• ٢٥ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٦ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

ظاهرة العشوائيات السكنية: مَن المسؤول؟

جميل عودة

ظاهرة العشوائيات السكنية: مَن المسؤول؟

يُشكل موضوع (العشوائيات) السكنية أهميّة بالغة الخطورة، لدى العديد من الدول والشعوب؛ والمنظمات الإنسانية، لاسيّما دول العالم الثالث. وذلك لكونه يتعلق بأزمة السكن التي تعصف بالكثير من الفئات الاجتماعية الهشة، كمحدودي الدخل، والفقراء، والمشردين، والعاطلين عن العمل، والنازحين، واللاجئين، وغيرهم من الفئات الاجتماعية التي لا تقدر على توفير سكنا لها، هذا من جهة أولى.

ولكون موضوع (العشوائيات) أصبح يتعلق بالأمن القومي والوطني للدول والشعوب في المناطق التي تستحوذ عليها هذه العشوائيات، بسبب ما يحصل في هذه المناطق من مخالفات قانونية خطيرة، مثل: المخدرات، والقتل، والسرقات، والتهريب، واستخدام السلاح غير المرخص، وغيرها من الجرائم التي تمس بأمن المواطنين، ناهيك عن انتشار مظاهر الفقر، والأُمية، والمرض وغيرها في أغلب التجمعات العشوائية، من جهة ثانية.

هذا بالإضافة إلى أنّ موضوع العشوائيات له علاقة وثيقة الصلة بالنظافة والبيئة والصحّة العامّة، لما يمكن أن تخلفه مباني العشوائيات من مظاهر سلبية تؤثر مباشرة على البيئة، والجمال، والصحّة، والمياه، مثل تردي البيئة الطبيعية، وقلة الفراغات الحضرية، والساحات الخضراء، والتلوث، وتشوه المشهد الحضري، من جهة ثالثة.

علاوة على ذلك؛ فإنّ المنظمات الدولية والوطنية الإنسانية هي الأُخرى تعنى بموضوع العشوائيات، والسكن العشوائي، فهي تنظر إلى العشوائيات من منظار حقوق الإنسان والكرامة الإنسانية التي ينبغي توفيرها لسكان العشوائيات، مثل: توفير السكن اللائق، والتعليم، والصحّة، والمساواة الاجتماعية والقانونية والقضائية مع السكان الآخرين ممّن يعيشون في المدن أو القرى المقامة على وفق القوانين والأنظمة المعمول بها، من جهة رابعة.

فما هي (العشوائيات)؟ وما هي أسبابها؟ وما هي آثارها على النظام العام والمجتمعات المحلية؟ وكيف يمكن حلها بشكل يؤدِّي إلى إعمال القوانين والأنظمة، بما يعزز احترام النظام والقانون العام من جهة، ويرعى قوانين حقوق الإنسان من جهة أُخرى؟

تُعرّف (العشوائيات) أنّها: (المناطق السكنية غير المنتظمة، التي بنيت - في الغالب- من دون ترخيص من الجهات الرسمية، وتفتقر لأبسط مقومات الحياة الكريمة) وقد تُعرف أنّها (المباني المُقامة بلا تخطيط أو نظام، خارج نطاق خطط التنمية السكانية للحكومة، وغالباً ما تفتقر إلى بعض الخدمات الأساسية).

ويُعرّف المعهد العربي لإنماء المدن، الأحياء العشوائية أنّها: (مناطق أُقيمت مساكنها بدون ترخيص، وفي أراضي تملكها الدولة، أو يملكها آخرون، وغالباً ما تُقام هذه المساكن خارج نطاق الخدمات الحكومية لعدم اعتراف الدولة بها).

وعلى أساس هذه التعريفات يمكن القول: إنّ الإسكان العشوائي يقوم بتخطيطه وتشيده الأهالي بأنفُسهم، على الأراضي الزراعية، والصحراوية، أو أراضي الدولة، وغالباً ما تكون هذه الأراضي على أطراف المدينة، وهي غير مخططة، وغير خاضعة للتنظيم، ولا يسمح بالبناء عليها. وهي عبارة عن بيوت صغيرة أو أكواخ تُبنى من الآجر، أو الخشب، أو الصفيح، أو الطين، وأحياناً باستخدام الأقمشة البالية والكارتون. وتأخذ عادة شكل تجمعات متلاصقة من العشش المتراصة بجانب بعضها في اتجاه طولي.

