أداء أكثر مما يؤدي بسبب ارتباطه بطبيعة تعوقه. 5-    معايشة المعوّق للوصول إلى كوامنه وواقعه وتطلعاته، ومن ثمّ العمل على تحقيقها جهد الامكان. فالمعايشة الطبيعية، وبناءً على أسس علمية، ووقاً للتقاليد الاجتماعية العامة، والاعراف المحلية، ذات أهمية كبيرة في تفهم الواقع الفعلي للمعوَّق، الذي يساعد الباحث والمسؤول كثيراً في المساهمة في تسيير حياة المعوَّق بصورة صحيحة. 6-    تمكين المعوَّق من تمثيل قدراته ومواهبه، وعدم الركون إلى ما أصابه من الخلل الذي أضفى عليه طابع التعوق، في التقليل من شأنه وشأن مواهبه وقدراته. 7-    إنّ التعامل مع المعوّقين لابدّ وان يقترن بفلسفة، وبغير ذلك، سيخلو من المعالم الإيجابية الكثيرة. 8-    التأكد من حسن سير العمل فيما يخص المعوّقين من المعوقّين أنفسهم. إذ انّ الكثير مما يتم طرحه في تقارير المسؤولين يأتي من وجهة نظر الموظفين المسؤولين والدوائر المسؤولة والتي قد تكون مزوّقة وغير متطابقة مع الواقع الفعلي. 9-    وهنالك نقطة مهمة ينبغي الإشارة إليها وهي انّ العنصر من العوامل الخطيرة والمضرة في المتعامل مع المعوَّقين لذلك ينبغي التخلي عنها كلياً ان وجدت، فالمعوّقون كلهم أمة واحدة.►   *باحث اسلامي راحل، أستاذ في جامعة وهران بالجزائر

ارسال التعليق

Top