• ١٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

عازف البيانو

ليلى عساف

عازف البيانو

اخلعوا الباب، أبعدوا الأولاد ليذهبوا للِّعب في الساحة، هذه ليست فرجة الأطفال، صمت. يطلق أحدهم طلقته في اتجاه باب حديدي مُغلَق، كان يظهر دائماً كصخرة قليلة النَّواتئ، مادام ضوء البلدية لم ينطفئ في الخارج.. لم نسمع قرقعة الدعامات الثلاث التي كانت تئنّ وتخرّ كلما فُتح أو أغلق، وسمعنا فقط خفقة أخيرة لمزلاج ثقيل منحوت على شكل قبضة كف عنيدة. تَنفّس الرجل المغتاظ في لحظة سكت فيها الجميع، وسمعنا صوت الزِّيزان تكتسح العتبة التي تُزحزح بلاطها. الكثير منها كان مقلوباً على بطنه في ضوء شمس الظهيرة، تماماً كتلك النشوة التي راحت ترتفع مع هواء بحر مُجاور، طعمه شبيه بماء عينين صامتتين لجارة قديمة، تحاول أن تشرح للجميع عن طيبة ساكني هذا البيت الذين هجرُوه.

شاهدنا الكنبة المجاورة كما شاهدنا طاولة الخشب الطويلة مع صحون فيها بقايا طعام بائت، الستائر الشاحبة كانت في حالة انتظار تحت نسيج عنكبوت، شاهدنا الشرفة المقوّسة المزدانة بأُصص قرنفل وياسمين يابسة، ماكينة الخياطة وقد انتهكها غبار كثيف. المروحة في الزاوية، قفص الببغاء المعلّق في أعلى النافذة، بداخله جثة طائر مُتعفّن في ذلك الهواء الممزوج برائحة عُفونة وتَخمُّر بقاياه. نظرت إلى البيانو القابع وسط غرفة الجلوس، يُباغتني حنين إلى تلك النظرة لذلك الصوت وتلك الرائحة. فتحوا الخزانة و"الجوارير"، فتّشوا في كلّ زاوية. لكنهم لم يجدوا أي سلاح ولا أي ورقة أو وثيقة تحمل أسراراً خطيرة كما زعموا. هناك في أسفل الصندوق كانت لفافات ساقيه وعصاه القديمة. كان أكبر سنّاً من كلّ رجال الحارة، كان عيسى أقصد "صامت الدار". يقولون إنّهم كلّ يوم سبت كانوا يسمعون صوت عزف بيانون يتصاعد، وإنّهم يرون ظِلالاً عبر النوافذ المطلة على البحر، والتي تُركت نصف مفتوحة لم يتجرأ أحد على الاقتراب، سمعوا جَلَبة وتأوّهات. تَخيّلوا أشباحاً قاموا بالعديد من التخمينات، روى أحد الصيادين: "لقد رأيت يداً تلوح من وراء النافذة"، "سمعنا قرقعة زجاج يتحطم". "إنّها الريح" أردف آخَر وهو أمر يمكن أن يحدث في بيت مهجور. هل شعر أحدهم بأنني مُكبَّلة تتلاطم فيها أمواج جائعة وأنني لست حيث أنا؟ ما زلت أجمع تفاصيل لحظة تقفز معي كلما كبرت، كيف أحببت عازف البيانو. مع أنّها أحبته من غير أن تتكلم معه كثيراً، لكنها مزقت رسائله في ليلة سقط فيها العديد من القتلى والجرحى، تلمحه في كلّ زاوية من هذا المكان ولا تعثر عليه أبداً، لقد أنبت بداخلي سمكة مياه البحر لا تكفيها، شُموس كثيرة يوم قرأت كلماته توهّجت في عينيها، حين التقينا في المرة الأولى اقترب منّي وسألني:

هل أساعدك بشيء:

"يعني أنا أنتقي هدية لأمي بمناسبة عيد الأم، أتريدين وروداً؟.. لا.

هل تعبت من الورود؟ الولدة تدفعك إلى ربيع نمضي إليه دائماً لو أحببناه، احملني إليه أيها البحر كي أطلق صرختي في وجهه.

"أنتِ فتاة رومانسية" كنت أعرف أنّ الحب هو الأصل "لا تدخلي كثيراً في الشيء كي لا يتملكك"، الوطن يعني البقاء على قيد الحياة، إننا نملكه أو لا نملكه "تائهة كلما لمحت قارباً حسبته إشارة منه". الآن أنا أرسم قدري مطمئنةً، كان يعزف لحني، في حضوره أشرق، السماء صافية هذا الصباح، لِمَ أنتَ بعيد؟ ما مِن كبسة زر تُعيدك إليّ. لماذا لا تطول أعمارنا أسوة بعُمر النبيّ نوح (ع)؟ رفعت عينيها ورأت صباحاً حمله نوارس بيضاء، تقف على حافة رصيف الميناء وكأنها تلوح له.

كلّ يوم أقف أمام نافذة بيتنا المطلة على البحر، أنتظر شيئاً لا أجد له اسماً. أشعر بأنّه خنجر أو سماء، كأنني أبحر داخل غابة واسعة. لن أترك أغصاني تضيع في زحام أشجارها، لأنّ الجهات واحدة في التِّيه، موجة تجعلك أكثر انتباهاً، كثيرة هي الأحلام داخلها، كأنها تخاريم صمت يملأ قلبك بالرؤى، يفلتك من مسامير، حيث لا زوايا ولا جدران. كلّ الحواس في تألق وانتظار شيء لم تبلغه بعد، خلفها عدد لا يحصى من ثقوب تحفرها حرب لعينة، لاحت أكثر من عشرين عاماً، وتبقى عينها مُثابرة في بحثها عن بئر خبّأتها يوماً في صحراء قلبها.