ونتيجة لذلك؛ كان من الطبيعي أن تكون هذه المناطق محرومة بشكل كلّي أو جزئي من أنواع المرافق والخدمات الأساسية من مياه وكهرباء، بل ليس بها نقطة شرطة أو مركز صحّي، أو مدرسة أو مواصلات، ولا تستطيع أن تمر بها عربة إسعاف أو سيارة مطافئ، ونتيجة لهذا الحرمان من الحد الأدنى للمعيشة انتشرت بين سكان هذه المناطق الأمراض المستوطنة، وتفشي الجهل، وسادت الأُمية، وانتشرت حوادث السرقة والسطو، وظهرت بها الفئة الخارجة عن القانون.

وقد تطوّر الأمر - كما في العراق - إلى قيام المواطنين بالاستحواذ على مناطق واسعة من الأراضي الزراعية والصحراوية، وفي جمع المحافظات منها العاصمة بغداد، وتحويلها إلى مدن كبيرة، وبيوت بمساحات مختلفة، بعضها مبني على الطراز الحديث، يضاهي مباني المناطق السكنية القانونية، لأنّ ساكنيها من الطبقات الميسورة، وبعضها مبني بطريقة بسيطة وعشوائية، لأنّ ساكنيها من الطبقات الفقيرة، وبعضها مخدوم، وبعضها غير مخدوم. وفي العادة يتوّلى أهل المناطق العشوائية توفير حاجاتهم الأساسية من الخدمات العامّة بأنفُسهم، بعيداً عن الدولة الرسمية، مع الاستعانة ببعض موظفي المؤسّسات ذات العلاقة، مقابل أجور وهدايا تدفع لهم، تحت العباءة.

وفي الحقيقة لا يرغب عموم الناس بالعيش في العشوائيات، سواء بصفة مؤقتة أو دائمة إلّا مضطرين، لأسباب مختلفة منها تحوّل مناطقهم إلى ساحة للاقتتال الداخلي والحروب الخارجية، ومنها تهدُّم بيوتهم نتيجة لحدوث بعض الكوارث الطبيعية، مثل: السيول أو الزلازل، أو الأعاصير. ومنها الهجرة من الريف إلى المدينة للبحث عن فرص العمل. ومنها الفقر ومحدودية الدخل، وعدم القدرة على العيش في المدن، وارتفاع إيجارات المنازل.

ومنها ضعف النظام السياسي والقانوني ممّا يتيح للأفراد أن يبحثوا عن مناطق تؤمن لهم سكناً إضافياً أو سبباً في ممارسة التجارة المشروعة وغير المشروعة. بالإضافة إلى ارتفاع معدل الزيادة الطبيعية للسكان وضعف التخطيط العمراني، حيث عجزت الكثير من دول العالم الثالث - على الرغم من الوفرة المالية المتحققة لها في السنوات الحالية بسبب ارتفاع أسعار البترول - من توفير سكن لائق لشرائح واسعة من المجتمع تتصف بضعف دخلها.

كذلك من الأسباب التي أدّت إلى انتشار ظاهرة العشوائيات هي التصاميم الأساسية غير مكتملة للمدن، والتأخر في إكمال مشاريع الخدمات، وتنفيذ الشوارع، وزراعة المناطق الخضراء، ممّا أدّى إلى ترك مساحات فارغة سهل التجاوز عليها، واستغلالها خلاف للضوابط والقوانين.

في الواقع؛ كانت ومازالت المناطق العشوائية السكنية بالتحديد هي محط جدل كبير ليس على المستوى الوطني، وحسب، بل على المستولى الدولي، لاسيّما الأُمم المتحدّة والمنظمات الدولية التي تعنى بالسكن، والمنظمات الإنسانية التي تعنى بمجال حقوق الإنسان وحرّياته الأساسية.

هذا فضلاً عن الرؤية الدينية القائمة على أساس حرّية الإنسان في البناء والعمارة، حيث يقول الفقيه الشيرازي الآتي: (فمن شاء أن يعمر الأرض بأية كيفية كانت، كان له ذلك، فإنّ للإنسان في ظل حكم الإسلام أن يتخذ ما شاء من الأرض المباحة، وأن يبني فيها ما يريد من بيت أو محل أو معمل أو مسجد أو حسينية أو مدرسة أو مستوصف أو مستشفى أو ما أشبه ذلك بكلِّ حرّية، ولا رسوم على العمارة إطلاقاً، ولا يحقّ للدولة أن تأخذ منه، ولو فلساً واحداً للأرض أو غيرها فقد قرر الإسلام: «مَن أحيى أرضاً مواتاً فهي له» إلّا إذا كانت الأرض مفتوحة عنوة فعلى العامر الأجرة للدولة. وإذا طبق هذا الحكم في الأرض والعمران كان كفيلاً بسد حاجات الناس في المسكن وارتفاع أزمة السكن الشائعة في كلّ بلاد المسلمين).

إذ ليس ثمة شكّ أنّ الدولة بمؤسّساتها كافة مسؤولة عن حماية مواطنيها، وتوفير الأمن والأمان لهم، ولا أمن ولا أمان لهم إلّا بوجود سكن للائق لكلِّ مواطن، فمن استطاع فبها، ومَن لم يستطع؛ فالدولة ملزمة من الناحية الدستورية والقانونية بتوفير السكن لهم، ولو في حده الأدنى، بما يوفر له حياة كريمة ومستقرة.

وليس ثمة شكّ أيضاً أنّ الدولة بمؤسّساتها كافة مسؤولة عن المحافظة على البيئة والعمران والحضارة، وتطبيق القوانين والأنظمة، فهي من تتحمّل بالدرجة الأُولى مسؤولة الحدّ من التجاوزات على أملاك الآخرين، فسواء أكانت الأملاك المتجاوز عليها عامّة أو خاصّة، فإنّ مثل هذه التجاوزات مخالفة قانونية، ينبغي أن تتصدّى لها أجهزة الدولة التنفيذية، وتحدّ منها، كما أنّ من مسؤولية أي سلطة توفير بيئة آمنة للسكان المحليين، للعيش بهدوء وسلام، والتصدّي للجرائم والمحاسبة عليها، وعليه فإنّ أي تجمعات سكانية تُقام بطريقة غير قانونية وغير حضارية وغير نظامية، يتوجب التصدّي لها لاسيّما أنّها ستكون مرتعاً للجريمة، ومأوى للعمليات الإرهابية، وعنواناً من عناوين الفوضى، ومظهراً للفقر والجهل والأُمية والمرض...

وبناءً على ما تقدّم فإنّ أي دولة تكثر فيها العشوائيات، فإنّها ملزمة بالعمل بالاتجاهين:

1- ينبغي لها أن تضع خططاً إستراتيجية، قصيرة الأمد ومتوسطة وطويلة؛ لتوفير السكن لمواطنيها، كحاجة أساسية ملحة، لا يجب التفريط بها، ولا تأخيرها، ولا تأجيلها، فالدولة من جانب مسؤولة بشكل مباشر عن توفير السكن اللائق لمواطنيها، ولا يجب أن تتنصل من هذه المسؤولية البتة. والدولة من جانب آخر مسؤولة عن العمران والحضارة والبيئة والجمال، وهي مهمّة لا تقل أهميّة عن الأُولى.

2- ينبغي لها أن تحدّ، وبشكل عاجل من ظاهرة تكاثر العشوائيات السكنية أو التجارية أو الصناعية، لأنّها عنوان من عناوين الفوضى والتخلف والحرمان التي يجب أن تقف فوراً، وإلّا ستتحوّل المدن وجوارها إلى مناطق يصعب العيش الإنساني فيها كونها مناطق خارج سيطرة النظام والقانون، بل قد تتحكم بالنظام والقانون بأشكال مختلفة مثل قوّة هذه المناطق في التحكم بالانتخابات، وقوّتها في رفض تطبيق القانون عليها. وقوّتها في نشر أعمال الشغب التي تحدث بسبب المشاجرات بين العوائل، وقوّتها في التهرب من الضرائب والرسوم.

وفي كلِّ الأحوال لابدّ للسلطات في الدول التي يكثر فيها السكن العشوائي أن تحافظ أوّلاً على مبدأ حقّ المواطن في السكن، وهذا يجري إمّا بتمليكهم المناطق التي سكنوا فيها على وتأهيلها مثل الأحياء السكنية القانونية على وفق القوانين والأنظمة المعمول بها في كلِّ دول، وذلك إذا ما كانت هذه المناطق لا تؤثر على الخطط العمرانية والحضارية والبيئة للمناطق المتجاوز عليها. وإمّا إقامة مجمعات سكنية لسكان العشوائيات تمنح لهم بموجب قروض ميسرة من المصارف الحكومية، أو عن طريق دفع بدلات إخلاء لساكنين هذه المناطق ثمّ العمل فوراً على إزالتها بما يضمن الحفاظ على عناصر المشهد الحضري للمدينة، وبما يساعد على وجود بيئة صحّية، وحضرية، ونظيفة. وإلّا فالمجتمع سائر نحو الفوضى.

ارسال التعليق

Top