لن أقول لكم ماذا سوف أشبه، ما زلت كحُبيبة ملح، على الرغم من صغرها تشير إلى عظمة الخالق سبحانه، في قلبي حياة تجرحنا كلّ ثانية، ضياؤها يترك لنا الكثير من أسرارها، قارب أنا في قلب بحر خلفته عواصف كثيرة، يحدث مرات أن أنجو، أعيش حياتي كالمعتاد.

أكنس البيت، أزرع الأزهار في أصص صغيرة تصطف عند بابي. أحضر طعام الغداء، أقلي لحماً أو بيضاً أو حتى أطبخ سبانخ بمرق الدجاج. كما أنني أقرأ قصائد حُب وأدع الذين يحملون البنادق يُصوّبون نحو أهدافهم، آخذةً في اعتباري المسافة والريح التي تجعلهم يصوّبون أعلى أو أدنى قليلاً، كثيرة هي الذكريات التي ما زالت تحلّق فوق رأسي، أرسمها أحياناً على شكل سنديانة كثيفة الأغصان، تقودني رائحة أوراقها إلى خطى عتيقة تنزل في عروقي لتنأى، مثل حبات المطر التي تلمع خفيفاً في عيني. كان بالأمس هنا، رأيته، تعارفنا، قبلني قبلة سريعة كالعصافير الهاربة من برد الشتاء، واختفى، أصحو كالبحر أراه من فوق سطح بيتنا القديم يعبُر الزاروب، من دون أن يلتفت يحمل حقيبة صغيرة، ها هو يغادر الحارة في الصباح ثمّ يعود في المساء، عرفت بعد ذلك أنّه يعمل محاسباً في شركة يقضي أيام العطلة في الكنيسة، الملاصقة لحارتنا (حارة البحر)، أو أحياناً كثيرة يقف ليساعد بائع الهدايا في دكانه الواقع على جانب الكنيسة. جميع أهل الحارة يحبونه يحترمونه يستضيفونه بحفاوة بالغة، هذا يسكب له فنجان قهوته الساخنة، وهذا يستمع لآخر نكاته وأحاديثه البعيدة عن السياسة.

.. لقاؤنا الأوّل كان مُصادفة في دكّان بائع الهدايا، تعارفنا وكانت أحاديث. وقعت محفظتي، فسارع إلى التقاطها ثمّ أعادها إليّ بابتسامة، كما في دعاية رأيتها يوماً في التلفزيون، التقت نظراتنا وتعانقت نبضاتنا. لم أكن أعرف أنّه هو الابن الأكبر للخالة "أم إيزاك" التي كنا نزورها أيام الأعياد، وخاصة يوم سبت عيد الفطر عندهم (يوم السبت بالتحديد). "السبت يوم جميل" نذهب لزيارتهم. تدفق الموسيقى في كلّ أرجاء البيت، أخته "مليكة" تعزف البيانو.. و"كذلك "إيزام" يعزف كثير حلو لما يجي بتسموا عزفه وبتتعرفوا عليه" قالت مليكة. إذن هو ابن الخالة أم إيزاك. كان ينظر إليّ ويبتسم. كان منزلهم الملاصق لبيت خالتي يضم ثلاث غرف واسعة ذات سقف مرتفع ونوافذ كبيرة، كانت "أم إيزاك" تعمل خياطة، وقد أضافت لمسات جمالية داخل الصالون: لوحات "كانفاس" شغل يدها، مُطرَّزات عُلّقت على الجدران، شرشف من الكروشيه يغطي بيانو أسود كبيراً وسط الصالون، فوقه ورود وتحف مختلفة، كان صالونهم مفتوحاً على سطحية تطل على الميناء مباشرة، بدأ يعزف أغنية فيروز: "حبّيتك بالصَّيف حبيتك بالشِّتى" وراحت الموسيقى تتدفق في المكان الفسيح بدفء وحنان، أهداني كتاباً بداخله رسالة هذه كلمات لي وحدي. ذاك الفتى ملك عليَّ فؤادي، لدرجة أن وجهي كان يحمرّ عندما يتحدثون عنه. أنا من عائلة محافظة تحرم على البنات الحب، نعيش أنا وعائلتي المكونة من أب وأم وخمسة إخوة وأخوات، في بيت متواضع، تلقّيت علومي حتى المرحلة الثانوية. أحببته في سرّي، كان يُزوّدني بشُعاع منه بعد كل لقاء، لقاءاتنا كانت عابرة وبريئة. وكنت مع ذلك أذوب من رأسي حتى أخمص قدميّ كلما رأيته، أنا ابنة السابعة عشرة من العمر، حين عبّرت يوماً عن جمال سطيحة بيتهم المكتظة بالفل والياسمين والقرنفل. قال: طأنتِ أكبر الورود تألقاً وجمالاً". هربت بعيني صوب البحر، لم يكن هناك "موبايل" ولا إنترنت.

 

*جزء من قصّة أطول

ارسال التعليق

Top